هل تذكرون انقلاب 20 تموز (يوليو) 1944 على هتلر؟ الخطة كانت تقضي باغتيال
الفوهرر والسيطرة على برلين وجهاز المخابرات. لكن هتلر لم يمت ووزير دعايته
غوبلز لم ينتحر كما كان مقدراً أن يفعل. الخطة وما بعدها هي موضوع فيلم «فالكيري»
وتوم كروز يلعب فيه دور البطولة.
عانى الألمان طويلا من عقدة الفاشية، ومن اتهام العالم لهم باحتضانها،
وانتمائهم المطلق لها ولزعيمها هتلر، وعلى وجه الخصوص خلال فترة الحرب
العالمية الثانية، وشروع قواتهم العسكرية في احتلال مناطق واسعة من العالم،
مخلفة وراءها الويلات والدمار. ظلت هذه العقدة ملازمة لهم، حتى بعد مرور
أكثر من نصف قرن على دحر الفاشية، وتحول ألمانيا الى دولة ديمقراطية.
فذاكرة الشعوب بقيت محتفظة بصورة الألماني المقرون بالنازي والحاضن ولادة
أكثر الحركات شراسة وعنفا في التاريخ الحديث. وكان من جراء هذا التعميم
والحكم المسبق ان تجاهل الناس وجود حركات ألمانية مناهضة للنازية، تناسوا
معارضة بعض كبار ضباط جيشها سياسة هتلر العسكرية، ومحاولاتهم المتكررة
للتخلص منه. واليوم وبعد أكثر من نصف قرن تحاول السينما عبر فيلم «فالكيري»،
المأخوذ عن قصة حقيقية، إنصاف بعض هؤلاء الضباط ومؤيديهم من مدنيين
وعسكريين، الذين ضحوا بحياتهم من أجل تحسين صورة بلادهم، وعدم قرن أسمائهم
بالنازية البغيضة.
اسم «فالكيري» أطلقه هتلر على خطة دفاعية وضعها بنفسه، قوامها نخبة من
قواته الخاصة، تتلقى أوامرها منه مباشرة، وتكون في حالة طوارئ دائمة.
مهمتها؛ التدخل الفوري لإحباط أي محاولة للانقلاب على نظامه، والإجهاز على
منفذيها بأكبر قدر من الشراسة والعنف. كان الضابط والاستراتيجي كلاوس فون
ستاوفنبرغ (الممثل توم كروز) واحد من المطلعين عليها وأيضا واحد من
المعارضين لسياسة هتلر العسكرية على وجه الخصوص. كان ستاوفنبرغ من الضباط
الموثوق بهم، والمكلف بمهام صعبة في معاركهم مع الحلفاء في شمال أفريقيا.
وبينما كان يرى نتائج خطط هتلر الفاشلة هناك، كان يخطط للتخلص من قائده.
المعارك الحربية في صحراء تونس وإصابته أثناءها بقذيفة طائرة أفقدته إحدى
عينيه وبترت ذراعه، زادت من نقمته لكنها في الوقت نفسه عززت مركزه لدى
القيادة العسكرية، عبر مشاهد الحرب ترتسم أمامنا شخصية هذا الضابط العنيد
الذي لم يخف حماسته لاغتيال هتلر أمام أحد كبار قيادييه، وإقناعه بتنفيذ
خطة سريعة يستغل فيها زيارة سريعة لهتلر الى تلك المناطق. ولسوء الحظ تفشل
خطته. بعدها ينقلنا المخرج بريان سنغر، الى مركز القيادة العسكرية في برلين
حيث يتولى ستاوفنبرغ مهامه الجديدة. في مركز القيادة سينظم متأخرا الى
مجموعة من الضباط المعارضين. محاولته الأولى في الصحراء مهدت له الطريق الى
المجموعة التي كان هدفها الأول اغتيال هتلر، لكن الضابط الجديد ينجح في
إقناعهم بتجاوز هذا الهدف الى السيطرة على برلين ومركز المخابرات (أس أس).
أي القيام بانقلاب على هتلر ونظامه، اذ لم يعد مجديا، حسب رأيه، بعد
الخسائر التي كان يمنى به الجيش النازي في نهاية الحرب، التخلص من شخص
القائد، لأن الأمر تعداه لتغيير النظام بأكمله والعمل على وقف الحرب.
