هو فنان صاحب مواقف فكرية وإيديولوجية اختار شريط السينما سلاحاً يقاوم به
القهر بكل تجلياته على حدّ تعبيره.. وهو رابع ثلاثة حملوا راية السينما
التسجيلية المصرية منذ بدايات القرن العشرين وسجلوا بكاميراتهم ميلاد الحلم
التسجيلي والحلم القومي العربي في أعظم لحظات الأمل بالتحرر من الهيمنة
والاستعمار.. هو فؤاد التهامي أكبر المخرجين التسجيليين المصريين سنا الآن
(75عاما في فبراير) وأطولهم قامة وأعلاهم قيمة وهو رئيس اتحاد التسجيليين
المصريين وهو شقيق صلاح التهامي الذي وضع مع رفيقيه سعد نديم وعبد القادر
التلمساني حجر الأساس لصرح السينما التسجيلية المصرية.
وفؤاد التهامي لم يبدأ كالآخرين فقد دفع به العمل النضالي المبكر إلى
المعتقل ولم يكن قد تجاوز حينها الثامنة عشرة من عمره وطرد من قسم الاجتماع
بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وفي المعتقل وجد الكتاب الذي غير مسار حياته
وقرر بعد خروجه قرب الثلاثين من عمره أن يعود إلى الدراسة طالبا بمعهد
الفنون المسرحية ويعمل بالإخراج التسجيلي مع شقيقه ثم عدد كبير من المخرجين
في تلك المرحلة التي شهدت اهتماما كبيرا بهذا الفن حتى يبدأ تجربته كمخرج
فيقدم عدداً هائلاً من الأفلام والمخرجين من تلاميذه. ومن أفلامه "حدوتة
مصرية فلسطينية " 2002 و"كريمة منصور صورة شخصية" 2000 و"شهادات الفلاحة
والفلاح الفصيح" 1998 و"من الصباح إلى المساء – من باكوس إلى جاراجوس" 1996
و"أحوال - البنت المصرية في قرية الأخصاص" 1995 و"شارع قصر النيل" 1993
وغيرها. وعاش فؤاد التهامي في العراق وعمل تحت رئاسة محمد سعيد الصحاف وزير
الإعلام العراقي السابق ليقدم من هناك "قريتي" 1978 وفيلمه الروائي الوحيد
"التجربة" في العام نفسه وحصل به على جائزة لجنة التحكيم الخاصة من مهرجان
"كارلوفيفاري" وجائزة تقديرية من مهرجان "طشقند" وقدم أيضا "مدينتي لا
تحزني" و"فلسطين وطني" و"نفطنا لنا" و"الجولان" ومع قرب تولي الرئيس صدام
حسين للسلطة رحل فؤاد التهامي إلى بيروت للعمل مع منظمة التحرير الفلسطينية
في قسم السينما لكنه أصبح الشخص الوحيد الذي تم طرده في تاريخ المنظمة من
عضويتها بعد أن رفعت قياداتها في ذلك الوقت شعار مكافحة ظاهرة "التهاميزم"
فعاد إلى مصر.
يقول فؤاد التهامي في البداية: يتناسب تواجد الفيلم التسجيلي في أي مجتمع
طرديا مع مساحة الحرية والديمقراطية التي يتمتع بها هذا المجتمع، لذلك يصعب
تحميل الجمهور أو حتى السينمائيين مسئولية عدم تواجد الفيلم التسجيلي خاصة
أن هناك مغالطة دائمة يتحدث عنها الذين يقفون حائلا بين الجمهور وبينه حيث
يقولون إن الجمهور لا يقبل عليه لكن السؤال الأهم والسابق على هذا هو هل
قمتم بعرضه في دور العرض ليرفضه الجمهور أو يقبله؟!
والحقيقة أن الأنظمة السياسية القمعية "تتحسس مسدسها دائما أما السينما
التسجيلية فهي تسجل الواقع دون رتوش وتوثق للتاريخ ما يدينها"
·
لو عدنا لبداية رحلتك مع السينما
التسجيلية والتي واكبت فترة بناء السد العالي التي تم توثيقها تسجيليا..
كيف كانت؟
حين خرجت من المعتقل كانت فكرة العمل بالسينما قد استقرت بداخلي وجعلتها
سري الخاص - حتى إن شقيقي الأكبر لم يعرف بهذا السر إلا عام1995 أي قبل
رحيله بعامين - وكان أمامي في هذه الفترة أحد اختيارين إما معهد السينما
الذي أنشئ حديثا ومعهد الفنون المسرحية واخترت الثاني لأن العمل الثقافي
فيه كان أساسياً وأثناء الدراسة طلب مني صلاح التهامي أن أعمل معه مساعداً
وكان حاسماً في عمله فقال بوضوح سيكون العمل على سبيل التجربة فقط.
