«من بين عشرات الشباب الذين يقتحمون دنيا السينما حاملين آمالهم وطموحاتهم
علي أكفهم، جاء هذا الشاب عاشق السينما حتي النخاع.. الذي رضعها مع حليب
أمه وهو ما زال طفلا .. وحملها في قلبه أيقونة ملتهبة تضيء له حياته.اقتحم
الأبواب المغلقة بشجاعة عن طريق أفلام قصيرة حولها بنفسه وكتبها وأخرجها
وعرضها علي مجموعة من أصدقائه السينمائيين .. قبل أن يتجرأ ويعرضها عرضا
عاما علي جمهور احبها ولفتت نظره منذ اللحظة الأولي.إنه المخرج الشاب يوسف
هشام الذي رأينا له قبل سنوات فيلما طموحا أطلق عليه اسم «بني أدم اسمه
خالد» وصوره في أرجاء الجامعة التي ينتمي إليها، وعالج فيه بأسلوب ذكي قضية
القدر ولعب بطولته النجم الصاعد آنذاك «شريف رمزي».الفيلم جاء مليئا بأخطاء
صغيرة ولكنه يطفح خيالا وجرأة واقتحاما وكسرا لكثير مما هو مألوف لدي
مخرجينا الشبان.وفي موجة حماس انتابته تجاه طموح زملائه المخرجين الشبان
قرر أن يصنع فيلما عنهم محاولا أن يترك لهم فرصة التعبير عن أنفسهم بحرية
وطلاقة دون الاعتماد علي مخرج من جيل آخر ينظر إليهم بفوقية ويقدمهم وكأنه
يحسن إليهم.يوسف هشام شاب مثلهم يطمع هو أيضا أن يجد لنفسه مكانا علي خارطة
الشباب السينمائية التي سيطرت علي إنتاجنا السينمائي في العامين الآخيرين.وتكلم
الشباب في فيلم «مخرجين آخر زمن» بحرية وتدفق وعفوية مدهشة رصدها يوسف هشام
بذكاء لأنه كان يحس باحساسهم وتؤلم قلبه الصغير الوخزات نفسها التي تؤلمهم،
ويواجه مثلهم هذه الأبواب المسدودة والتيار التجاري الهادر الذي يهدد هذه
المواهب الشابة، ويجبرها علي التنازلات وعلي خيانة النفس والمبدأ
والهدف.بعد هذا الفيلم الوثيقة رجع يوسف هشام مرة أخري إلي ميدان التأليف
والإخراج ليقدم فيلمه «عن قرب» الذي بدت فيه ثقافته السينمائية الواسعة
جلية واضحة واختياراته الخاصة القادرة علي اثبات نفسها ووجودها عن قرب،
عالج مشكلة التصوير بالفيديو خلسة واخطاره وتوابعه من خلال قصة ذات إطار
تشويقي، ومن خلال جرأة في المعالجة تعودناها أخيرا في أفلام زملائه الشباب،
ولكن الرغبة بكسر الحواجز واجتياز الخطوط الحمراء كانت واضحة جلية ليعرف
يوسف هشام أكثر من زملائه الآخرين.ونال فيلمه «عن قرب» أولي الجوائز التي
حصدتها أفلامه التالية فيما بعد وآثار نقاشات كثيرة وجدلا واسعا
يستحقه.ولكن جاء فيلمه التسجيلي «اسطبل عنتر» الذي رصد فيه حال حي شعبي
عشوائي، مفاجأة بالنسبة للكثيرين إذ انتقل فيه المخرج الشاب بسلاسة تلفت
النظر من عالمه الروائي إلي عالم تسجيلي قدمه بنفس روائي أصيل وألقي نظرة
فنية مدهشة علي عالم منطو علي نفسه يحمل في ثناياه كل عيوب مجتمعنا وكل
مآسيه، استطاعت كاميرته الذكية أن تدخل إلي اعماق النفوس من خلال نظرة أو
حركة أو الثقافة واستطاع «وهذا أمر نعرف كم هو شديد الصعوبة» أن يمسك
بالخيط الرفيع الذي يربط بين هذه الشخصيات وبعدها المكاني، والأماكن التي
