أدرك أنني بمقالي هذا قد أثير غضب الكثيرين وهو ما يتحقق غالبا عكس ما
أتمني دائما .فسوف يلاحظ من يتابع عبر الإنترنت تعليقات المدونين المصريين
علي جوائز الأوسكار إعجابهم الشديد وتعاطفهم الكبير مع هذا الفيلم , وهم
يبدون استياءهم الشديد من عدم حصوله علي أي من الجوائز المهمة في تلك
المسابقة السينمائية الأشهر وإقتصار ما ناله منها علي ثلاث جوائز فقط من
مجموع ثلاثة عشر ترشيحا في مختلف الفروع . فالفيلم الأمريكي يعرض تجاريا في
مصر باسم حياة رائعة وهو يحظي بنجاح جماهيري ونقدي كبير مماثل لما يحققه في
أنحاء العالم . صنفه البعض كأحد أروع نماذج الواقعية السحرية و اعتبره
آخرون قصيدة شعرية سينمائية وأجمعت الغالبية علي أنه تمكن من تحقيق معالجة
مبتكرة أحاطت بالعديد من القضايا الفكرية و التيمات الدرامية ومنها الحب و
الصداقة و التسامح و الخيانة و سيرورة الزمن وتدابير القدر وغيرها من
الموضوعات الفلسفية والإنسانية التي كانت وستظل تشغل المفكرين والمبدعين في
كل زمان ومكان . ولكن هل يمكن لعمل فني واحد أن يحيط بكل هذه الأمور وأن
يناقشها بالعمق الذي تستحقه .دعوني أتخذ منهج الفيلم نفسه في السرد وأبدأ
من النهاية . مع آخرلقطات الفيلم يأتي صوت البطل الراوي من خارج الكادر
قائلا بعض الاشخاص ولدوا ليجلسوا قرابة النهر..والبعض ضربوا بالصاعقة
..والبعض ليس لديهم آذان للسمع .. و البعض فنانين ..و البعض يقوموا
بالسباحة..والبعض يعرفون شكسبير ..وبعض الناس يرقصون و البعض أمهات .. هذه
بعض ملامح الشخصيات التي التقي بها البطل عبر حياته الطويلة التي لا تختلف
كثيرا عن حياة أي إنسان إلا في شيء واحد وهو أنها سارت بالعكس . فالأحداث
تبدأ مع عودة الأب باتون إلي الوطن بنهاية الحرب العالمية الأولي ليجد
زوجته تحتضر بعد ولادتها لطفل يبدو مشوها أو أقرب لعجوز طاعن السن ممسوخ في
حجم رضيع ، فيسعي للخلاص منه بإلقائه أمام دار للمسنين مع بعض النقود .
وتجده خادمة المنزل السمراء كويني فتعتبره هدية السماء لامرأة عاقر .ومن
خلالها و في ظل المكان يجد بنجامين الظروف المناسبة لاستمرار حياته التي
رأي الطبيب أنها لن تستمر كثيرا بكل ما يحويه جسده من أمراض شيخوخه ,.ولكن
بنجامين يتعافي يوما بعد يوم وتدب الصحة في جسده مع مرور الزمن .وعندما يمر
علي مولده حوالي ستة عشر عاماً يكون في مظهر رجل في الستينات وحينذاك يخرج
من دار المسنين ليعتمد علي نفسه ويواجه العالم كأي شاب في مقتبل حياته
.خلال أحداث الفيلم نعيش تفاصيل كثيرة من حياة هذا الرجل ومن أهمها قصة
الحب الطويلة مع ديزي التي تعلق بها منذ طفولتها التي توازت مع شيخوخته و
عادا ليلتقيا في مرحلة منتصف العمر لكل منهما .فيرتبط بها وينجب منها
طفلتهما الوحيدة كارولين، ولكنه سيعاني من قلق غير عادي نتيجة لوضعه الغريب
فزوجته تتقدم في السن وفي الشكل في حين تسير معه الأمور علي نحو عكسي وهو