وكنت سريع الاستجابة للتعليم والعمل وبعد ثلاثة أفلام استطعت أن أقوم
بتركيب الفيلم في المونتاج لأني بالإضافة للعمل كنت أقرأ في السينما وأدرس
في المعهد ولكني كنت أستغل فترة الغياب المسموح بها في السفر للتصوير في
أسوان أثناء تنفيذ مشروع السد العالي وكنا نسافر مدنا أخرى طبقا لمخططات
تنفيذ المشروع وهذا السفر منحني فرصة لأرى مصر بالكامل ولم يكن الأمر سياحة
بل استقراء وتعمق في كل مكان بشكل مستقل، تعرفت على مصر التي كانت تصوراً
مجرداً في معظمها لتتحول إلى بشر وأماكن لمشاعري علاقة بها والمرحلة نفسها
كان قطار التنمية خلالها يسير بمعدل مذهل واكتشفت وقتها أشياء لم تكن تخطر
ببالي أبدا فمثلا هناك واقعة كانت مدهشة جدا بالنسبة لنا، كنا ننتقل في
موقع بناء السد العالي بعربات التليفريك وأردنا أن نصور من فوق أكبر "ونش"
بالسد العالي وصعدنا إليه لنفاجأ أن قائده شخص بسيط جدا وبجواره "كراسة"
واكتشفت أنه يتعلم القراءة والكتابة في أوقات فراغه ومازلت أذكر اسمه وهو
"محمد الصغير" ورغم بساطته كان يقود "ونش" عملاقا ومعقد التركيب للغاية
وسألت وزير السد العالي وقتها وهو محمد صدقي سليمان عنه فقال إنه سبب مشكلة
كبيرة لأن جميع المهندسين والعاملين والخبراء يدخلون ورش تدريب ويتم تحديد
مرتب كل منهم طبقا لكفاءته وحين أدخل "محمد الصغير" ورشة فاز بالمركز الأول
على الجميع في الاختبار "الشفهي" رغم وجود مهندسين وخبراء على مستوى عال من
المصريين والسوفييت وعرفت أنه قبل أن يعمل بالسد العالي كان يشتغل في قريته
على "ساقية".. المهم أن الوزير فاجأنا بأن مرتب هذا السائق هو أعلى أجر
بالسد العالي وكانت المشكلة أن حصوله على أعلى مرتب يمكن أن يسبب مشكلة بين
المهندسين والخبراء ويمكن أن نخسره تماما وقام الوزير بنفسه بعمل دفتر
توفير له وأصبح يحصل على مرتب عادي شهريا بينما يقوم الوزير بنفسه بإيداع
باقي مرتبه في دفتر التوفير كي لا يحدث تلاعب.
·
هل كانت أهمية الفيلم التسجيلي
تصل لدرجة قيام العاملين على تصويره بسؤال الوزير حول عامل؟
صدقي سليمان لم يكن وزيرا عاديا فأول مرة رأيته فيها أدهشني فقد طلب مني
صلاح التهامي أن أكون جاهزا لتصوير الوزير ولم أكن أعرف شكله فسألته "أين
الوزير؟" فأشار إلى شخص يجلس مع مجموعة من العمال الصعايدة ويشرح لهم كيف
يستخدمون آلة الحفر في الصخر لوضع الديناميت في الحفر.
·
هل شعرت – في ذلك الحين – بوجود
مشروع قومي؟
تأكدت من أن هناك شيئاً يتم على الأرض.. السد العالي وأبراج الكهرباء
وقناطر لتضيف إلى كهربة السد العالي ومكملات مائية، باختصار اقتنعت بعبد
الناصر تماماً في الفترة من 1963 حتى 1967.
·
كيف استقبلت هزيمة 1967؟
فوجئت بالخبر فكان ردي أن الحرب لم تنته وأن اللحظة تتطلب التمسك باختيار
المقاومة لنخوض معركة طويلة لكن ما حدث هو أن الرئيس جمال عبد الناصر تنحى
عن الحكم وكشاهد عيان عاش ما حدث أؤكد أنه من المستحيل أن تكون المظاهرات
التي جعلته يتراجع عن قراره عبارة عن سيناريو كما قيل وأنا كنت قد تزوجت،
في تلك الفترة ولدي ابن عمره عام واحد ويومها ذهبت إلى بيت والدي لأسمع معه
الخطاب الذي ننتظره من الرئيس وبعد أن انتهى الخطاب شعرت بضيق شديد فخرجت
واتجهت إلى وسط القاهرة مستقلا "باص" وعلى طول الطريق كانت النساء يصرخن من
النوافذ ويرددن شعارات ضد فكرة التنحي بشكل جماعي ووصلت إلى وسط القاهرة
وفي ميدان التحرير بالتحديد وجدت كل أصدقائي هناك في مقهى كنا نجلس فيه
وكنا جميعا في حالة سيئة ونبحث عن بعضنا لنتماسك لأن الجميع كانوا في حالة
انهيار ولم يكن هناك وقت أو قدرة على التخطيط لمثل هذه المظاهرات..
