سابقة هوليوودية في منح جائزتي أوسكار لشريط «ميلك» الذي يتناول سيرة أوّل
رجل سياسي مثلي في تاريخ الولايات المتحدة. هذه المكافأة سبقتها عقود طويلة
من النظرة الفوقية والمسيئة للمثليين، ممثلين ومخرجين
بعد الحفاوة التي خصّت بها أكاديميّة «الأوسكار» فيلم «ميلك»، بات
السؤال مشروعاً: هل دخلت هوليوود ــــ أخيراً ــــ مرحلة التكفير عن سنوات
الحظر الطويلة على المثليّة الجنسيّة بصفتها «انحرافاً» أو «سرّاً معيباً»؟
هل تخلّت عن نظرتها الرجعية المحافظة، لتفتح بعد طول انتظار صفحةً جديدةً
في هذا السياق؟ هذا على الأقلّ ما تؤكّده الحفاوة التي استقبل بها عمل غوس
فان سنت الجديد الذي يستوحي سيرة مستشار عمدة سان فرانسيسكو هيرفي ميلك
الذي كان أول سياسي أميركي جاهر بمثليته (اغتيل عام 1978)، إذ حاز الفيلم
أوسكار أفضل ممثل، لبطله شون بن، وأوسكار أفضل سيناريو لمخرجه وشريكه في
كتابة قصة الفيلم السيناريست داستن لانس بلاك.
هذه السابقة الهوليوودية في منح مكافأة من هذا المستوى لشريط يدور حول
شخصيّة مثلية، وصوّرها إيجابياً، تأتي بعد عقود طويلة سلّطت الاستوديوهات
الهوليوودية خلالها نظرةً فوقية ومسيئةً للمثليين. ليس فقط من خلال أسلوب
تناول المثلية على الشاشة، بل أيضاً من خلال «نظام النجوم» الذي يمنع، بشكل
غير مباشر، نجوم هوليوود من المجاهرة بمثليتهم.
في 1933، ضجّت هوليوود، حين قرّر مدير استوديوهات
MGM، لويس ماير، فسخ عقد النجم ويليام هينس لأنّه رفض مراراً «النصائح
الودية» التي قدّمت له بالكفّ عن المجاهرة بميوله المثلية. ما وضع حدّاً
نهائياً لمسار الممثّل الذي اشتهر بأدواره في كلاسيكيات الفنّ السابع مثل
Memory lane (إخراج جون إم ستاهل ــــ 1926)، وShow People
(إخراج كينغ فيدور ــــ 1928). بعد فصله من
MGM، لم يجد ويليام هينس أي استوديو آخر يجرؤ على توقيع عقد فنّي معه،
وعاش «مرذولاً» حتى وفاته في عام 1973.
ذلك المآل القاسي الذي عرفه ويليام هينس أسّس لـ«مكارثية جنسية» منعت
أي نجم هوليوودي من المجاهرة بمثليته. وما زال هذا النوع من النفاق
الاجتماعي غالباً حتى الآن، رغم موجات التحرّر الستينية (انتخاب كيندي)
والتسعينية (سنوات كلينتون). يقول المنتج ألن بول (منتج المسلسل التلفزيوني
الشهير «6 أقدام تحت الأرض») الذي لا يخفي مثليته: «حتى اليوم، لا مثليّة
رسميّاً في هوليوود. بالطبع، في المدينة مثليّون كثر، مثلما كانت عليه
الحال دوماً منذ الثلاثينيات، وبعضهم غير مضطر اليوم لإخفاء مثليته. لكن لا
وجود على الصعيد الرسمي أو المعلن في هوليوود لمجتمع أو حي مثلي، كما هو
رائج في الكثير من مدن العالم».
