لا أحد يعرف كيف أمكن للمخرج المصري الشاب شريف البنداري أن يقنع
مهندس الديكور المعروف والأستاذ في المعهد العالي للسينما في القاهرة صلاح
مرعي كي يشارك كممثل في فيلمه القصير الجديد «ساعة عصاري».
الفيلم يقدم في خمسة عشر دقيقة حكاية الرجل العجوز أبو سليمان (صلاح
مرعي)، وكأنه يصحو للتو من سجال مؤجل مع الحياة ليتعرف «فجأة» على المسميات
الجديدة من تغيرات حلت به من دون أن يحس بها، وهو يكابد غلظة التقدم في
العمر. حتى أنه يتساءل أمامنا ذاهلاً، أو متوقعاً شراً غامضاً سوف يحل به
بعد سؤاله إذا كان ابنه الشاب في الفيلم (باسم السمرة) قد كبر فجأة وازداد
طوله بضعة سنتيميترات خلسة، وكأن مجرد الارتياب بحال ابنه، وعما إذا كان قد
شبّ بالفعل في هذا اليوم بالذات، بعد أن كان أقصر منه بقليل حتى أيام خلت،
هو هدية العمر الذي يتقدم بصاحبه من دون رأفة .
صلاح مرعي، فنان الديكور الكبير الذي لن يزاول مهنة التمثيل ثانية،
إنما يشكل لنفسه في رحلة تأمله في الفيلم بابنه، بالنظر إليه من زاوية أخرى
تكمن في الحذاء، وما إذا كان كعبه عالياً قيمة سينمائية بحد ذاتها. فهو كعب
عادي في نهاية المطاف ويمكن لأي مهتم أن يشاهد منه المئات خلال يوم واحد.
ولكن طريقة النظر من خلاله لمعرفة أحوال كائن قائم بحد ذاته، هو ما يشكل
تلك القيمة المضافة غير العادية في ميدان تقويم الأشياء ومعرفتها والتدقيق
بها. وهي بالتالي مكنت البنداري الشاب من إنشاء قواعد فيلمه الخاصة به
باعتبار أنه يستلهم حكاية أبي سليمان في الأساس من قصة قصيرة للكاتب المصري
ابراهيم أصلان بعنوان «آخر النهار»، فالأيام المنسحبة من الحياة على مرأى
من العجوز هي لحظة تكثيف شعرية بامتياز، وهي من تمكن صلاح مرعي من
اكتشافها، واكتشاف خيبات العمر فيها من خلال نظرة متفحصة في المرآة عبر
التحديق المستمر بتلك الروح المنصرفة إلى شؤون أخرى في العيش، والتي قصرت
بحق صاحبها إذ تهرم فجأة وتحوله إلى شخص ضئيل الحجم ومتردد. وكأنه بإرسال
نظراته تلك إنما يتوسل نفسه لتكشف عن مآلها أمامه درجة أن تسائله عن أحوال
ابنه تبدو كما لو أنها ذريعة غير مهمة للانصراف. فما يريده في الواقع لا
ينطبق على «محاولات» تعرفه إلى ابنه، كما نتوهم للوهلة الأولى، فالعجوز في
الفيلم الذي يقرر خلسة أنه هو من سيصنع القهوة في هذا اليوم بالذات من دون
أن يكترث للشاشة التلفزيونية حتى وهو يستوي قبالتها مع ابنه، إنما يقوم في
الواقع بفعلين متوازيين متواريين في خلط زمني مفضوح. لأنه، كما تنبئنا
صورته في المرآة، يعرف أن هذا نهاره الأخير الذي ستتمدد فيه لحظاته، وتنكمش
فيها علاته على مرأى من ابنه الذي تصبح الزيادة المفاجئة في طوله شأناً
تعبيرياً خاصاً يمكن قراءته من زوايا عدة. فهذه «معضلة» سينمائية صرفة، أو
هذا هو شأن السينما المنصرفة إلى لغتها غير الدارجة، أو ما يمكن تسميته
قواعد الديكور الصارمة في الحياة التي تفرض نفسها في غفلة عن الزمن نفسه.
وهذا هو ما يجعل من صلاح مرعي مناسباً لدور أول وأخير فيه تكثيف للمراس
والصرامة التي لا تتغير قواعدها إلا بفعل فاعل، وما توجسه وتطيره من مهنة
التمثيل إلا علامة تقدير للدور الذي قام به متقصداً وعارفاً به .
قراءة «ساعى عصاري» ليست بعيدة عن قراءة أحوال صلاح مرعي نفسه من هذه
الزاوية بالذات، فهو بطل في الفيلم الذي إجترأ على تغيير بعض قواعد
الديكورات الواقعية بوصفه أول من جعل هذه القواعد الاستثنائية في السينما
بطلاً حقيقياً مكملاً لنزق ونزوات الممثل الذي يتواجد في الحيز اللغوي
للصورة وربما هذا ما حدث من قبل في فيلم «المومياء» للمخرج الراحل شادي عبد
السلام، الذي آمن بصلاح مرعي وأكسبه شرف تصميم ديكورات هذه التحفة
السينمائية الخالدة. وشادي هو من أطلق في سياق العملية الإبداعية الصعبة
والمعقدة لقب كبير كهنة آمون على صلاح، لأنه كما يقول أنسي أبو سيف كان
يعتقد بقدراته الفذة في الإقناع، والسيطرة على كل شيء متصل بهذه العملية
الصعبة، وربما لأنه كان يعرف في قرارة نفسه أن صلاح بطل في الحياة، كما هو
بطل ديكور بوسعه أن يغير من زوايا الرؤيا الإنسانية ببساطة متناهية ومن دون
تكلف ومن دون إحداث أي إدراك، ولو طفيف، في المساحة المتبقية من النظرة
المتقدة في المرآة وبتكثيف عزّ مثيله في أمكنة السينما المصرية المتعددة
الوجوه والنظرات .
