"جران تورينو" هو الفيلم الثاني الذي يخرجه كلينت إيستوود خلال عام
واحد بعد "التبديل" (أو المبادلة أو الاستبدال). موضوع يليق بكلينت إيستوود
الذي تقدم بع العمر الآن (78 عاما) كما يليق بممثل ومخرج أصبح يميل أكثر
إلى التأمل في معنى الحياة والموت بينما يتأهب لاستقبال الموت.
من السطح يبدو هذا الفيلم كما لو كان عملا يدور أساسا حول العنصرية،
اختلاف الأجناس والاحتكاك الذي ينشأ بالضرورة خاصة عندما يكون المحور رجل
عجوز هو وولتر كوالاسكي (ايستوود).. كان مقاتلا سابقا في الحرب الكورية في
أوائل الخمسنيات، وعاملا في مصنع للسيارات يظل مرتبطا بذكراه من خلال الشيء
الوحيد العزيز على قلبه وهو سيارة الجراند تورينو من عام 1972.
هذا الرجل يصبح وحيدا تماما في الحياة بعد وفاة زوجته (التي تقام
جنازتها في المشهد الاول من الفيلم)، فهو منفصم الصلة بولديه وأحفاده الذين
لا هم لهم إلا ترقب أن يرثوا ما لديه بعد وفاته، بل إن حفيدته التي لا
تتورع عن حضور الجنازة بلباس يكشف عن بطنها، لا تتورع أيضا عن سؤاله مباشرة
عن مصير سيارته العزيزة بعد موته بل وتطالبه بأن يهبها لها، ويسعى ولده
وزوجته إلى إيداعه بيتا للعجائز المسنين للاستيلاء على منزله ومتعلقاته.
لكن وولتر ليس ضحية عاجزة بل رجل يمتليء بمشاعر عنيفة في داخله، لا
يخفي عنصريته تجاه جيرانه من الصينيين الذين وفدوا إلى تلك البلدة
الأمريكية الهادئة، وتنبع نظرته الرافضة لهم من ماضيه حيث قتل الكثير من
الكوريين في الحرب ولايزال يحتفظ بمسدس ضخم وبندقية. ولا يكف وولتر عن
تعليقاته العنصرية. وهو يرفض جيرانه ويرفض ولديه وأحفاده كما يرفض الكنيسة
ومحاولات القس الكاثوليكي دفعه للعودة للكنيسة والاعتراف، بل وعندما يحدثه
القس الشاب عن الحياة والموت يتساءل وولتر بحدة: ماذا تعرف أنت عن الحياة
والموت. ويروي له جانبا مما خبره خلال الحرب من مآس مازال تأثيرها قائما
عليه. وعندما يسأله القس: وماذا عن الحياة؟ لا يعرف كيف يجيب بل إنه يوافق
القس على أنه عاش حياة فارغة.
فيلم "جران تورينو" إذن يدور في هذا الإطار، في إطار بحث رجل موشك على
الموت، خاصة أنه مريض، غالبا بسرطان الرئة، عن التصالح مع نفسه، بل وبحثه
عن "الخلاص" ولكن بمفهوم دنيوي مباشر.
إنه كرجل يؤمن بضرورة إحقاق الحق ولو لحد التزمت، يتحول في موقفه من
معاداة جيرانه الصينيين إلى مدافع عن ولدهم الشاب الساذج الذي تسعى عصابة
من الصينيين الأشقياء لضمه إليها بشتى الطرق، ويعتدون على شقيقته وينتهي
الأمر أيضا إلى اغتصابها.
الفيلم يدور حول ثنائيات كامنة مثل الأنا والآخر، الحياة والموت،
الحقد والتسامح، الآباء والأبناء، النظرة إلى النفس والنظرة إلى الآخر، هل
التطهر بالاعتراف أم بتقديم عمل صالح.. وغير ذلك.
يتصدى وولتر لعصابة الأشقياء كرجل يؤمن بالحق والعدل، بالعنف تارة،
وبالتهديد تارة أخرى، ويتبنى الشاب الصيني وشقيقته في نوع من "التعويض" عن
افتقاده العلاقة مع ولديه وأحفاده، ويكتشف أن "الآخر".. الجار.. المختلف،
لديه ليس أقل أو أدنى بل لديه أيضا حكمته الخاصة وثقافته التي تمتليء بالحب
والاحترام.
ما ينتهي إليه الفيلم يكشف عن جوهره: هذا الإنسان الذي يكتشف نفسه من
خلال علاقته مع الآخر، ويعرف أخيرا معنى لحياته عندما يقرر أن يهب كل ما
يملك للآخرين بل ويهب أيضا حياته عندما يتصدى وحيدا لعصابة الأشقياء، دون
سلاح لكي يورطهم في قتله بالرصاص وبالتالي يتم تدمير حياتهم بطريقة قانونية
تماما، فهو يفقد حياته، ويقضون هم حياتهم خلف القضبان، ويفوز الجار الصيني
الشاب بسيارة الجراند تورينو بعد أن تعلم من وولتر كيف يصبح رجلا، يواجه
الحياة.
يختلف الفيلم كثيرا عن أفلام إيستوود الأخرى رغم ما أشار إليه البعض
من علاقته بأفلام "هاري القذر" أو بالأحرى بشخصية هاري كالاهان الذي يقوم
بتنفيذ القانون بيديه، أي بتصفية خصومه الذين يعرف أنهم مدانون بنفسه. ورغم
خشونة الشخصية الرئيسية من الظاهر، إلا أنه يعد هنا تجسيدا لأبناء جيله
ولمفاهيم عصره، وأسيرا لتجربته الشخصية القاسية في الحرب أيضا. لكنه أيضا
يفتح عينيه على حقيقة أنه لم يعش الحياة كما ينبغي ولم يفهمها على حقيقتها،
ويتجه إلى نوع من "التكفير" بالتضحية بالنفس، ليس بالضرورة من أجل الآخر،
بل من أجل تقديم "قيمة" عظمى في الحياة قبل أن يودعها.
هذا فيلم بسيط، بديع، رقيق، حافل بالإشارات المرحة رغم قتامة الشخصية
الرئيسية وتشددها. ولعل أداء ايستوود هنا يضفي عليها أيضا رونقا خاصا، هذا
الأداء السهل البسيط المعبر الواثق. إن إيستوود هو الذي يحمل الفيلم كله
على كتفيه، ويبدو كالأستاذ الذي يعلم الممثلين الآخرين في الفيلم كيف
يتعاملون معه دون وجل.
كلينت إيستوود أعلن أن هذا الفيلم سيكون الأخير له كممثل. وأقول إنه
ربما يصبح أيضا الفيلم الأخير له كمخرج.. ففيه نوع من إعادة اكتشاف الذات
دون أن يكون بالضرورة يدور حول "الرؤية الذاتية".
حياة في السينما في
06/03/2009 |