يراقب في نفسه أعراض الارتداد للطفولة، حتي يتخذ قراره بالهروب والاختفاء
عن الأسرة كي لا يسبب أي ألم لابنته ولكن ديزي سوف تلاقيه مرة أخري لتتولي
رعايته كطفل وقد نسي ذكريات حياته الماضية وهو يرتد حتي يصبح علي هيئة وليد
ليصل إلي النهاية المحتومة بالموت . نتابع الحكاية من خلال ديزي التي نعود
لها من حين لآخر وهي علي فراش المستشفي تحكي لإبنتها كارولين مستعينة
بذكريات بنجامين وبأسلوب سردي سينمائي مشوق . .وبينما يعصف إعصار نيفادا
بالمدينة في الزمن الحاضر تتوالي أحداث الماضي مع خلفياتها التاريخية التي
لا تخلوا من دلالات والتي يبقي أقواها وأعظمها تأثيرا الحرب العالمية بما
خلفته من رعب ودمار . فنري صانع الساعات العجوز الضرير الذي فقد إبنه
الوحيد في الحرب وهو يلقي بخطابه المؤثر في حضور الرئيس الأمريكي وهو يكشف
عن ساعة الميدان التي صممها بحيث تعود عقاربها للخلف وليس للأمام لكي يشعر
كل من فقد إبنا أن الزمن يمكن أن يعود إلي الوراء وبالتالي لا يذهب الأبناء
للحرب . وفي بلاغة سينمائية رائعة نري مشاهد الأبناء في الحرب وهي ترتد
للخلف حيث نري القتلي بعد إصابتهم ترجع بهم الصورة عكسيا ليعودو للحياة من
جديد .يحفل الفيلم بتفاصيل جميلة ويتميز بلغة سينمائية مبهرة و يتميز
أسلوبه السردي بالإتقان في انتقاله بين الأزمنة بمنتهي التمكن ودون أن
يتسبب ذلك في أدني قدر من التشتت .. ولكن علي الرغم من كل هذا تبقي دلالات
هذه المشاهد وعلاقتها بالموضوع واهية . فماهي علاقة صنع ساعة تعود إلي
الخلف بإنسان تسير حياته للخلف ..هل هو خيال علمي أو نوع من السحر أو مجرد
معادلة موضوعية لفكرة مجردة . في كل الأحوال يظل هناك حالة من التعسف
تفرضها أحداث الفيلم للربط بين أشياء لا ترتبط موضوعيا وإنما نربط نحن
بينها كمتلقين كنوع من الإسقاط .وهي عملية يسعد بها جمهور السينما جدا وهو
يري أن بإمكانه فك شفرة الفيلم وفهم رموزه .ولكنها مسألة ليست صحيحة في كل
الأحوال خاصة حين تفتقد الحكاية تماسكها كحكاية بسيطة لها منطقها وتتسق
أجزائها مع بعضها بصرف النظر عن البعد الرمزي الذي تتضمنه . اعتمد الفيلم
بشكل أساسي علي طرافة الفكرة وجاذبيتها وإبهار اللغة السينمائية والمؤثرات
الخاصة . ولكن كل هذه الأمور تداري ضعفا واضحا في السيناريو الذي تكمن
مشكلته الرئيسية في رأيي في أن شخصية البطل بلا ملامح خاصة ولم تضعها
الأحداث في الطريق الذي يجعلها تعبر عن الأزمنة التي مرت بها أو تتلاحم مع
ظروفها بشكل مؤثر في مسيرتها الحياتية ، بما في ذلك إقحامها بشكل تقريري في
عملية إسقاط السفينة اليابانية إنتقاما من حادث بيرل هاربر. وتستمر الأحداث
كفصول منفصلة لا يجمعها سوي شخصية البطل التي لايميزها سوي الظرف الذي ولدت
به والذي لا يضعها في محنة حقيقية إلا قرب النهاية عندما يكتشف بنجامين أنه
سائر في طريق حتمي نحو الطفولة فكيف يواجه المجتمع كأب وزوج بهذه الصورة.
