حين أنجز "بين الجدران"، الحائز "السعفة الذهب" في
الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ، كان لوران كانتيه يريد فيلماً
يصخب بالواقعية، عن
مجريات حياة تلامذة في ثانوية فرنسية. وكان يريد لحوادث الفيلم الاّ تخرج
اطلاقاً
من حرم الصفّ والمؤسسة التعليمية. في ظلّ ازدياد عدد الذين يتكلمون عن
المدرسة
باعتبارها "معبداً"، كان هو يريد أن يريها مكاناً تتجلى فيه
على نحو ملموس مسائل
مثل المساواة وعدم توزيع الحظوظ بنسب متعادلة، وأيضاً أن يكون شريطاً يحكي
عن العمل
والسلطة والاندماج الثقافي والاجتماعي في عهد ساركوزي. من دون ان ننسى
الاقصاء الذي
كانت عرضة له أجيال كاملة من المهاجرين الوافدين الى فرنسا بحثاً عن شروط
أفضل
للعيش.
لدى صدور فيلمه "في اتجاه الجنوب" التقى كانتيه الكاتب واستاذ الثانوية
فرنسوا بيغودو الذي كان صدر له انذاك في المكتبات كتاب "بين
الجدران"، لفته فيه
الخطاب الذي يتضمنه. فوجد كانتيه أن شخصية الاستاذ في الرواية، لم يتعمد
الكاتب
تقديمها على أنها تريد تصفية حساباته مع مراهقين. هؤلاء المراهقون أيضاً لم
يتم
اقتراحهم في النصّ بصفتهم حمقى.
من كاتب قصة تحول بيغودو بطلاً لاقتباسها
السينمائي. فاختصر أوجهاً عدّة لاستاذ، هي اوجه كان كانتيه يسعى الى تخيلها
في
فيلمه. لكن حافز الكتاب الاول والاخير كان أن يوثق عاماً دراسياً كاملاً،
مستمداً
الهامه من التجارب اليومية. لم يرغب كانتيه في جعل الخط السردي
في الفيلم ظاهراً
للعيان فوراً، فعمل على أن ترتسم ملامح الشخصيات تدريجاً. فالفيلم هو قبل
كل شيء
يوميات تلامذة في صفّ. انه لقاء من 24 شخصاً لم يختر أيٌّ منهم الآخر،
لكنهم مجبرون
على البقاء معاً، وعليهم التعايش كذلك وفق أفضل الشروط، على
مدار عام كامل وبين
جدران أربعة. في البداية، لا يبدو احد التلامذة البارزين الذي يدعى سليمان
الاّ
تلميذاً، مثل سائر التلامذة، في هذا الصفّ، ولا شيء يميزه البتة، بيد انه،
بعد نحو
ساعة، ثمة قصة تحاك من حوله، ويتكرس سليمان بطلها ومحورها.
في خلال كتابة
السيناريو، تدخل بيغودو بصفة "حارس الواقع". كان يدرك أن ثمة مشاهد في النص
قد تكون
سليمة سردياً وبنيوياً، لكنها كانت تبدو غير محتملة في واقع الحياة
المدرسية. أولى
المدارس التي دخلها الفريق للاستكشاف كانت مدرسة فرنسواز دولتو
في الدائرة العشرين
لباريس. منذ البدء بدت المدرسة مثالية، كمصدر للوحي والالهام، وربما أكثر.
من هذه
المدرسة اختار كانتيه التلامذة الذين نراهم في الفيلم. كلهم شبّوا وتتلمذوا
في
دولتو. أما الاساتذة والمعلمون، فمارسوا مهنتهم في هذه المدرسة
ايضاً. كذلك الامر
بالنسبة الى اهالي التلامذة في الفيلم: هؤلاء أهاليهم في الحياة الحقيقية!
بدأ
كانتيه العمل مع المراهقين في مطلع شهر تشرين الثاني 2006، ودام حتى نهاية
العام
الدراسي. ارتدى التصوير طابع المحترف. "كل يوم اربعاء"، يقول المخرج، "كنا
نجتمع
بعد الظهر، برفقة التلامذة الذين كانوا يرغبون بذلك". نحو 50 تلميذاً، في
المحصلة.