منذ «المكارثية الجنسية» التي تأسست في الثلاثينيات، تدفّقت مياه
كثيرة تحت جسور «مصنع الأحلام الأميركي». لكنّ هذا التابو ما زال قائماً،
مع بعض الاستثناءات و«الحالات الخاصة». حتى نهاية الستينيات، كانت المجاهرة
بالمثلية كفيلةً بتحطيم حياة أي نجم هوليوودي، مهما كانت مكانته. لذا، كان
النجمان كاري غرانت وتيرون باور مثلاً، مضطرّين لإخفاء صلاتهما المثلية
وراء لبوس الصداقة الذكورية. كانا متزوّجين زواجاً غيرياً
Hétérosexuel،
ما يجعل الاعتراف بمثليتهما جرماً مضاعفاً، لأن استابليشمنت السينما
وجمهورها لم يكونوا مستعدّين لتقبّل فكرة المثلية... ناهيك بالازدواجية
الجنسية
Bisexualité!
حتى نجوم المصاف الأول الذين كانت هوليوود تتقبل منهم أكثر «نزوات النجوم»
سرياليةً، كانوا يخشون أي شائعة قد تسمهم بالمثلية. ما يفسّر، مثلاً، أنّ
نجماً من مصاف روك إيدسون اشتهر بكونه «زير نساء»، ولم تُعرف مثليته إلا
بعد وفاته، عام 1985 رغم أنّه، وفقاً لما اعترف به مقربون منه، لاحقاً، لم
يمارس الحبّ مع امرأة واحدة في حياته!
مع المنعطف الليبرالي، في التسعينيات، بادر العديد من نجوم التلفزيون
في هوليوود للمجاهرة بمثليتهم، ما مهّد لإسقاط هذا التابو نهائياً، سواء
على صعيد الحياة الشخصية للنجوم، أو عبر تناول أكثر جرأة وإنصافاً لقضايا
المثلية في الأعمال التلفزيونية. أما في السينما، فاقتصر الأمر على
استثناءات نادرة أبرزها النجم إيان ماك كيلن، والنجمة جودي فوستر اللذان لم
تتأثر مكانتهما ولا شعبيتهما بكونهما يجاهران بمثليتهما. وما زال كيلن
رمزاً متألقاً، وما زالت فوستر تحمل لقب «أجمل عقل في هوليوود».
لكنّ الموجة التحررية التسعينية أفرزت مفارقة جديدة: من الأسهل على
المخرج إعلان مثليته، بينما تقبّل الأمر صعب جدّاً بالنسبة إلى الممثلين.
عديد من المخرجين لم يعودوا يتحرّجون من المجاهرة بمثليتهم، ومن أشهرهم
مخرج «ميلك»، غوس فان سنت، وتود هاينس (صاحب «لست هناك»، عن حياة بوب ديلان
ــــ 2007)، وبرايان سينجر (صاحب «فالكيري» ــــ 2009)... لكن هوليوود ما
زالت تجد صعوبةً كبيرة في تقبل فكرة أن يجاهر ممثل من الصف الأول بمثليته،
وخصوصاً الذكر. ما يفسر تخبّط مسار النجم روبرت إيفريت، مثلاً، بعدما جاهر
بمثليته. إذ يعترف هو نفسه بأن هوليوود لم تعد تعرف ما الذي يجب أن تفعله
بنجم مثلي من حجمه!
ويفسر النجم إيان ماك كيلن هذه المفارقة بأنّ هوليوود لم تتجاوز بعد
إشكالية تقبل نجوم يؤدون أدوار بطولة ذكورية على الشاشة، فيما أعلنوا على
الملأ أنّهم يميلون إلى أبناء جنسهم في حياة كلّ يوم. ويضيف ماك كيلن: من
الإشكالي بالنسبة إلى الممثل في هوليوود التحدث بنزاهة عن ميوله الجنسية.
كثيرون من نجوم السينما الأميركيّة مثليون، وذلك ليس سراً لأحد، في محيطهم
الاجتماعي والمهني. لكنّ «المكارثية الجنسية الهوليوودية» تجعل من سابع
المستحيلات أن يصالحوا صورتهم على الشاشة مع هويّتهم الجنسيّة الحقيقيّة في
الحياة!
