الميراثُ، في الأصل، ممتلكٌ وجَب َانتقاله لمالك ٍجديد وجوب موت ٍأو تنازل
ٍطوعي عن الأمر، وورَثَ الشيء، لغةً، أدخله في ما له وعلى وَرَثَته، هذا في
اللغة إن كانت أمينة لمدارج التأسيس للمعنى في المبنى، ولهذا الإيراد
المعنوي شبهة ُركاكة ٍجرتْ عند الأعراب فيما سبق، إذ طالما اعتُبر البشرُ
من المتاع وسقطه، يورّثان، يتساوى في ذلك الإبلُ والخطبُ المنسوجة من بلاغة
مشكوك في رداءة كاتبيها صنعةً، والنساءُ وشؤونُ الحكم والولايةُ والعمامةُ،
لكن الإضافة السورية (على ذمّتنا) للمراد اللغوي المجتزأ هنا، هو توريثُ
شؤون المعنى وتكهّنات الموهبة واللغة نفسها توريثا يتبختر على قارعة البث
الفضائي بأشيائه، فنا وسياسة واجتماع.
فنفهم إن أورث التاجر ابنه التاجر الآخر ما له من موجودات منقولة وغير
منقولة تقع في وعلى ملكه يتصرّف فيها على ما تحلو له الدربة التربوية وإن
كان الأدب العربي بلاحقته النجيب محفوظية تُنبئنا بالإفلاس المحتوم لضمور
ٍفي مَلَكة التجارة عند الابن أو لالتحاقه بركب الليل مما يستدعيه ركب
ُالليل، من سهر ٍوفجور وتحلّل.
ونفهم إن أورث المغنّي ابنه المغنّي بعضاً من حلاوة الإنشاد تبعا لجينات
نحيلها إلى معجم الـ
DNA في الأروقة العلمية أو إن أورث بحّارٌ أو صيّادُ سمك أو محتالٌ أو
متسوّلٌ أو لصٌ بعضاً أو كلاً من أسرار الصنعة لأحد الأبناء (أو الأخوة
الأصغر، إن لم يتوفر ابن على سبيل الموت بحادث سيارة أو بجرعة زائدة، أو
تهرباً من ضرائب) استمراراً لنهج العائلة في الإبحار أو الصيد أو الاحتيال
أو التسول أو اللصوصية أو لمجرّد الرغبة بذلك، نكاية بأبناء الزوجة الأخرى
أو أبناء العمومة أو الخؤولة ولكن التوريث هنا مشروط ٌبوجوب الحيازة، حيازة
المورِّث للمورَّث، فلا يُعقل أن يور ِّث بضّاعٌ فاشلٌ إفلاسه المعلن
لأولاده، متعة وهبة، ولا ينبغي أن يهب مغن ٍّ له من السماجة والبعد عن
الروح في غنائه، لابنه المغنّي سماجته وبعده ويستمرّان معا في تهديد أهل
البيت والجيران بما يظنّانه شدو عندليب، ولا يجوز أن يمنح قاطع طريق لابنه
كل ما أنجزته الأمّة من دروب وطرق دولية و»كرّوسات» ومسارب يمارس عليها
الخلاصة الأبوية، ولا نفهم أن يقوم سياسي ألحقَ بشعبه وحزبه ومائه وهوائه
كل ما يُلحق بهم من تعريض ٍوتشويه ٍونهب ٍ، بتوريث ابنه السياسي ركام
الدولة ليقضي على ما تبقى من حيوات ملتاعة فيها أو ليبيعها بالمزاد العلني،
للمال القَطَريّ مثلاً لا حصراً، أو للعدم مقسّماً أسهماً أو شركات قابضة.
فكأن التوريث صناعتنا الأولى ومباهاتنا المجتلبة من كيد الطبيعة إلى كيد
الطبيعة، وردّنا النهائي الذي لا ينازعنا فيه صنّاع الآفاق، وكأن الدنيا
تخلو من مهرة في كل مسرب ٍحتى لا نجد إلا المدلّل، وحيد أمه، ليكون مدير
الشركة أو محاسب المزرعة أو مقص دكان الحلاقة أو عدسة كاميرا المخرج، فابن
المنجّد منجّد وابن تاجر المخدرات تاجر مخدرات وابن وزير الدفاع وزير دفاع
أو في مقامه وابن مفتي الديار الجمهورية مفتي ديار جمهورية وقسْ على ذلك
مما تفبركه الدراما السورية الحقيقية وليس المتلفزة، ممثلون هم أبناء
ممثلين ومخرجون هم أبناء مخرجين وكتّاب هم أبناء كتاب، ولسنا هنا بمعرض ذكر
شواهد إذ أن الأمر لا يحتاج أكثر من مشاهدة مقدمة أي / كل مسلسل سوري، أو
لمح تشكيلات حكومية ما، يتساوى في ذلك الشمال بالجنوب، طالما الحديث يدور
هنا وهناك، عن تدخّلات الأبناء في الشؤون السياسية للأحزاب الحاكمة، في غير
بلدٍ عربي، وعن استفاضات في إجراء التنقّلات العسكرية والحكومية لتقريب
الحظوة التابعة من الحظوة المتبوعة.
