في آخر أعماله «حليم» الذي جسد حياة المطرب المصري الأشهر عبد الحليم حافظ
اخترقت جملة موحية أسماع مشاهدي الفيلم أو إعلاناته التليفزيونية، «أسطورة
يجسدها أسطورة»، كانت الجملة صادقة إلى حد كبير، فعقب ثلاثة عقود من الفن
والتشابك مع الحياة دخل أحمد زكي (النجم الأسمر) بجدارة ملتقى أساطير الفن
في مصر برفقة أم كلثوم وسيد درويش وعبد الحليم حافظ.
دلالات الأسطورة ظاهرة بمقاييس كثيرة، بمعيار الفن صار قالباً تقاس عليه
المواهب، واعتبرت أفلامه وثائق حية وتأريخاً صادقاً لآلام وآمال وأفراح
وإحباطات أجيال متعاقبة.. وبمعيار الحب، كان الالتفاف الشعبي حوله في محنة
مرضه استثنائياً، إلى حد تعرض مشفاه إلى سيل من المكالمات الهاتفية تعطلت
معها شبكة الاتصالات، وامتلأت طرقاتها بجبال من الزهور وبطاقات الحب ثم
خرجت الآلاف تودعه إلى مثواه الأخير، وبقيت سيرته محط اهتمام الميديا بكل
أنواعها، بشكل تحول معها الأسبوع الأخير من مارس (آذار)، الذي شهد وفاة عبد
الحليم في اليوم الواحد والثلاثين، إلى أسبوع للآلام.
57 عاماً قضاها أحمد زكي في الدنيا، بدأت بميلاده عام 1948 في الزقازيق،
وانتهت بموته في 27 مارس عام 2005 بوفاته في دار الفؤاد بمحافظة 6 أكتوبر،
محطات كثيرة توقف عندها زكي أسهمت بشكل غير مباشر في صنع أسطورته، لم تكن
قدرته الفذة على التقمص وتمكنه من مهارات الأداء كافيين وحدهما لصنع
الأسطورة، فهناك روافد عديدة، بعضها حياتي ومجتمعي، مست أوتار القلب لدى
المصريين فتوحدوا معه.
عاش زكي يتيماً منذ عامه الأول، تزوجت أمه وهو بعد جنين، وتولته جدته لأمه،
فكان الشرخ الأول، لم ير والدته إلا بعد بلوغه السابعة، وقتها قبلته سريعاً
وانطلقت إلى بيت زوجها وتركته يصارع آلام اليتم وصقيع التفكك الأسري. تذكر
هذا المشهد على الدوام، قضى طفولة مليئة بتفاصيل تراجيديا إنسانية مكتملة،
رغم حرصه على الهدوء ومراقبة تصرفات الناس، واستغرق في نوبات الصمت الطويلة
لتجنب أكبر قدر من الاحتكاكات والمشاعر السلبية، إلا أن أبرز ما أثر فيه أن
كان الثاني دائماً، يتفوق في دراسته ويسبق أقرانه، لكن ذلك لم يشفع له أن
يصعد للمرتبة الأولى في بيت أقاربه، افتقد ابتهاج الأم وفخر الأب وارتضى
بقبلة مجاملة يطبعها على جبينه خاله أو زوجته، وهو يتمنى أن يسبقه ابنه، أو
ابتسامة صادقة من الأقارب إعجاباً بتقليده أفراد الأسرة في ساعات السمر.
استمرت المآسي تطارد زكي حتى بعد أن انتشله الفن من قضبان اليتم، فبعد
تفوقه في أكاديمية الفنون أسند إليه الدكتور رشاد رشدي دوراً مهماً في
مسرحية «القاهرة بألف وجه»، واعترض الفنان سعيد أبو بكر على وجوده في
المسرحية، وكادت فرصة العمر تضيع لولا تمسك رشدي به بعد مداولات شاقة، وهو
ما تكرر مرة أخرى في فيلم «الكرنك»، عندما رفض ممدوح الليثي مشاركته لسعاد
حسني بطولة الفيلم، ولعب الدور الذي أداه نور الشريف بدعوى عدم وسامته،
خاصة أن سعاد حسني تميمة الجمال في ذلك الوقت تحتاج لنجم «جان»، وقتها أمسك
بكوب الماء وظل يضغط عليه بعنف وهو لا يدري حتى قطع شرايين يده، وأشيع أنه
حاول الانتحار.
استطاع زكي أن يغير من ملامح البطل النمطي للسينما المصرية، نصب نفسه
أميراً للقلوب وهو أسمر اللون، أشعث الشعر، نحيف الجسم، عيناه منكسرتان
بثقل اليتم.
لم تتوقف مآسي زكي التي قربته من الناس، حتى بعد أن استقر على عرش
النجومية، بداية من فشل مشروع زواجه من النجمة هالة فؤاد حتى وفاتها،
وإصراره على العيش وحيداً حتى لا يهمل ابنه هيثم، قضى سنواته ما بين
الاستوديوهات وحجرات الفنادق، متفرغاً لفنه، مختلطاً بالناس، حتى كانت
المأساة الأخيرة بعد إصابته بسرطان الرئة وموته بعد عام من المعاناة.