تمضي فيها حياتنا والتي تختنق بين جدرانها أمالهم الصغيرة وأحلامهم
المحبطة.وجاءت المفاجأة أن يفوز هذا الفيلم التسجيلي بالجائزة الكبري في
المهرجان القومي للأفلام المصرية اتبعها بجائزة تقديرية للأفلام التسجيلية
من مهرجان إسكندرية.ولكن هذا النجاح الكاسح لهذا الفيلم التسجيلي لم يملأ
رأس مخرجينا الشباب ويدفعهم إلي هجر الميدان الروائي الذي اختاره لنفسه منذ
بداياته أو سرعان ما عاد بفيلمه التالي .. إلي موضوعاته الأثيرة لديه والتي
تتسم دائما بالجرأة والتحدي وخرق الممنوعات، ومن هو أقدر علي تحقيق هذه
المزايا إلا الكاتب الكبير العملاق يوسف إدريس الذي اختار يوسف هشام قصة من
قصصه النارية «أكبر الكبائر» لينقلها في فيلم قصير ملتهب تشع في أطرافه
كتلا من الديناميت.إنها قصة شاب ساذج نصف أبله يعمل مزارعا بالأجرة في قرية
يسيطر عليها جو قاس تدفعه ظروف عمله إلي الدخول إلي بيت أحد رجال القرية
الكبار ليشرب جرعة ماء.وهناك يلتقي بزوجة الرجل وهي راكعة تصلي ويلفت نظر
المصلية التي وصلت إلي وسط العمر وتعاني من كبت جنسي شأنها شأن نساء القرية
كلهن، لانصراف زوجها عنها وغرقه في مناسبات دينية متعددة منها جلسات الذكر
التي يؤمها كل رجال القرية، ويغري الشاب المزارع الصغير وفتوتة المرأة
المتدينة فتدعوه ليلا إلي سقف بيتها لتمارس الجنس معه، بينما زوجها يحضر
حلقات الذكر ويدور حول نفسه مرددا اسم الجلالة، وتشجع مغامرة المرأة
المتدينة زميلاتها ليفعلن مثلها ويصبح الشاب الصغير مطمح نساء القرية جميعا
يدعونه إلي سطح بيوتهن، بينما أزواجهن يقيمون حفلات الذكر والتعبد.وكان
لابد للأمر أن ينكشف.. ولكن الرجال يصمتون علي مضض خوفا من الفضيحة وحفظا
للمستوي، ويستمر الشاب في مغامراته والنشوة في شبقهن والرجال في ذكرهم من
هذه القصة الكهربائية التي كتبها يوسف إدريس بدماء موهبته وأعصاب وجرأته
الخارقة التي لم نجد حتي الأن من يجاريها أو يقترب منها، قدم يوسف هشام
فيلما يحمل عنوان القصة نفسه وقال بلقطات ذكية قليلة كل ما اراد أدريس أن
يقوله دون أن يسقط مرة واحدة في مشهد مبتذل أو حوار رخيص.تحد فني كبير لعبه
المخرج الشاب بأناقة وذكاء وموهبة مما جعله يفكر جديا بخطوته القادمة وهي
إخراج فيلم طويل يدخل منه أخيرا من الباب الملكي لعالم سينمانا المعاصرة،
فكل شيء جاهز لديه الفكر السينمائي الثاقب والنظرة الذكية والثقافة
السينمائية العالية التي استمدها من متابعته ورؤيته لكل الأفلام العالمية
التي تمثل كل اتجاهات السينما المعاصرة.فيوسف هشام إلي جانب موهبته كمخرج
هو من السينمائيين المصريين القلائل الذين لا تفوتهم فرصة رؤية أي فيلم
جديد سواء عن طريق الإنترنت والسيديهات المتوفرة أو العرض التجاري العادي،
يسعي إليها بكل روحه واحساسه، يتعلم منها ويستفيد دون أن يترك لها مجالا
للتأثير فيه أو تقليدها.إنها بمثابة الماء الذي يروي عشب موهبته ويزيدها