يخطر لنا، وإن كان خاطرنا مجّانياً في بعض أظلافه، عند متابعة فورة أو ما
يحلو للصحافة المتلبّسة بإعلانات شركة الطيران السورية تسميته السيطرة
الدرامية السورية أو العودة الريادية للدراما السورية، يخطر لنا دخول سوريا
في مجلس الأمن كعضو غير دائم في العام 2002، وما أُشيع عن إشباع القضايا
التي ترسّخت خسرانا على مدِّ العهود، بمدِّ إصرار يُعيد الحق إلى نصابه
المجبول له منذ الأزل، من قضية فلسطين إلى إرباك الكولونيالية الحديثة
بجريد اشتراكي على هيئة كولوخوزات مستمرّة من إفريقيا إلى بعض أوروبا
المترنحة آنذاك، سيطرة أُريدَ بها مباهاة وموازاة السيطرة محض الإعلامية
للسياسة السورية وانتصاراتها المتحققة على عدو وهمي، ليس، أساسا، في وارد
العداوة، تفوّق الدراما السورية الوليدة على باقي الدرامات العريقة منها
كالمصرية والناشئة كالخليجية وهو أشبه بتحميل ِالجمل ِناقلة نفط، ويخطر لي
بوصفي متابعا، مرادف شديد الالتصاق بهذه الفورة وفورات أخرى لا مجال لذكرها
الآن، أن هذا المرادف هو إتاحة غسيل للأموال بعدما أغلقت أبواب أوروبا
الشرقية ببعض ثورات ملونة أو بمحكمة دولية، عن استقبال المال السياسي
ملوثاً (وإن فُتح للمال الملوّث بابا تركيا تفسّره وفود المحافظين ورؤساء
البنوك ورجال الأعمال)، متنفّذون ملّوا دفع شبهة ٍتطال ثرواتهم وحصولهم على
مزايا مسحوبة من خَتَل المنصب، وعسكريون أجبرهم السن متلحفا برداءة في
الأداء على التقاعد والجلوس في مزارعهم المنشأة من صلابة الولاء، فلم لا
نتيح لهم شركات إنتاج درامي أيضا ضمانا للسيطرة على بثَّ الترفيه بعدما
تمَّ الأمر، بثّا، للخبر والصورة المُخبرة وللروح الخفي في الأرض والبحر
والهواء، الأمر شبيه بالذي وجدناه في مصر إبّان عصر انفتاح السادات، عندما
دخل التجار بكامل عدتهم ووعيهم السينمائي سوق السينما بما عرف بسينما
المقاولات، موجةٌ موجعةٌ لشدّة بساطة وسذاجة الفن السابع فيها والبساطة في
السينما غير مرذولة (نحيل إلى أشهر التحققات السينمائية والسينما الإيرانية
الجديدة على وجه الخصوص) لكنها هنا اندراج على غير قصد إبداعي، إنما تحقيقا
لـ»رؤيا» تاجر الفول و»رؤيا» تاجر البيض و»رؤيا» تاجر المخدرات، الخير يعبث
بممكّنات الشرِّ دوما، والدولة تبحث عن سبيل لإرضاء المواطن فلا يرضى
والموظف الوحيد المرتشي في الفيلم يموت تحت ثقل تبصّره، بترتيب غير منطقي
وبعض الغناء والرقص الشرقي حكماً(رقصة الشمعدان تحديداً).
إذن لننتظر في سوريا أفلام مهرّبي التبغ الأجنبي والمخدرات والأسلحة ودراما
مديري مكاتب ضباط الأمن وحجّابهم، في عطب ٍطال باعه وطال.
وماذا بعد ؟
في الجزء الخامس عشر من باب الحارة، سيقوم الحلاق التاسع بطعن ابن مقشّش
الكراسي الخامس ويشتم الثوري الرابع رجل المخابرات الثاني ويقبض على الجميع
الشرطي التاسع والخمسون....، ركودٌ ما بعده ركود، في اليوم والآخر.
المستقبل اللبنانية في
15/03/2009 |