كلما طعن في السنّ،
ازداد تألّقاً وجمالاً وحيوية وإبداعاً. لا يأبه بشيخوخة بدا، معها، أكثر
شباباً
(بالمعاني
كلّها) من أي وقت مضى. لديه، في المخيّلة، كمٌّ هائلٌ من المفردات
الجمالية في صناعة الصورة، ومناقشة الواقع، ومواجهة الدنيا. لكنه، عند
وقوفه وراء
الكاميرا أو أمامها، يُدرك فداحة المأزق الجميل في أن يكون المرء فناناً،
فلايتردّد عن إعمال العقل وتغذية الوعي، ما يجعله أنيقاً في
معاينة اللحظة وسبر أغوار
الآنيّ، وإن تطلّب الأمر عودة إلى التاريخ وقصصه وخفاياه. وما يدفعه إلى
ابتكار
الجديد دائماً في أفلامه المتتالية كنهر دافق بالحب للسينما والناس والقصص،
هوالبارع في سرد القصص سينمائياً. لديه، في إدارة اللعبة
السينمائية، قوة عيش على
تخوم الحياة وفي قلبها، لأنه أثبت، مراراً، قدرته على التعاطي مع الحياة
كالممسك
بأمورها؛ فهو سيّد المكان واللاعب الأول في صوغ الحكاية، وهو الأجمل في
ابتكاراللغة البسيطة، التي تتفتّق، بعد حين، عن أجمل التعابير
وأكثرها اختلافاً. واللغة،
إذا أريد لها أن تنجز نصّاً عنه، تفقد شيئاً من نضارتها، لأنه امتصّ
رحيقها، فباتت
الصورة الطريق الوحيدة للوصول إليه. أقول اللغة، وأشاهد الإنجاز البصري،
فلا أملكجملاً تفي إبداعه بعضاً من براعته في تغذية العقل والروح معاً.
أمبالغة، أم عجز
عن مقاربة نقدية تطال عمله السينمائي؟ أتصنّع في الكتابة، أم هروبٌ من
القراءةالسليمة لنصّ امتلك شفافية المغزى الإنساني، مغلّفة بنضارة
الشعر في تفتيت أوهام
الدنيا والحياة، لإظهار مخابئها القاسية؟ أرغبة في التحايل على الكلمات، أم
وقوع في
القطيعة القائمة بين أفلامه والحراك النقدي؟ أسأل نفسي أولاً، قبل أن أذهب
مجدّداً
إلى صنيعه، محاولاً تخطّي المسافة بين المشهد والواقع والتاريخ والذات، أو
ساعياً
إلى مزيد من الاستفادة. أسأل، ولا أملك أجوبة. وأكتب، من دون أن أرى الخطّ
الطالعمن المقالة إلى الفيلم وما يحمله من أسئلة. والأسئلة، عنده،
محمّلة إما بتطهّر ذاتي
من عبء التاريخ الشخصي، وإما برغبة في الخروج من نفق العيش في دوّامة
الأوهام، وإما
بمسعى جدّي إلى مقارعة الدنيا كلّها والحياة كلّها بأداة واحدة: السينما.