إذا كانت مآسي أحمد زكي قد مست قلوب جمهوره، وساعدت على دخوله قلوبهم، فهي
بالطبع لم تصنع منه نجماً، وإلا كان المرضى والفقراء واليتامى هم «سوبر
ستار» كل العصور، كانت اختيارات أحمد زكي قد شكلت بذاتها ملمحاً مهماً من
ملامح خلود نجوميته، بدأ حياته السينمائية بأدوار صغيرة كـ«أبناء الصمت»
و«الرصاصة لا تزال في جيبي»، ثم خطا خطوات مهمة في «الباطنية» متفوقاً على
أستاذين كبيرين هما محمود ياسين وفريد شوقي، وحقق له مسلسل «الأيام» الذي
حكى سيرة حياة عميد الأدب العربي طه حسين انتشاراً غير مسبوق، كما دشن نفسه
بطلا أول مع سعاد حسني في «شفيقة ومتولي»، حقق مرحلة الانتشار إذن
والتواجد، وجاءت مرحلة الاختيار، وفي اختياره اعترف أحمد زكي بميله إلى
معادلة مربحة لكل الأطراف طوال مشواره الذي حفل بـ 58 فيلماً، فاختار
أعمالا للتاريخ والفن وأخرى للسوق ليتمكن من إتمام مشروعه السينمائي دون أن
يغفل مفردات السوق، فكان «البيه البواب» و«أبو الدهب»، و«سواق الهانم»،
و«البطل»، و«كابوريا»، و«مستر كاراتيه» للسوق.
أما «البريء» و«الهروب» و«زوجة رجل مهم» و«السادات» و«الحب فوق هضبة الهرم»
و«أرض الخوف» و«المدمن»، و«ضد الحكومة»، و«أنا لا أكذب ولكني أتجمل»،
و«اضحك الصورة تطلع حلوة» فكانت للتاريخ، وإن لم تخذل السوق أحياناً.
كان أحمد زكي باختياراته التي راهن بها على البقاء، يداوي جروح الناس ويسلط
الضوء على همومهم، مشتبكاً مع الساسة والفاسدين وقيم المجتمع السلبية، أو
يبلغ مرحلة مذهلة من الأداء التمثيلي شكلت رافداً ثالثاً استثنائياً من
روافد الأسطورة، وهي القدرات التي شدد عليها عمر الشريف، مثلا، بقوله إنه
لولا عواقب اللغة لكان أحمد زكي من كبار نجوم هوليوود.
كان زكي يقرأ كثيراً، وينصت أكثر، ثم يتوحد مع تفاصيل صغيرة في ملامح
الشخصية تخرجه عن النمطية، ولذلك من الممكن أن يقدم شخصية متكررة بتفاصيل
مختلفة مثلما أدى دور ضابط الشرطة المصاب بجنون العظمة في «زوجة رجل مهم»،
ثم الضابط الطامح للمثالية الناقم على الواقع في «الباشا»، أو الضابط
المزروع بين تجار المخدرات يمارس البلطجة ويقع صريعاً لقضية فلسفية معقدة
حول أساس الفضيلة هل هو القانون أم الضمير، في «أرض الخوف» وبالمثل قدم
شخصية المحامي أكثر من مرة دون أي ملمح تشابه.
توَحد زكي مع فنه، إلى ما يقرب الجنون، تمرد على الماكياج وتغلغل داخل
شخصياته العديدة، وتشرب من صفاتها إلى درجة الهوس، (أثناء تصويره فيلم
السادات أمسك بتلابيب المخرج محمد خان وصرخ في وجهه هاعتقلك)، يكفي مشهد
مشيته في مشوار العودة لأول مرة بعد التجنيد في فيلم «البريء» أو مشهد
الاعتداء على الفكهاني في «زوجة رجل مهم» أو كل مشاهد «أرض الخوف»، نسي
الجمهور شخصية أحمد زكي الحقيقية وأعادوا البحث عنها في تفاصيل أعماله، كان
أكثر ما آلمه اتهامه بأنه مجرد مونولوجست يقلد المشاهير عندما قلد عبد
الناصر والسادات، وكان رده الحزين أنا أتغلغل إلى الشخصية ولا مانع من أداء
تفاصيلها الخارجية من صوت وصورة طالما أستطيع ذلك، وكان النجاح الفني
والجماهيري أصدق دليل على صدق ما قاله.
كان زكي جريئاً لحد مخيف، ففي فيلم «عيون لا تنام» حمل أنبوبة مشتعلة، ودخل
ثلاجة الموتى في فيلم «موعد على العشاء»، ومع الأداء المذهل لسعاد حسني
لمشهد اكتشافها موته نسيه الجميع داخل الثلاجة وسط رائحة «الفورمالين»
وبقايا الموتى لربع الساعة منهمكين في التصفيق والإشادة بسعاد. كما ألقى
بنفسه من سيارة مسرعة في «طائر على الطريق»، وقص شعره بطريقة غريبة في فيلم
«كابوريا»، ثم ما لبثت أن تحولت تسريحة الشعر إلى موضة تحمل نفس الاسم.
لكن الجرأة تحلى بها كثيرون (محمود عبد العزيز مثلا ظهر في فيلم «الدنيا
على جناح يمامة» والأكل يتساقط من فمه بشكل مقزز)، والاختيارات الموفقة
كانت من نصيب فنانين عديدين والمآسي والعقبات عرقلت نجوماً كثيرين، لكن
أبرز ما تركه أحمد زكي شبهه بالناس، فهو ابن الغلابة الذي لم تغيره
النجومية، لم يسكن قصراً، أو رد سائلا، عصبي مباشر في انفعالاته، كاره لـ «اللوع»،
كريم بشهادة كل من قابله صدفة في كافيتريا هيلتون رمسيس وأصر على أن يدفع
ثمن العشاء دون أن يعرفه، عرفوا عنه عدم تقبله للنقد، ونوبات الغضب
العاصفة، والتفوا حوله في مرضه، وصرخوا بعد موته أمام مسجد مصطفى محمود «عايزين
نصلي عليه».
الشرق الأوسط في
03/04/2009 |