الباقي كانوا قد توقفوا عن المجيء من تلقاء ذاتهم. من أصل هؤلاء الخمسين،
نرى في
الفيلم 24 تلميذاً. تدريجاً، تحول الفيلم الى "مشروع صفّ" دراسي مكتمل
النصاب. لم
يبخل كانتيه بوقته، فكرّسه في سبيل تعميق صداقاته وفهمه لشلة التلامذة هذه.
هذا
التواصل عزز تضاريس الشخصيات وحدد ملامحها. لكن الاهم من هذا
كله، أن كانتيه لم يرد
فيلماً شفهياً، أو نسخة يسارية لـ"جمعية الشعراء الراحلين"، مع جرعة اضافية
من
الهمّ الاجتماعي الذي تتسم به أعماله. بيد أنه ربح كل التحديات والرهانات،
وصار
الاول في صفّه، في صفّ مهرجان كانّ، وأيضاً في صفّ السينما
الفرنسية.
لكانتيه
أيضاً تقنية فريدة تتيح له العبور من العام الى الخاص والتأرجح بينهما. واذ
بقصة
حميمية تأخذ أبعاداً شمولية. وهذا يجمع كل أفلامه. فما يهمه
أكثر من غيره هو
العلاقة بين الداخلي والشخصي والاجتماعي. وكثيراً ما نراه يحاول تشجيع
المشاهد
ليتمثل بالشخصية التي تعيش وتموت أمامه على الشاشة، ذاهباً دوماً من
منطلقات
انسانية، ومن شخصيات أعطي لها ما تطلبه من وقت لتعيش وتظهر كل
تناقضاتها.
•
في
المدرسة، حيث تجري حوادث الفيلم، يتبدى جلياً كل ما يحصل في المجتمع،
ولكنها أيضاً
مكان يُصنع فيه المجتمع.
ـــ هذا ما دفعني بدءاً إلى إنجاز الفيلم. فكلنا مررنا
من هنا، وتعلّمنا فيها أشياء كثيرة. وليس فقط القواعد أو الرياضيات. فهذا
مكان شرّع
لي الآفاق. المدرسة ضرورية لتوازن المجتمع، وليكون المواطنون قادرين لاحقاً
على
تحديد مكانهم في العالم. المدرسة تفيد في ذلك. مشاهد الفيلم هي
مراحل ولحظات معينة
من العام الدراسي حيث هناك حوار وتفكير. قد لا
يكون الأمر مريحاً للاستاذ ولكن إحدى
ميزات المدرّس أن يخاطر ولا يعرف أين تنتهي هذه المناقشات وأي
اتجاه تأخذ، كما هو
وارد في الفيلم. صوّرنا حصصاً دراسية كثيرة وشددت على أوقات التشنج، وهذا
ما تسبب
ببعض الاشكالات وسوء الفهم لدى صدور الفيلم وخصوصاً من جهة الأساتذة الذين
شاهدوه
معتبرين اياه شريطاً وثائقياً. لم تعجبهم الصورة التي أعطيتها
عن المدرسة حيث
يعملون. لكن هدفي لم يكن أن أصوّر السنة الدراسية كاملة، بل تلك اللحظات
المعينة.
•
مشاهد الحوار أقرب الى مشاهد حركة، وتفتح آفاقاً.
ـــ هذا كان بدءاً
تحدي الفيلم. كانت الحوارات حيوية وغنية لكي يتابع المشاهد الحوادث من دون
أن يشعر
أنه محتجز في مكان ما أو يحس أنه قبالة فيلم تجريبي. ركّزت على الحيوية
التي أضفتها
الحوارات. في الخلاصة، نشعر أن المشاهد يركض خلف ما يقال،
وردود الأفعال تحصل
سريعاً ولا يمكن المرء أن يستعد لما يخفيه المشهد التالي. في نظري أن
السينما فن
يصوّر اللحظة.
