* وضعت الفتاة "الكاميرا" في منزل العائلة. وبدأت بجدتها وجدها. كانت تريد
أن تقدم فيلما عائليا تسجل فيه ذكرياتها وطفولتها في البيت الهاديء ووسط
العائلة الكبيرة في مدينتها طهران التي ولدت وكبرت بها قبل أن ترحل عنها
لتقيم في سويسرا لسنوات. أرادت أفسار سونيا الشافعي المخرجة والكاتبة
الايرانية أن تقدم فيلما مليئا بالمشاعر الجميلة عن الأيام الخوالي لأفراد
العائلة ونسائها -خاصة النساء- حين كن يعشن حياة عادية منطلقة قبل الثورة
الايرانية عام 1979وما حدث بعدها. إلا أن الكاميرا أبت أن تكذب وتجمل
الماضي كله علي حساب الحاضر. وحيث استطاعت أن توقظ مشاعر وأحزاناً قديمة
لدي الجدة حين جمعها بالجد كادر واحد فتذكرت ما كان منه زمان. وحياتها
الصعبة برفقة زوج لا يتحمل مسئولية. ولا يشارك في شيء ويغيب عن المنزل وراء
الأصدقاء والحشيش. ولتواجه الجدة حفيدتها المخرجة بأنه لولاها ولولا حبها
لأولادها لما استمر هذا البيت وخرب. بينما يصمت الجد. يتظاهر الغضب من جديد
بعد أن فات العمر. ولعل هذه المفاجأة الساخنة في فيلم وثائقي وتسجيلي تعبر
بدون أية فلسفة علي أهمية وقيمة هذه النوعية من الأفلام حين تتعامل مع
البشر في لحظات صدق وصفاء فتفلح في انتزاع ياعترافات ولحظات تفوق في
اثارتها الافلام الروائية. ويمضي الفيلم بعد الجدة لينتقل إلي الأم. وإلي
حياتها الصعبة أيضا. وسط التغيير السياسي الكامل وما صاحبه من متغيرات أخري
اجتماعية واقتصادية وتغيرات في سلوكيات الناس نراها من خلال الصور
الفوتوغرافية. ومن حكي أفراد الأسرة وبعض أفلام الفيديو وحيث تتغير الرءوس
ويختفي شعر البنات تحت الايشاربات ويبدو التحفظ في معاملاتهن وفي المناخ
العام ومن جديد تقاوم الحفيدة هذه المرة وتطالب بحقوقها الطبيعية. ترفض
الزواج وتصمم علي الذهاب للجامعة. ثم الاستمرار في الدراسة وحين تصنيف
السبل أمامها تسافر للخارج. ووراءها دعوات الأم والجدة الليتن تؤازرانها..
يدفعك الفيلم لتأمل أسلوبه ولغته. سواء السينمائية أو التعبيرية. وقدرته
علي الوصول للعام من الخاص والعكس وتبدو طهران في الكثير من لقطات الشوارع
بها قريبة من القاهرة. كما تبدو معاناة الجدة وصلابتها شبيهة بما يحدث
للكثير من نساء مصر. بل النساء العربيات والشرقيات بشكل عام حيث يعتبر
الرجل نفسه ضيفا له كل الحقوق وليس عليه واجبات. وقد عرض هذا الفيلم واسمه
مزدوج "أسوار المدينة" و"طهران الخاصة بي" في ختام أسبوع الفيلم السويسري
مساء الثلاثاء الماضي فكان مفاجأة سارة لمن شاهده. وقد كانت قاعة سينما
جلاكسي مليئة عن آخرها بفضل دأب وجهد المنتجة والمخرجة ماريان خوري وفريقها
الذين نظموا هذا الأسبوع من خلال مؤسسة "سينمانيا" الجديدة بالتعاون مع
المؤسسة الثقافية السويسرية "بروهلفستيا" ومؤسسة دعم الفيلم السويسري. وهما
مؤسستان تابعتان للدولة هناك "أي الاتحاد الفيدرالي" لكي يتأكد البعض هنا
من أن الدولة لا تزال تدعم السينما في أعرق الدول الرأسمالية وسويسرا منها.