نبي
جديد
مذهل هو، كلينت إيستوود. على مشارف الثمانين، يُطلّ على المشهد نبياًجديداً للتقريع والتشذيب والتعنيف. أفلامه، مخرجاً وممثلاً
ومنتجاً، شهادات قاسية
عن أزمنة وأمكنة وحالات، مسيّجة كلّها بالقهر والألم والخيبات. أسلوبه،
مصوِّراً
بارعاً لأحوال العيش، كفيلٌ بجعل المُشاهد أسير اغترابه عن ذاته، قبل أن
ينتبه (هذا
المُشاهد) إلى التحريض الخفي الذي يمارسه السينمائي عليه، بهدوء مُتعِب
وخفّةجميلة. لكن حضوره في الشاشة/ الحياة يعني، أحياناً، أنه الشاهد
الأول على اندثار
الأشياء الجميلة، أو على وحشية الواقع في مواكبة التحوّل. هذان الاندثار
والوحشية
ظاهران، بعنف جميل، في فيلمه الأخير «غران تورينو» (2009). وظاهران أيضاً
في عدد منأفلامه السابقة، كـ»استبدال» (الترجمة العربية للعنوان
الإنكليزي Changeling: «طفل
استُبدل بآخر، بطريقة سرّية، منذ الطفولة»، وهي تعكس المضمون الدرامي
الفعليللفيلم) و»رايات آبائنا» و»رسائل من إيو جيما» و»فتاة المليون
دولار»، إذا اكتفيتُ
بهذا المقدار من العودة، قليلاً، إلى الوراء. ليس بالضرورة أن يظهرا معاً،
لكنهما
بالتأكيد يُشكّلان ركيزتين اثنتين من ركائز النصّ الدرامي، المعنيّ بالفرد
وحصاره
وسط بيئة وحشية تدفعه إلى اتّخاذ خيارات لا تكون، دائماً، على صواب. أو
بالأحرى، لا
يهتمّ كلينت إيستوود بما إذا كانت على صواب أم لا، لأنه مكترثٌ بالفرد
ومصيره ومسارعيشه والتأثّرات التي أفضت به إلى هذه الخيارات. وإذا كشف
السينمائي التزامه مسألة
أو توجّهاً ما، فهذا لا يعني البتّة أنه منصرفٌ، في أفلامه، إلى محاكمة أو
تأديب،
بل إلى نقد حاد لحالة أو لحظة أو موقف أو سلوك. نقده أجمل، وقسوته تبلغ
مرتبة لاتُطاق، لكنها تبقى ذريعة لفهم المسائل، أو البدء بفهمها، على
الأقلّ. أسلوبه
متنوّع، لكن الأحبّ إليه في بعض أعماله كامنٌ في تقديم جزء لا بأس به من
الفيلم
بطريقة عادية وبسيطة (قد يراها البعض مملّة، أحياناً)، قبل أن يصدم مُشاهده
في لحظةواحدة فقط، مدخلاً إياه إلى عالم معقّد ومتشابك، وإلى حالات
إنسانية ومواقف
وتصرّفات متداخلة بعضها ببعض. مثلٌ أول: «فتاة المليون دولار» (2005).
مصرّة هي على
التدرّب على يديه، ومصرّ هو على رفض التورّط معها. «كرّ وفرّ» بينهما لوقت
طويل،قبل أن يلتقيا معاً في تلك اللحظة المنفتحة على متاهة الحياة
وأوهامها. مثلٌ ثان: «غران
تورينو» (2009). لا شيء، في الدقائق الثلاثين الأولى تقريباً، يوحي بأن
الفيلم مُقبلٌ على أمور جاذبة وجميلة. فجأة، نبتت تلك اللحظة المدمِّرة،
التي صنعتالحكاية، بل رسمت الملامح الحقيقية للحياة. هناك أيضاً «نهر
ميستيك» (2003)، الذي
يحمل عنوانه معاني عدّة تصلح، كلّها، لمضمون الفيلم: فبالإضافة إلى اسم
النهر (ميستيك)، هناك النهر الملتبس، النهر
السرّي، النهر الصوفي، إلخ. والنهر، بمعانيهالمتداخلة، أمينٌ على أسرار عدّة، وجثث أكثر، ومناخ عابقٌ
ببشاعة القدر وسطوته،
وببراعة التمثيل (شون بن، تيم روبنز وكيفن بايكون تحديداً) في جعل معالم
الحكاية
أكبر من أن تستوعبها الشاشة. والقسوة، إذ تنضح ألماً وتوتراً، تعين المرء
على إعادة
اكتشاف الذات والانهيارات: «استبدال» (2008) أحد أقسى أفلامه وأغربها. غضب
ضد
المؤسّسات والبيئة الاجتماعية، وعشق أحال الكاميرا إلى عين الله على الأرض،
مبقياً
إياها (العين) شاهدة على البؤس والتمزّق، لا أكثر.