وبعيدا عن أي سفسطة أو ادعاء فإنه يمكن التضحية بأي عنصر من عناصر الدراما
إلا الصراع فهو فقط وأيا كان نوعه الذي يجعل ما نراه جديرا بالانتماء
للفيلم الروائي. وهو الذي يضفي تأثيره القوي علي المناطق القليلة التي
يتواجد بها في هذا الفيلم و التي تصل إلي ذروتها في علاقة بنجامين بابنته
التي تركها قبل أن تعي الأشياء وهو يخصها في مذكراته قائلا غادرت قبل ان
يتذكرني أي شخص ..غادرت بحقيبة يد واحدة ..كنت أتمني لو أنني أستطيع أن
أقلك أول يوم في المدرسة..تمنيت أن أعطيك الحياة التي تستحقينها .. ومن
الغريب أن يقارن البعض بين هذا الفيلم ورائعة نفس كاتب السيناريو إيريك روس
فوريست جامب الذي تجلي إبداعه فيها بقدرته التعبيرية وبلاغته الفنية
ومعالجته العبقرية التي مكنته من أن يصنع من مسيرة حياة إنسان معاق ذهنيا
وبطيء الفهم رؤيا فلسفية تمجد قيم الحب وعطاء الأمومة و بقدر ما تسخر من
الحضارة الأمريكية بقدر ما تحترم الإنسان في إصراره وشجاعته وقدرته علي
مواجهة التحديات مهما كانت إمكانياته، دون إغفال للقدرة الإلهية التي تبارك
خطي المجتهدين بمشيئته سبحانه وتعالي . علي المستوي التقني حقق الفيلم درجة
عالية و متقدمة في مجالي الماكياج والمؤثرات الخاصة بدقة شديدة مع كافة
الشخصيات التي مرت بمراحل عمرية مختلفة وبوجه خاص البطل الذي أمكن لفناني
هذا المجال تقديمه في صورة عجوز طاعن السن في جسد وحجم طفل مولود يكبر
تدريجيا عبر الأحداث . وعلي مستوي الإيقاع أيضا تمكن المخرج من صنع حالة
خاصة وفرض أسلوبية تحققت ببراعة في كل عناصر الصورة بما فيها أداء الممثلين
بإلقاء متمهل وفي تناسب طول زمن المشاهد مع طبيعة الأزمنة . فكان من
الطبيعي أن يحصل الفيلم علي أوسكار أفضل مؤثرات بصرية ومونتاج وكذلك أيضا
في الإخراج الفني والذي يتحقق في هذا العمل ليس عبر جماليات التكوين
والصورة في كل مشهد علي حدة ولكن في هذا التكامل و التواصل البصري الذي
يتحقق لصورة الفيلم علي الرغم مما يضمه من تنوع لوني يعكس الأزمنة التي
تتنقل بينها الأحداث من الحاضر إلي الماضي إلي ذكريات الماضي الأقدم. كان
للماكياج والمؤثرات الخاصة تأثيرا كبيرا في التقليص من حجم الأداء التعبيري
لبراد بيت فيما عدا المرحلة التي ظهر فيها بشكل أقرب إلي مرحلته العمرية
الحقيقية وهي مرحلة علي الرغم من محدوديتها إلا أنه أداها ببراعة تتناسب مع
المواقف الدرامية العالية التي تضمنتها و التي عكس من خلالها المحنة
الوجودية للشخصية و قلقها المريع من المستقبل المخجل لأسرة سوف يتحول
عائلها إلي طفل .وبلغ إحساس براد وتعبيراته الذروة في مشهد وداعه الصامت
لزوجته ديزي حيث عكست نظراته مزيجا مركبا من مشاعر الأسف والعتاب و الحزن و
اليأس .أما جوليا أرموند التي قامت بدور ابنته فعلي الرغم من طبيعة دورها
شبه الصامت كممثلة رد فعل في معظم الأحيان ومن محدودية مشاهدها وانحصارها
في فواصل سرد الأحداث إلا أن هذه الممثلة العظيمة قادرة علي أن تقنعك بأي
شيء وأن تجعلك تستجيب لأدائها وصمتها وصوتها فهي لا تتنفس إلا صدقا في وسط
أجواء موغلة في الزيف و الاصطناع الفني . و الآن دعونا نتأمل هذه الكلمات
من جديد : بعض الاشخاص ولدوا ليجلسوا قرابة النهر..والبعض ضربوا بالصاعقة
..والبعض .. و البعض ..والبعض .. و البعض ما علاقة الشعر بهذا الهراء
الأجوف.. إن كاتبها يبدو كمن عرف الماء بعد الجهد بالماء ..فكم تكشف هذه
الكلمات عن ضحالة الرؤيا في الفيلم وتفضح زيفه وإيحاءاته المزيفة بالشعرية
والسحرية وغيرها من صفات أسقطها عليه من وقعوا ضحية فكرته المبهرة وتقنياته
العالية و إدعاءاته الكاذبة .
جريدة القاهرة في
17/03/2009 |