•
تتغيّر الأجواء والأماكن والحوادث في الفيلم كثيراً. هل كان
ذلك لتجنّب الملل والرتابة؟
ـــ حرصنا ألا نبقى طوال الوقت في الصفّ. كان مهماً
اظهار اللحظات المختلفة، سواء في الصفّ أو حوله، وأمور أخرى مثل الأساتذة
الذين
يتحدّثون عن مهنتهم في ما بينهم. كوني أباً لأولاد يذهبون الى المدرسة، هذا
الأمر
كان يحثني على التساؤل، علماً أنني لا أعرف شيئاً عن حياة
أولادي في المدرسة، فهم
لا يتحدثون بذلك عندما يعودون الى البيت. الرغبة في المزيد من الغوص في
حياتهم شكلت
احد الأسباب التي دفعتني الى إنجاز الفيلم.
•
هو إذاً فيلم موجّه الى الأهل
أكثر منه الى التلامذة؟
ـــ لا بل يتوجّه الى الجميع. هو أيضاً للأهل الذين
يرغبون في معرفة ما يحصل فعلاً في الداخل. وأردت كذلك أن أبرز العمل الذي
يُنجَز في
ذلك المكان، وأثني على عمل الأساتذة والتلامذة وذكائهم ورغبتهم في الفهم.
وأظن أن
الشباب شعروا بذلك، وأن الفيلم لا يلومهم، بل يحيطهم بنظرة
حنان ويحاول أن يمد جسور
تواصل معهم. وهذا ما يفسّر تهافت المراهقين على مشاهدة "بين الجدران" في
فرنسا،
علماً أنه ليس من الأفلام التي تستهويهم عادةً.
•
نرى في الفيلم أن الأساتذة
ـــ ولا سيما فرنسوا بيغودو ـــ أشبه بممثلين أمام التلامذة. فهم مختلفون
عندما
يكونون معهم في الصفّ.
ـــ لهذا السبب بيغودو مقنع قبالة الكاميرا. فأمام 25
تلميذا، على الراشد أن يكون ممثلاً طوال الوقت. لذا يبقى هذا الأخير بعيداً
نوعاً
ما بالنسبة الى التلامذة. ولكن أردت أن أظهر جانباً من الارتجال، فالأستاذ
لا يملك
الكثير من الوقت ليجيب عن أسئلة تطرح طوال الوقت، وعليه إيجاد طريقة للتحكم
بالأزمة
في اللحظة، وكأنه ممثل يرتجل.
•
في لحظة ما، يطرح أحد التلامذة سؤالاً عما اذا
كان الاستاذ يمثل أم لا.
ـــ هذا سؤال مرتجل تماماً. فالفيلم يظهر أنه إذا
أردنا أن ننجح في تعليم التلامذة شيئاً، فيجب جذب انتباههم، وذلك بجعلهم
ممثلين
أيضاً، وألا فسيكونون متلقين للعلم فحسب. وقد أدهشتني هذه المداخلة.
•
التلامذة
يساهمون أيضاً في إعادة النظر التي يجريها بيغودو لنفسه.
ـــ نعم، وليس في
المعنى الذي يأمله فقط. فهو يملك أفكاراً مثالية ويظن أن في إمكانه أن
يتحاور معهم
والتساوي معهم لكنه يصطدم بحقيقة نظام المدرسة الفعلي.
•
يحيلنا هذا على "اسطورة"
الشرطي في السينما...
ـــ تماماً. فهو يصطدم بهذا النظام الذي يمثله
والذي لا يناسبه في الحين نفس ه. انه حائر بين مساعدة الأولاد وجعلهم
مواطنين
صالحين وفكرة أن المدرسة مكان يتعلّم فيه الأولاد قواعد العيش في المجتمع.
انه شيء
أشبه بصراع. في النهاية، يقع بيغودو في فخّ لعبته ويجبَر على
معاقبة سليمان.