العجوز أبو سليمان في حادثة غريبة مستلهمة من حياته الشخصية هو من
قابل شادي عبد السلام في معهد السينما في القاهرة عام 1962، حيث كان يدّرس
طلابه تاريخ الفن والعمارة. كان أبو سليمان شاباً حينها، ويغير قليلاً من
كعب حذائه عند دخوله أو خروجه من المعهد. هذه الحادثة الافتراضية التي تسمى
باللقاء هي من قلبت حياته رأساً على عقب، وهي التي جعلته يحشر رأسه في شرخ
«المومياء» النادر بغية استقصاء الزوايا المهملة في التاريخ ليعرف مدى
التوغل الذي يحدثه الإنسان في المجال المجازي الذي يُقرر له سلفاً لحظة
ولادته .
ولد صلاح مرعي عام 1942 في مدينة المحلة الكبرى (تبعد عن القاهرة نحو
120 كلم) . وفي الأيام البعيدة التي كان يقصر فيها بضع سنتيميترات كل يوم،
كان يخيل إليه في كهولته الموغلة في الزمن أنه يعشق الرسم وموّله به، ولم
تكن السينما تعني له شيئاً. وعندما كان يغير قليلاً من زوايا نظرته إلى
الحياة، كان يمني نفسه بالالتحاق في كلية الفنون الجميلة قسم العمارة، ولم
يكن حتى اللحظة يعرف شيئاً عن فن الديكور ومورثاته الخفية .
يقول صلاح إن أول اتصال حقيقي له بهذا الفن بدأ عام 1959 عندما أنجز
بنوع من السحر العفوي المستفيض ديكورات مسرحية أوديب هو وشقيقه الممثل
الراحل أحمد مرعي، بطل «المومياء» لاحقاً من دون أن يعرف بالضبط ماهية هذا
الديكور الذي عمل عليه بيديه، لكنه يعترف أن التدرب والتفنن على النظر في
المرآة، وعلى التحديق الطويل فيها جعله يكتشف علماً خطيراً لا نهايات له،
وأن القصة كما تبدت له يومها تتعدى أوديب إلى ما هو أعمق في لحظات مكثفة من
خلاصات وعصائر الفن والعمارة والأدب والتاريخ .
بعد ذلك سوف تكون مشاغل صلاح كثيرة، فيما يقرر بأن يكون مقلاً في
عمله، وهو يستريح حيناً بين ديكورات ثمانية وعشرين فيلماً، بعضها شكّل
علامات فارقة في مسيرة السينما المصرية، وإن كان يرى أن لذة الاقامة وطيبها
لا تكونان إلا بين أعمدتها ومستلزماتها من الجدران المشيدة والممرات
الغامضة مثل (المومياء الفلاح الفصيح الجوع عفاريت الاسفلت وراء الشمس بحب
السيما). مشاغله كثيرة حتماً، فهو ليس فقط العحوز أبو سليمان في «ساعة
عصاري»، فالنظر في المرآة إحدى دعاباته الكثيرة، حتى وهو يخرج فيلماً
تسجيلياً عن سمبوزيوم أسوان الدولي للنحت، ويفكر عندما يطيل التفنن بالنظر
إلى المرآة الفرعونية بالتصدي لإخراج فيلم «اخناتون» للراحل شادي عبد
السلام. وإن كان يرى الأمر محض مقامرة قد لا يكسب فيها معركته، وبين هذه
المشاغل وتلك الإقامات المتأملة في الزمن المنسحق أمام عجلات العمر
الاحتياطية كان يعطي دروساً في المعهد العالي للسينما في القاهرة، لأناس ما
زالوا بيننا، وبعضهم غادر فكرة تقاسم الذكريات معه هو العجوز الطيب،
الرقيق، الهادئ، كبير كهنة آمون الذي يرقص في سهرات مهرجان الاسماعيلية
الدولي للأفلام التسجيلية بالجلابية الصعيدية حتى ساعات مبكرة من الصباح
قبل أن يتابع في النهار شؤون ضيوف المهرجان بوصفه نائباً للرئيس. وفوق هذا
كله يمكنه أن يجد الوقت ليقيم في خلوات غير متباعدة في مكتب شادي عبد
السلام بغية إبقاء مكانه مفتوحاً ويحمل اسمه، لأن صلاح مرعي، تلميذ المخرج
الكبير، يعتقد أن مخرج «المومياء» هو شخصية مهمة في تاريخ السينما المصرية،
ولهذا يجب المحافظة على أشيائه إلى أن يحين اليوم الذي يتحول فيه هذا
المكتب إلى متحف ينتصر فيه المكان بديكوراته المميزة التي واظب عليها
العجوز أبو سليمان لتكون المتحف الأرقى للمشاعر الإنسانية التي لم يبخل في
نفحها عبد السلام وهو ينقلها إلى تلاميذه الكبار من بعده.
في هذه الأثناء سوف يجد صلاح مرعي الوقت الكافي ليتأمل ابنه من زوايا
عدة.. من ناحية الكعب العالي، ومن أفيشات يصممها هنا وهناك، وهو يتابع
تفاصيل لا يعرفها سوى من تدرب على «لؤم» النظر الطويل في المرآة مستفيداً
ربما من فلسفات شرقية قديمة .
صلاح ليس فقط العجوز أبو سليمان، ولكنه أبو سليمان أيضاً، وهذه سوف
تحسب للبنداري الشاب وهو يغلق على «أعمار» أستاذه في المعهد العالي للسينما
من دون أن يرأف بذكرياته للحظة واحدة..!!
المستقبل اللبنانية في
08/03/2009 |