صناعة الأفلام قد تبدو عند البعض سهلة.. خاصة حين تصعد نغمة الفن
الاستهلاكي حتي الثمالة.. ثم سرعان ما تضيع كأسه أو خمرته في جوف النسيان..
ويبقي "الفيلم الحقيقي" هو الذي يصمد مع الزمن.. ويظل محتفظاً بإعجاب الناس
لسنوات طويلة حتي يصبح جزءًا منهم ومن تراثهم.. هذه هي السينما الحقيقية
التي تحقق المتعة والفائدة.. أو الحالة والرسالة معاً!!
وفيلم "المليونير المتشرد" للمخرج داني بويل والذي فاز بنصيب الأسد في كعكة
جوائز الأوسكار الساحرة واستحوذ وحده علي ثماني جوائز. وقبلها أربع من
الجولدن جلوب البريطانية بسيط بساطة مذهلة.. ومع ذلك يعد من الأعمال
العظيمة والبليغة في مخاطبة الروح البشرية من أعماقها.. فتنزع معها حالات
الدهشة والاعجاب والسحر من خلال تقنية مدهشة البناء في أسلوب السرد الروائي
البصري.. بحيث تتداخل الأزمنة والأمكنة بشكل مذهل وسلس في نفس الوقت حتي
يصل إلي كل المستويات.. وهو درس بليغ لهؤلاء الكسالي الذين يتحفوننا ليل
نهار بأفلام مباشرة وسقيمة الفكر والوعي.. الوقوف عند حدود السطحية
المألوفة في السينما المصرية. بل وتقديم المتدني من الأفكار والموضوعات
التي لا تخلو من سعار جنسي ولفظي وسفه واستهبال استهلاكي شبيه بقرمشة
الفيشار وتجرع علب الكانز والرد علي الموبايلات وهي تلك الآفات التي سببتها
سينما الفجاجة والأفلام التجارية الهزيلة!!
الفيلم بطله الحقيقي هو السيناريو المشحون بالمشاهد المتقاطعة طولاً وعرضاً
في الحدوتة.. وبطله أيضاً هو المخرج الذي تلاعب بالتكوينات البصرية بوعي
غير مسبوق. وفي نفس الوقت لم يستعرض أية عضلات ولا طبعاً لحوم أو شحوم كما
يحدث عندنا. بل كانت تشكيلاته في كادراته كلها في دعم وخدمة الموقف
الدرامي.. ثم براعة المونتاج والمكساج وحتي الموسيقي التصويرية والغناء تصب
في تنغيمة واحدة تتغني بالمحتوي!! أية دروس يمكن أن يتلقاها أي سينمائي
أكثر من هذا.. بل جاء الأكثر بعدم انفاق ميزانيات ضخمة كما يتوهم البعض..
ثم الاستعانة بممثلين جدد معظمهم أطفال وصبية دون ادعاء أو رطرطة كما يحدث
عندنا أيضاً!! .. ويقولون بعد ذلك لماذا تفوز أفلامهم بجوائز الدنيا كلها..
ولماذا نحن "محلك سر"؟!!
قصة الشاب الصغير التي نراها في سيناريو المبدع سيمون بيوفوي هي قصة وطن
وقصة التقدم والتخلف المتبادل.. فالشاب البسيط ابن الأحياء العشوائية
المسلم الهندي جمال مالك قادته الصدفة للاشتراك في البرنامج الدولي "من
سيربح المليون" بنسخته الهندية متحدياً ظروفه وسخرية مقدم البرنامج واضطهاد
مجتمع الأغنياء ومن لحق بقطار العولمة في البيئة الصعبة التي نشأ فيها ليصل
إلي العشرة ملايين روبية. ليصبح المتشرد مليونيراً وهو لا يملك من حطام
الدنيا سوي إرادة صلبة وصلابة الحب لفتاته التي نشأت في نفس الظروف. وكأنه
إعلان اشتراكي وصرخة إنسانية قوية بانتصار العشوائيات والفقر علي لغة القوة
والمال.. بشرط أن يأخذوا الفرصة. وبشرط آخر أهم وهو التسلح بالحب.. لا
التسلح بالجنازير والمطاوي وعقد الجنس التي تتملك الطالب والمطلوب. أو
الفقير والغني!!
يبدأ الفيلم بوشاية من مقدم البرنامج الجماهيري للبوليس في الاستراحة
الفاصلة لوصول الصبي إلي الملايين.. يتهمه بالغش أو بالاحتيال وتسريب
الأسئلة له بشكل أو بآخر. ليبدأ التحقيق معه.. كيف وصل إلي مبلغ المليون.
وأساتذة الجامعات والمثقفون يخرجون من ربع الأسئلة؟
وكلما هم الضابط بإعادة عرض الأسئلة عليه. حكي الفتي مأساة حياته التي
علمته الإجابات أفضل من أي معلم.. وهنا تبرز براعة المخرج في استعراض
الحياة القاسية التي يمر بها عشوائيو الهند أو العالم الثالث عمومًا حيث لا
تختلف ظروفهم عن ظروفنا. كما يبرز هذا المونتاج المشحون بالتداعيات المرئية
والصوتية. وذاك التصوير المؤثر في البناء النهائي للفيلم ككل!!
إنه ملحمة تنتصر للإنسان في كل زمان ومكان.. فمن يسمع. ومن يري؟!!
salaheldin-g@hotmail.com
الجمهورية المصرية في
26/03/2009 |