ترتيبات
في «غران
تورينو»، لم يشأ والت كوالسكي (إيستوود) أن يتيح لهذا الإله فرصة إصلاح
الأمور، إنلم يكن رافضاً تدخّله أصلاً، ومانعاً عنه التواصل مع الناس.
يريد الرجل أن يعيد
ترتيب أمور الدنيا على هواه. يستاء من الآنيّ، ويعجز عن التطهّر من أدران
الماضي
ودمويته العنيفة في مقاربة الأشياء والتفاصيل. يتعلّق بفرديّته وعزلته،
وينطوي على
ذاته حتّى الألم والموت. لا يجد درباً إلى الانعتاق من وحشية التحوّل
المفروض علىالواقع إلاّ بالاغتسال الروحي/ الجسدي بالدم. اللحظة الراهنة
مشحونة بالقطيعة
القصوى، وبرفض الآخر، تماماً كمرحلة سابقة متمثّلة بالحرب الكورية، إذ رفض
الأميركيّ الأبيض الآخرين، وقتلهم. اللحظة الراهنة غارقة في كوابيس الماضي،
وعاجزة
عن إيجاد معادلة أرأف من الجريمة المنقضّة على الرجل وسط بيئة فقيرة
ومنعزلة، يقيمفيها أبناء أعراق آسيوية متناحرة. غير أن الرجل الأبيض هذا لا
يقدر على تحصين عزلته
وخيبته من الآخر، لأنه يجد نفسه عند هذا الآخر، في محاولة أخيرة للتطهّر.
في «فتاة
المليون دولار» (آخر فيلم مثّل فيه كلينت إيستوود، قبل عودته إلى التمثيل
ثانية في «غران تورينو»)، أراد فرانكي دون (إيستوود)
أن يُرمّم شيئاً من ماضيه المنحور
بالخيبة والترهّل والتمزّق، فوجد في ماغي فيتزجيرالد (هيلاري سوانك) خلاصاً
حقيقياً، قبل أن يسقط وإياها في حفرة القدر والخراب. في «غران تورينو»، بدا
كوالسكي
ناقماً على نفسه ومسحوقاً أمام الانكسارات كلّها التي هزّته قوياً، فبات
نكداً لا
يطيق أحداً، بدءاً من نفسه وعائلتي ولديه، وصولاً إلى الجيران والناس
والدنياوالله، وخصوصاً على الله. لكن نهاية فرانكي دون معلّقة في
التباس المقبل من الأيام
عليه، بعد إنقاذه ماغي فيتزجيرالد من عذابها (الموت الرحيم)؛ وفي التباس
مصيره
وعلاقته بزمنه وحياته وماضيه. في حين أن نهاية والت كوالسكي مختلفة تماماً
(يُفضّلإبقاؤها سرّاً يتمتّع المُشاهد، وحده، باكتشافه)، ومبنية على
خلاص غير مؤكّد من
حياة آيلة إلى الخراب الدائم. في «فتاة المليون دولار»، شكّلت الصبيّة
الشابة
مدخلاً إلى التطهّر من ألم الماضي، وسبباً لمزيد من الآلام والانكسارات.
وفي «غرانتورينو»، لعبت الصبيّة الشابة دوراً أساسياً في إخراجه من
عزلته، قبل أن يستلم
شقيقها الأصغر دفّة المركب الذاهب بكوالسكي إلى نمط آخر من التطهّر الملتبس
والخاتمة العاجزة عن إدراك سرّ المقبل من اللحظات.
تفتقد بيروت واحداً من
مهرجاناتها الأقدم تأسيساً، والأثبت في استمرار مؤسّسيه تنظيم دورات سنوية.