من «فيلادلفيا» إلى «ميلك»
النفاق الاجتماعي المفروض على الممثلين (والممثلات) بفعل «نظام
النجوم» الهوليوودي الرافض لأي مجاهرة بالمثلية، يمثّل انعكاساً، على صعيد
الحياة الشخصية للنجوم، للموقف الفكري الغالب في هوليوود تجاه المثلية. في
شريط توثيقي بعنوان
The celluloïd closet
(إخراج روبرت إيبستاين وجيفري فريدمان ــــ 1996)، تبيّن أن الصورة التي
روّجتها هوليوود عن المثلية، على مدى مئة عام من السينما، كانت دوماً صورة
كاريكاتورية، مضحكة ومسيئة.
لم يتغيّر الخطاب إلا مع ظهور موجة أفلام منتصرة لحقوق المثليين عُرفت
باسم
Queer cinema
في السينما المستقلة الأميركية، وهي أفلام منجزة من سينمائيين مثليين أو
غير مثليين، لكنّها تحمل خطاباً يدعو إلى الإنصاف والمساواة بين الجميع.
لكن الاستوديوهات الهوليوودية ظلت مترددة في تقديم أي علاقات حبّ
مثلية على الشاشة، خشية ردّ فعل الجمهور. وخصوصاً بعد الفشل التجاري الذي
مُني به في أميركا، الفيلم الكوميدي
Making love
(إخراج آرثر هيلر ــــ 1982) الذي كان أول فيلم هوليوودي ظهر فيه بطلان
مثليان (ذكران) يقبّل بعضهما الآخر.
كان لا بدّ من الانتظار حتّى 1993، كي يسقط التابو الهوليوودي المرتبط
بالمثلية. هكذا، جاء «فيلاديلفيا» (إخراج جوناثان ديمي) ليمثّل منعطفاً في
الانتصار لحقوق المثليين. هذا الفيلم أدى فيه توم هانكس دور مثلي مصاب
بالإيدز (حاز عنه أوسكار أفضل ممثل)، نجح في كسب تعاطف الجمهور الأميركي.
لكنّ النقلة التي حقّقها لم تكن مرتبطة أساساً بالمثلية، بقدر ما كانت
منصبّة على اختراق محظور تناول مرض الإيدز على الشاشة.
أما المنعطف الحاسم في كسر التابو الأساسي، فقد حقّقه أنج لي، سنة
2006، من خلال رائعته
Brokeback Mountain
التي صوّر فيها قصة حبّ مثليّة بين اثنين من رعاة البقر في الريف الأميركي
المحافظ. أُطلق الفيلم في «مهرجان البندقية 2005»، ونال «الأسد الذهبي»، ثم
حقّق نجاحاً عالمياً، فأحرز 4 جوائز «غولدن غلوبز». لكنّ «الأكاديميّة»
حجبت الأوسكار عن
Brokebak Mountain،
رغم النجاح الشعبي الذي حقّقه.
ورغم أنّه من المعروف عن هوليوود أنّها تسارع لركوب أي موجة رائجة،
لهثاً وراء المكسب المادي، إلا أنّ النجاح الخارق الذي حقّقه
Brokebak Mountain لم يولّد أي موجة من الأفلام المثلية خلافاً لما
توقّعه كثيرون.
ولا شك في أنّ
Milk
لم يكن ليبصر النور لولا نجاح
Brokebak Mountain. لكن ذلك لا يمنع أن مشاريع أفلام عدة ذات تيمات مرتبطة بالمثلية ما
زالت أسيرة أدراج الاستوديوهات الهوليوودية، منها فيلمان مقتبسان من عملين
أدبيّين رائجين، هما
The front runner
وThe Dreyfus affair
اللذين ما زالا يبحثان عن منتجين منذ 10 سنوات. حتى
Milk، فقد استغرق الأمر أكثر من 16 سنة كي يخرجه غوس فان سنت إلى النور.
أكثر من نجم تراجع عن أداء دور هيرفي ميلك، منهم روبن ويليامز وبرايان
سينجر، قبل أن يتصدّى لأداء هذه الشخصية النجم المشاكس، شون بن، بمهارة
كبيرة تستحقّ الأوسكار...
الأخبار اللبنانية في
09/03/2009 |