رونقا واخضرارا.. ولم ينجح يوسف هشام في تسويق فيلمه الطويل الأول الذي
كتبه والذي رفضته أكثر الشركات المنتجة خوفا من جرأته واقتحامه، مما اضطره
أخيرا إلي اختيار سيناريو كاتب غيره يدخل فيه غمار السينما الطويلة، مؤمنا
أنه قادر علي اثبات قدرته وأسلوبه حتي لو كان ذلك عن طريق كتابة
الآخرين.إنها فرصة عمره التي تبدو له قريبة يدخلها حاملا وراءه جوائز كثيرة
ومقالات نقدية مسهبة، تشيد به وبفنه، وجائزة كبري من مهرجان الدولة القومي
«أليس هذا وحده كافياً ليثبت اعتراف أجهزة الدولة الرسمية بفنه
السينمائي»ولكن يفاجأ المخرج الشاب قبل دخوله الاستوديو ليحقق حلمه ويعيد
أول أفلامه الطويلة التي عليه أن يدفع الرسوم الرسمية التي تفرضها النقابة
علي كل فنان يود أن يمارس الإخراج دون أن يكون حاصلا علي شهادة من معهد
السينما.. والمبلغ المطلوب كبير يتجاوز الـ150 ألف جنيه!!وبرز حائط عملاق
أمام المخرج الشاب لا يعرف كيف يتخطاه أو كيف يقاومه.كيف اعترفت الدولة به
ومنحته جائزتها الكبري عن أحد أفلامه وهي التي تقف أمامه الآن لتمنعه من
إكمال مسيرته».إن سينمانا الغارقة اليوم في كلماتها والتي تمد يدها طالبة
الانقاذ من شباب واع متحمس لا يقبل التنازلات، هي بأمس الحاجة إلي
سينمائيين من أمثال يوسف هشام ورفاقه أكثر مما هم بحاجة إليها.إنه من الظلم
البين أن تعامل السينما المصرية شبابها الواعد بمثل هذا العقوق وأن ترضي
لنفسها بأن تكون القطة التي تأكل أولادها.إنني أهيب برئيس المجلس القومي
للثقافة ونقيب الفنانين أن يمسكا بيد هؤلاء الشباب الواعدين وأن لا يتركوهم
فريسة للاحباط والفشل، تاركين لعديمي الموهبة ومالكي الأموال تبديد ما بقي
لنا من آمال في سينمانا القومية.وها هو يوسف هشام الآن يدخل في مجال
الأفلام الروائية الطويلة التي طالما حلم بها.. ولكنه لا يحقق حلمه كله بأن
يكتب بنفسه سيناريو الفيلم الذي سيخرجه كما فعل في أفلامه القصيرة.. إذ
وافق علي إخراج فيلمه الطويل الأول الذي كتبه سيناريست آخر.. اقتنع به..
ووافق علي أن يكون هذا الفيلم الذي كتبه غيره.. هو بطاقة التعارف التي
سيقدم نفسه بها للجمهور الكبير.الفيلم الطويل الأول الذي سيخرجه يوسف هشام
يحمل عنوان في لمح البصر ويقوم ببطولته نجم كبير من نجومنا هو حسين فهمي
الذي يعود للسينما بعد غياب طويل.. أعطي فيه فنه كله لجمهور المسرح
والتليفزيون.. وها هو يعود الآن واضعًا ثقله كله لمصلحة المخرج الشاب الذي
أحس به واستشعر موهبته.. كما وافق علي تقاسم البطولة مع وجه جديد شاب هو
أحمد حاتم الذي عرفناه من خلال فيلمين أنتجهما حسين القلا: «الماجيك»
و«وأوقات فراغ».وهكذا يضع المخرج الشاب رهانه أمامنا وما علينا إلا أن
ننتظر دورة روليت السينما لنعرف إذا كان يوسف هشام قد وضع رصيده كله علي
الرقم الرابح.. أم لا..!!
جريدة القاهرة في
24/03/2009 |