•
هل زرت مدارس في مرحلة التحضير للفيلم أم قادك حدسك وثقتك بالكتاب؟
ـــ في
بداية العام الدراسي، نظّمنا ورشة عمل في مدرسة باريسية، وكانت مفتوحة أمام
من
يشاء. شارك فيها تلامذة مراهقون ونحو 15 أستاذاً. كان التلامذة
يأتون كل يوم اربعاء
بعد الظهر ويبقون يرتجلون نصوصاً لثلاث ساعات. وكان فرنسوا [بيغودو] حاضراً.
•
كان نوعاً من التمارين إذاً.
ـــ ليس تماماً، لأننا لم نكن نمثّل مشاهد الفيلم
نفسها بل مواقف مماثلة لما كتبته. لم أرد أن أعيد تكرار المشاهد نفسها. هذه
اللقاءات اتاحت لي معرفة التلامذة على نحو أفضل وتعديل رؤيتهم للعالم.
فعلنا الأمر
نفسه مع الأساتذة الذين فتحوا لي المجال لأمضي بعض الوقت في
صفوفهم وأرى كيف
يعملون.
•
ما هي المواضيع التي أثارت اهتمامك في البداية؟
ـــ اللغة كوسيلة
اندماج. للغرباء والآخرين أيضاً. المواجهة الحادة بين لغة التلامذة
والأساتذة، وبين
الطريقة التي يتحدث من خلالها التلامذة في ما بينهم ومع الأستاذة في
المدرسة. وكل
سوء التفاهم الذي قد يولد من هذه المواجهة.
•
الفيلم أيضاً عن فرنسا الجديدة في
طور تكوين هوية جديدة لها.
ـــ نعم، ونرى ميزة فرنسا في جانبها المنفتح. فهي لا
تزال حتى الآن تستقبل الناس، مع أنني أخجل أحياناً من طريقة معاملة السلطات
للمهاجرين لجهة التضييق عليهم وفرض قوانين مجحفة. ولكن أشعر أن فرنسا تملك
صورة عن
نفسها مبنية على الماضي والثقافة الكلاسيكية. الثقافة بالنسبة
اليَّ أمر يتجدد
يومياً، وفي كلّ ساعة، ويساهم فيها كل شخص، حتى سليمان وايسميرلدا،
التلميذان في
الفيلم، لأن مثل هؤلاء يشكّلون ثقافة اليوم، ولكن يرفض الكثير من الفرنسيين
ذلك.
•
انها فرنسا في عهد ساركوزي...
ـــ تماماً. يسودها نوع من الفوبيا من
الغرباء كما أن الأزمة والبطالة صعّدتا ذلك الشعور وساهمتا في تفاقمه.
•
انها
ليست مسألة صراع بين فرنسا الكلاسيكية الماضية وفرنسا اليوم فحسب بل أيضاً
صراع
أجيال بين الاساتذة والتلاميذ.
ـــ الاستاذ قريب من تلاميذه أكثر من غيره وهو
قادر على التحاور معهم. كما أنه يمثّل السلطة والمجتمع. لكن المراهقين،
وسواهم ممن
يكونون في مثل هذا العمر، يعترضون دائماً على نموذج الاساتذة والوالدين. ثم
أن
الاعتراض أفضل السبل للتعرف الى الذات.
•
هل اخترت بيغودو تلقائياً للدور
الرئيسي؟
ـــ نعم فكّرت فيه في الحال. أردت أن أترك المجال للارتجال وأن يكون
هناك تعاطف كبير بيني وبين من يؤدي الدور الرئيسي. فقبل
التصوير، كنت أشرب معه
القهوة وأقول له كل ما أريد أن اسمعه في المشهد وأيّ مسار أردته أن يأخذ.
كان هناك
جزء من الارتجال مع أن التلامذة كانوا يعرفون أن عليهم قول جمل محددة. وكان
فرنسوا
مخرجاً "من الداخل" وأنا المخرج من "خارج" الفيلم. كما انه
شارك في كتابة السيناريو
وألّف الكتاب، مما زاد من التوافق بيننا.