من "أنس بغداد" إلي "الأوتار تحكي"
* ومن أهم أفلام الأسبوع غير "أسوار المدينة" فيلمان يرتبطان مباشرة بنا
وبمجتمعاتنا العربية.. الأول هو "أنس بغداد" انتاج عام 2002. والذي يقدم
صورة لبغداد القديمة. أي قبيل منتصف القرن الماضي وقبل انشاء دولة إسرائيل
وذكريات بعض من مواطنيها اليهود الذين تركوها قسرا. إما بسبب الاتهامات
التي وجهت لهم أو لترحيلهم. وهي ذكريات يحكونها من مواطنهم الجديدة في
إسرائيل. وفي أمريكا. وبينهم كتاب وأساتذة واكاديميون "بعضهم لا يزال يكتب
أعماله بالعربية" وفي شهاداتهم حنين إلي بلد رائع لم ينسوه قط بعد سنوات
طويلة. أما الفيلم الثاني "الاوتار تحكي" فيقدم تجربة معاكسة لأجيال العرب
الفلسطينيين الذين بقوا بعد النكبة وأصبحوا ضمن عرب إسرائيل من خلال أستاذ
الموسيقي وصانع العود الياس جبران وأبنائه الأربعة كاميليا المغنية
المعروفة ونهاد وخالد وربيع. وكلهم يعملون بالموسيقي والغناء ويحاولون
الاستمرار والتواصل في واقع صعب وبيئة معادية لثقافتهم وهويتهم العربية.
يحاول الأب الحفاظ علي عائلته برغم تفرقها. وهجرة ابنته الكبري. كما يحاول
الاستمرار في صناعة العود حتي لا ينقرض. وفي العزف حتي لا تموت الموسيقي
العربية. والفيلم من اخراج آن ماري هيلير عام 2006 ويدرك المشاهد له أن
أصعب الحروب ليست في ميادين القتال. ولكن داخل المدن. حين يدافع الفلسطيني
عن لغته ووجوده كل لحظة ومن خلال الحياة "المدنية".. ويمتد انتاج الفيلم
السويسري الوثائقي إلي قضايا سياسية مختلفة من خلال فيلم ثالث عن "جيفارا"
أخرجه ريتشارد دينو. واعتمد فيه علي المذكرات الشخصية التي سرد فيها جيفارا
قصته مع الثورة في دولة بوليفيا والتي انتهت باغتياله من مخابرات الجيش
البوليفي والمخابرات المركزية الأمريكية في أكتوبر عام 1967. وبالرغم من
مرور 27 عاما ما بين موت جيفارا وانتاج الفيلم في سويسرا. فإن الافلام لم
تتوقف عن حياة هذا الثائر الكوبي حتي العام قبل الماضي الذي أنتجت السينما
الأمريكية فيه فيلمين عن حياته. واحدا روائيا والثاني وثائقيا.. ومن الجدير
بالذكر أن مخرج الفيلم السويسري ريتشارد دينو هو مخرج فيلم ثان ضمن أفلام
الأسبوع بعنوان "جينيه في شاتيلا" والذي أنجزه عام 1999 عن رحلة الكاتب
الفرنسي جان جينيه إلي مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في بيروت بعد مذبحة
إسرائيل عام 1982 هناك وحيث تأثر كثيرا لما رآه من دمار وعنف. فقرر أن يعود
للكتابة بعد توقف بسبب مرضه بالسرطان. وأن يقدم شهادته علي ما يحدث
للفلسطينيين في كتابه الأخير "أسير عاشق" الذي رحل بعده.
الثلج يهبط في مراكش
* ويأتي فيلم "رياح الشمال" للمخرجة الشابة تبينا أبريل ليقدم صورة للأزمة
الاقتصادية العالمية حين تطيح باستقرار الناس في مجتمع مستقر ثري كالمجتمع
السويسري وقد حصل الفيلم علي جوائز دولية عديدة في مهرجانات الفيلم القصير
وحصل عدد من الأفلام الطويلة والوثائقية علي جوائز أخري. وبقي أن السينما
السويسرية تستحق اطلالة منتظمة علي الجمهور المصري .. والعكس.
magdamaurice1@yahoo.com
الجمهورية المصرية في
19/03/2009 |