انقلاب 20 تموز
يبدأ الشد العصبي مع التصعيد الدرامي السريع، لمشاهد كسب عناصر جديدة من
الجيش الى المجموعة، ومع البحث عن أفضل خبراء المتفجرات لوضع قنبلة موقوتة
أثناء حضور هتلر أحد اجتماعات القيادة كما تقتضي خطة فالكيري المعدلة، أو
كما سميت تاريخيا «انقلاب 20 تموز 1944». والتعديل جاء بعد مقترحات أقنع
ستاوفنبرغ، بصفته استراتيجيا عسكريا، هتلر شخصيا بها. ومن خلالها صار
الكولونيل يعرف بكل تفاصيلها وإمكانية تنفيذها بنفسه. مع هذا التصعيد يكشف
الشريط خللا في بنائه الدرامي، يتمثل في الشعور بأن الجزء الأول كان طويلا،
بل لم يكن له ضرورة درامية، إذا قبلنا بفكرة ان يبدأ الشريط من هذه الحركة،
وهي فكرة مقبولة بمجريات أحداثه وتطورها. فالتصعيد والإثارة كانتا شرطين
أساسيين لشد الجمهور الى متابعة حدث يعرف نهايته جيدا. ونهاية هتلر لم تأتِ
على يد مجموعة عسكرية ولم يقم ضده انقلاب، بل يرجح، وهذا ما اتفق عليه معظم
المؤرخين، بأنه انتحر مع عشيقته (ايفا) في مكان مجهول. وعليه فإن المشاهد
يعرف ان الخطة ستفشل، ما دام الفيلم مبنياً على قصة حقيقية. وكي نتابعه كان
من المهم ان يزداد التوتر فيه، وتزداد معه نسبة الأدرنالين في رؤوس
المشاهدين. وهذا ما وفق فيه مخرجه، حين أحدث نوعا من التصعيد عبر العمل على
مستويين دراميين: الأول؛ تنفيذ ستاوفنبرغ خطته. لقد وضع بنفسه، أثناء حضوره
لاجتماع مع هتلر، حقيبة فيها قنبلة موقوتة، انفجرت بعد خروجه من الغرفة
بقليل. فاقتنع، ومن دون أدنى شك، ان هتلر قد مات. فراح يمضي في تنفيذ بقية
أجزاء خطته المتمثلة في السيطرة على برلين وجهاز المخابرات، عبر دعوة
منتسبيها لتنفيذ خطة فالكيري، بحجة ان انقلابا قد تم وأن هتلر قتل، وما
عليهم الآن سوى تنفيذ خطة الطوارئ. في الساعات الأولى كان كل شيء يجري على
ما يرام. سيطر المعارضون على أجزاء كبيرة من برلين، وعلى مراكز المخابرات
وقوات الحماية. لكن مسارا آخر كان يجري في اتجاه معاكس. هتلر لم يمت في
الانفجار، ووزير دعايته «غوبلز» لم ينتحر كما كان مخططا لنفسه حال إعلان
موت قائده، لقد تغيرت الخطة، بل فشلت. والمأساوي فيها ان ستاوفنبرغ ورفاقه
لم يكونوا على علم بهذا كله، فكانوا يذهبون الى حتفهم أمام أعيننا. في هذا
الجزء يرتفع مستوى الشريط كله لينقل لنا، بصريا، اللحظات العصيبة التي
عاشها الضباط المعارضون لهتلر وكيف تلقوا مصيرهم بشجاعة تمثلت في مواجهة
ستاوفنبرغ جلاديه، حين وقف مرفوع الرأس أمام فوهات بنادقهم وعيناه في
عيونهم، هاتفا باسم بلاده ومجدها. يبقى فالكيري، على أي حال، محاولة لأنصاف
أبطال مجهولين في تاريخ الأمة الألمانية، مع ما فيه من مبالغة في حجمهم
وسرعة انضمامهم الى الحركات العسكرية المعارضة، والذين بدوا لنا في بعض
المشاهد وكأنهم يقبلون دعوات لحضور حفلات ساهرة وليس لمواجهة طاغية ونظام
فاشي لا يرحم. هذا إذا نسينا طبعا، ان فالكيري فيلم هوليوودي في آخر
المطاف.
الأسبوعية العراقية في
29/03/2009 |