•
هل أُعيدت كتابة الفيلم كثيراً في
مرحلة التوليف؟
ـــ لا، لكننا قطعنا الكثير من المشاهد لأنه كانت لنا 150 ساعة
من الـ"راشز" [مادة مصورة]. ولم نغيّر الكثير من الأشياء. ولدى
الانتهاء من
التصوير، لاحظت أننا كنا قريبين جداً مما دوّن في السيناريو، على رغم
الارتجالات.
•
الفيلم متقطّع جداً. هل كان خياراً جمالياً أم عملياً؟
ـــ هي
رغبة في إبراز حيوية المشهد. لم يكن الأمر صعباً لأن شكل الصف محدد.
الكاميرات
موضوعة جميعها من الناحية نفسها ويكفي أن ننظر الى اتجاه نظرة
الشخص لنعرف مَن يرى
مَن. أردت إظهار الوجوه وتعابيرها. كما ساعد التصوير بثلاث كاميرات فيديو،
على أن
يكون لنا تصوّر مسبق للمونتاج.
•
عموماً، هل كانت صعبة عملية التصوير؟
ـــ
لا، كنت أشعر أنني أعيش شيئاً فريداً وممتعاً، ولم يكن هناك تشنّجات،
خلافاً لما
يحصل في الفيلم. فبين المشهد والآخر كنا نضحك معاً ونخبر
النكات. وعندما نبدأ
التصوير كان التلامذة يعودون تلقائياً الى الجدية والحركة.
•
هل كانت شخصياتهم
وأدوارهم الصورة التي أردت إعطاءها عن المدرسة؟
ـــ فعلنا ذلك خلال ورش العمل
وخلقنا الشخصيات معهم مسبقاً. ولكن خلال التصوير كانوا قد لبسوا تلك
الشخصيات. وهنا
كان دور الكاميرات الثلاث بارزاً. كانوا على علم أنهم قد يصوَّرون في أي
لحظة، ولكن
لا يعرفون متى تحديداً. كانوا يؤدون المشهد فعلياً ولا ينتظرون دورهم.
ويشاركون في
المشهد من بدايته الى نهايته، مهما طال. وكنا نبني المشاهد
تدريجاً. وعندما يكون
هناك ثلاث كاميرات، لا يعود المرء يفكّر فيها لأنه لا يعرف أياً منها
تصوّره.
•
يحمل فرنسوا قيم فرنسا الثلاث (حرية، مساواة، أخوة) ولكن في الوقت عينه،
يشعر
بالشكوك. هل يمكن أن نعتبره شخصية استعارية؟
ـــ لا أحب الاستعارة والتعميم،
ولكن أظن أنه يمثّل عدداً من الاساتذة الذين يؤمنون بضرورة حث التلامذة على
التفكير. ليس مثالياً الى هذا الحد، ولكنه يتمتّع بشجاعة معينة. ولم أشأ أن
أظهر
الأستاذ المثالي الذي لا يخطئ البتة، بل أردت أن أضع الاصبع
على نقاط ضعفه أيضاً،
وهذا ما جعله أكثر انسانية.
•
هل من الممكن أن نؤمن بقيم هذا الاستاذ في فرنسا
اليوم؟
ـــ لا أظن أن فرنسوا تقليدي جداً في هذه القيم. الكثير من الاساتذة لا
يزالون يؤمنون بذلك لحسن الحظ. المدرسة في نظري يمكنها أن توقظ
الناس.
•
لا
تعطي حلولاً في الفيلم، هل هذا يعني أنك لا تملك الحلول لكثير من الأمور،
مثل
الاندماج واللغة ومنع أحدهم من إعادته الى بلده، مثلما نرى في
الفيلم؟
ـــ لو
كان هناك من حلول كانت ستُطبق. ما يهمني هو إظهار تعقيد حقيقة الحياة ولا
أحب
الأفلام التي تأخذ المشاهد بيده الى حيث تريد.
•
أظن أن الفيلم سيعرض لاحقاً
لمن يريد التخصص في مجال تربوي. انه وثيقة وبحث حقيقيان.
ـــ سبق ان استُعمل
الفيلم في عدد من المدارس وكان مادة للبحث. واصطحب بعض الاساتذة تلاميذهم
لمشاهدته
وللتحدث عن المدرسة وما تمثله لهم.