فمنذ
ثلاثة أعوام تقريباً، أقيمت الدورة الثامنة لـ»مهرجان بيروت الدولي للأفلامالوثائقية»، بعد أسابيع قليلة على انتهاء الحرب الإسرائيلية ضد
لبنان، صيف العام 2006، وهي الدورة الأخيرة له، بعد أعوام عكست جهداً لافتاً للانتباه في
مستويات
عدّة، أبرزها قدرة إدارته على إفراد مساحة متواضعة لأفلام وثائقية أجنبية
وعربية،
امتلكت جماليات فنية وتقنية ودرامية مختلفة. وعلى الرغم من الالتباس الكبير
الذيرافق آلية تنظيم الدورات الثماني، استقطب المهرجان أسماء
وعناوين سينمائية، شكّل
(بعضها
على الأقلّ) جزءاً بارزاً من المشهد الوثائقي الدولي؛ وبات إحدى النوافذ
العربية القليلة لإطلالة غربية على النتاج العربي، ولتواصل عربي مع الغرب،
مهرجاناتوعروضاً متفرّقة.
لم يكن المهرجان البيروتي هذا أسير التنافس على الجوائز، لأنهارتأى، منذ البداية، أن يُفسح مجالاً أساسياً للفيلم الوثائقي
كي يُقدّم نفسه أمام
المهتمّين به، ولهؤلاء الأخيرين كي «يتمتّعوا» بمشاهدة الروائع المصنوعة في
العالم. ولأنه رأى في اختيار اسمين اثنين في صناعة
هذا الفيلم، عربياً وأجنبياً، لتكريمهماسنوياً، أفضل من إغراق الأفلام ومخرجيها ومشاهديها في مسابقة
«لا طائل منها»
غالباً. بمعنى آخر، وعلى الرغم من الملاحظات المتفرّقة التي تُساق حوله،
برهنالمهرجان على اهتمام واضح بالجانبين الثقافي والفني، ومنح
الفيلم الوثائقي أرضية
محلية مهمّة وجميلة.
يُطرح سؤال غياب هذا المهرجان حالياً، لأن الجماليات
الحديثة في صناعة الفيلم الوثائقي بلغت مرتبة رفيعة المستوى من اللغة
البصرية
الإبداعية، في لبنان والعالم العربي والغرب؛ ولأن الفيلم الوثائقي هذا
يعاني صعوبات
شتّى، تبدأ من تمويله وتكاد لا تنتهي عند البحث الدؤوب عن حيّز للعرض
النخبويوالجماهيري معاً؛ ولأن العالم العربي منجذبٌ إلى النجوم
والصناعة الروائية وفنون
العرض المختلفة، على مستوى مهرجاناته الكثيرة، على حساب الفيلم الوثائقي،
المحتاج
إلى مهرجان مستقلّ بحدّ ذاته، علماً بأن مهرجان الإسماعيلية في مصر، مثلاً،
أشرك معالوثائقي أفلاماً قصيرة وتجريبية، بالإضافة إلى أفلام التحريك؛
بينما لا تتردّد
إدارات مهرجانات عربية أخرى عن تخصيص جانب من برمجتها بهذا النوع
السينمائي، لكن
ضمن إطار برنامج منفتح على الأنواع البصرية كلّها، في حين تخصّص مهرجان
المحطّةالتلفزيونية الفضائية العربية «الجزيرة» بالجانبين التلفزيوني
والتسجيلي، أكثر من
أي شيء آخر.
أما الطامة الكبرى فكامنةٌ في عدم انتباه متلهّفين على تأسيسمهرجانات سينمائية جديدة، في لبنان والعالم العربي، إلى
الأهمية الإبداعية للفيلم
الوثائقي، وفي عدم إيلائهم إياه أدنى اهتمام، وعدم رغبتهم في بذل جهد ما من
أجله. ومع أن المهرجانات اللبنانية الأخرى تختار
أفلاماً وثائقية، إلاّ أن هذه الأخيرةمحتاجة إلى مهرجان خاصّ بها. غير أن الراكضين وراء بهرجة
إعلامية وقطاع عام،
منشغلون عن السينما باستعراضاتهم الإعلاميّة الباهتة.