•
ساعد الفيلم أيضاً على تنظيم وضع عائلة
مهاجرة، عشية نيله "السعفة الذهب" في الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ، أليس
كذلك؟
ـــ لم يكن الأمر بهذه السهولة. علمنا أن والدة أحد التلامذة لا تملك
أوراقاً قانونية، ولكن بعد التصوير حاولنا مساعدتها باللجوء
الى "شبكة التعليم بلا
حدود" التي تهدف الى مساعدة من لا يملكون أوراقاً من أهالي التلامذة على
تنظيم
وضعهم القانوني. حصلت هذه المرأة على موعد مع إدارة الشرطة، بعد المهرجان.
وفي
المدرسة التي صوّرنا فيها، كاد والد أحد التلامذة أن يُنفى،
ولكن الأساتذة تحركوا
ونفذوا اضراباً ورافقوه الى المحكمة. وفي النهاية، لم يُطرَد. ادهشني هذا
التضامن
الجماعي!
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
خارج الكادر
"شربل":
للمؤمنين فقط!
القديس شربل
شخصية سينمائية في فيلم لبناني يُعرض منذ أسابيع في الصالات اللبنانية.
العمل أنجزه
مخرج شاب يدعى نبيل لبّس عُرف في صناعة الأغاني المصورة. وعلى
رغم أن لا أغنية في "شربل"
يرقص الناس على أنغامها، فبالكاد يطيح لبّس عاداته التصويرية، مكبّلاً معها
النمط الفيديو كليبي الذي ينتهجه النصّ الدرامي من أقصاه الى أقصاه: مشاهد
بالرالانتي، صورة منقحة، ادارة معدومة للممثلين، أجساد تتحرك
كما لو انها هنا
لاستعرائية تداعب فانتازيا ما، والى ما هنالك من استيتيكية "مؤسلبة" وفجة
تسلب
الفيلم أي قيمة فنية كان من الممكن أن يقترحها. التفخيم، يعلكه الفيلم الى
ما لا
نهاية حتى تحويله آلية تدور في الفراغ مثل طاحون هوائي.
نصّ منير معاصري لا
يثير الفضول. انه نحيف جداً الى حدّ انه اضطر الى دعم الحبكة الروائية
بفصول من
التاريخ، أي زمن العثمانيين السيئ الذكر وثورة الفلاحين، كي
تصبح الحبكة الروائية
أكثر دسامة، والشريط "حرزاناً". عن حياة القديس، لا يعرّف الفيلم بالكثير.
ولا نعرف
اصلاً اذا كان يعرف. واذا كان يعرف فهو لا يقول. واذا يقول لا يُري. واذا
يُري لا
يُري كما ينبغي. لذا، يبقى الفيلم للمؤمنين، وللمؤمنين فقط،
الذين لا يحتاجون الى
رؤية مخرج بل الى تجسيد حرفي لسيرة هذا الحبيس الكبير. مرّة أخرى، بعد
"آلام
المسيح" لميل غيبسون، تتحول صالة السينما الى مكان للحجّ، لا للتأمل وطرح
الاسئلة
الكبرى المتعلقة بالايمان. "شربل" صُنع بمحض ايمان لا يحتمل أي سؤال، أي
توضيح، وأي
فضول. منذ متى باتت السينما آمراً ناهياً؟
أي فيلم ديني يخاطب المؤمنين فقط
ولا يسعى الاّ الى مراضاة مريدي هذا القديس أو اتباع ذاك النبي، لا يمكن أن
يكون
فيلماً كاملاً متكاملاً. من خلال انصياعه الى منطق التجسيد البليد، ينتهي
الامر
بـ"شربل" شريطاً يولي الأهمية للبوستيش والذقون والملابس، عوض
التركيز على الأفكار،
ليقع في خاتمة جولته في فخ "الصلاة السينمائية"، بدلاً من أن يكون تأملاً.
الأنكى
ان النظرة الى القديس خارجية، على غرار سائح يلتقط صوراً خلال زيارته
لبنان، جبالاً
وودياناً وغروب شمس! فمعالجة الجانب البصري تذكّر بالكليشيهات الفوتوغرافية
التي
تخصص جان - شارل بيليران في صناعتها، في القرن الخامس عشر،
والتي غالباً ما كانت
تحتوي على مادة دينية أو تاريخية. السذاجة التي تطرح من خلالها سيرة القديس
شربل،
تذكّر بهذه الصور الايبينالية (نسبة الى ايبينال الفرنسية، مسقط بيليران).
لا
نعثر حتى على سؤال واحد في الشريط المملوء بمواقف يغلب فيها
اليقين على عنصر الشك
الاساسي لكل عمل فني. من فرط ما ينشغل الفيلم بالمظاهر، يهمل الجوهر، أي
القديس
وحياته. كيف عاش عزلته؟ ما هي لحظات الضعف التي تصدى لها هذا الناسك
الكبير؟
أفكاره، حوافزه، ايمانه، رؤيته للانسان وللربّ وللبنان وللارض
وللآخرة! لا شي من
هذا كله، بل سطحية ما بعدها سطحية. الفيلم الديني، أكثر من غيره من
الأفلام، في
حاجة الى مخرج حرّ. هذه حرية غير موجودة. وفي حاجة الى صاحب رؤية. هنا
الرؤية
معدومة تماماً. عفواً، لكن الشغف وحده لا شيء. لا شيء اطلاقاً.
والايمان الاعمى
والنيات الحسنة لا يثمر سينما حقيقية.
عندما صوّر روسيلليني سيرة القديس
فرنسوا الأسيزي (1950) ركّز على الخفيّ في شخصيته، بعيداً من الاكاديمية
وأدبيات
الفيلم الديني. أعاد منح الروح الى هذا القديس بصورة فنية ورسّخ مكانه في
القلوب.
سواء أكنت مؤمناً ام علمانياً ام ملحداً، لا تستطيع الا أن ترفع القبعة
أمام هذه
الرؤية المتنورة للايمان العظيم! وعندما جاء بازوليني بنصه الكبير عن
المسيح،
مرتكزاً على انجيل متى، قال في ابن الله ما لم يتجرأ على قوله
أحد غيره من الغربيين
في تلك الحقبة. كذلك الأمر بالنسبة الى الثنائي سكورسيزي - كازانتساكيس
وصدمتهما
التي أثارت حفيظة المؤمنين المتشددين في أنحاء كثيرة من العالم.
لا نطلب من
تجربة متواضعة أن تتسلح بالقدرة والموهبة الفسيحة في الذهاب الى ما خلف
المظاهر، في
بلد طائفي حيث الدين يتحكم بمصائرنا. بيد ان الفيلم كان يمكنه
أن يأخذ معنى آخر
واتجاها مختلفا لولا المعالجة الروحانية الثقيلة والمتكررة التي تفتك بكل
مفاصل
الفيلم. أياً يكن، هناك من التعقيد البصري الكثير بالنسبة الى سيرة كانت
بسيطة الى
أقصى حدّ. وعليه، كل شيء في الفيلم هو ضدّ الفيلم. لكن أي من
العناصر هو الأكثر
مسؤولية عن الفشل؟ هل النصّ البليد ام الاخراج الشره والمتمادي في زخرفته؟
أم
الموسيقى التصويرية المنقولة (وربما أكثر من منقولة!) من هنا وهناك، والتي
لا بد أن
يضيق بها المرء ذرعاً، لفرط عنجهيتها السخيفة واعتقادها بأنها بطلة الفيلم؟
أو ربما
الممثلون الذين لا أحد منهم يفي بالغرض اللازم؟ الأرجح ان
الفشل هو لقاء كل هذه
العناصر في غياب أي اعجوبة!
الشرق أكثر "إيماناً" من الغرب. في هذا الجزء من
العالم معقل الأنبياء ومهد الأديان الثلاثة. لكن هذا الشرق،
أقله في السينما، لا
يعرف التحدث عن الايمان على نحو يجلب اليه غير المؤمن.
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
26/03/2009 |