·
كيف انعكست الهزيمة على عملك؟
أنهيت الدراسة في المعهد في العام نفسه ولكني رشحت لإخراج عدد من الأفلام
واستبعدت لكوني طالبا وكتبت سيناريوهات لعبد القادر التلمساني (فيلمان)
وعملت مساعدا وفي أثناء تنفيذ أحد الأفلام التقيت مع شخص في محافظة البحيرة
– شمال مصر – واندفعت إليه أعانقه.. لم أكن أعرف اسمه لكني تذكرت وجهه حيث
كان يسلمنا الأسلحة في الإسماعيلية عام 1951 في معركتنا ضد الانجليز أثناء
المقاومة واندهش الرجل وحين حكيت له القصة تأثر جدا واتضح أنه وجيه أباظة
عضو تنظيم الضباط الأحرار ومحافظ البحيرة في ذلك الوقت وقام بتكليفي
بمجموعة أفلام عن التنمية هناك، ثم قدمت فيلمين عن اتحادات عمال مصر كتبهما
الراحل سامي المعداوي.
وبدأت المشاكل الحقيقية في العمل بعد رحيل جمال عبد الناصر بسنوات قليلة
وقد فصلت من عملي بالمركز القومي للسينما في ما اشتهر باسم مذبحة الصحفيين
فلم يكونوا صحفيين فقط الذين طردهم السادات من أعمالهم ولكنهم كانوا من
الفنانين وكل من تجرأ على معارضته، وفي ذلك الوقت كنت قد أنجبت طفلي الثاني
وأصبح التساؤل هو كيف أقوم برعاية أسرتي وفجأة وجدت دعوة إلى مهرجان ثقافي
في العراق ولم أفاجأ حين وجدت أن كل الذين طردهم السادات من أعمالهم مدعوون
إليه وهناك وجدت عددا كبيرا من المصريين يعملون في مؤسسة السينما والمسرح
في العراق وقال لي بعضهم إن مديرها يريد رؤيتي وكان محمد سعيد الصحاف وزير
الإعلام فيما بعد وقيل لي إن الرجل يضع مسدسا أمامه في الاجتماعات والتقيته
وصارحني بأنه يريدني أن أعمل فتحدثت بوضوح عن شروطي في ألا يفرض علي أي
رؤية في عملي وانتهيت بقولي: من لا يعجبني قد أقوم بضربه وضحك وعانقني
وانتهى اللقاء بأن أصبحنا أصدقاء وبدأت العمل هناك فقدمت مجموعة أفلام ولكن
بعض الكتاب الذين عملوا في العراق كانوا يبيعون ضمائرهم وينغصون حياتنا
جميعا وبينهم كتاب كبار ذوو أسماء رنانة ومع قدوم عام 1979 كانت الأوضاع قد
بدأت في التغير وظهر النائب القوي الذي يرتعد لمجرد ذكر اسمه الجميع صدام
حسين ولكني كنت قد قررت الرحيل إلى بيروت، وأبلغت المسئول عن المؤسسة وكان
الصحاف قد أصبح سفيرا للعراق في الهند، وفوجئت بأحد الموظفين يبلغني أن
النائب قرر صرف خمسة وأربعين ألف دينار (نحو مائتي ألف دولار وقتها) لي
مكافأة عن فيلمي "التجربة" فقمت بتوزيعها بالكامل وبالتساوي على فريق العمل
عمالا وفنيين وفنانين.
·
تجربة منظمة التحرير
الفلسطينية.. غريبة قليلا كيف انتهت بهذه السرعة؟
أنا واحد من أعضاء جماعة السينما الجديدة التي تشكلت في مصر عقب الهزيمة
وكان معنا فيها غالب شعت الذي أصبح في تلك الفترة مسئولا عن السينما في
المنظمة وفي الوقت نفسه هو صديقي والحقيقة الأساس هي أني أردت العمل
السياسي لا السينمائي لكن ما سبب لي الإزعاج وواجهته في بغداد من بعض الذين
يطلق عليهم مناضلون بينما هم يبيعون الكلمة والقيمة وجدته في المنظمة
ببيروت حتى إنني قلتها مباشرة لأبو عمار (ياسر عرفات) حين التقيت به "أنا
مع استقلال القرار الفلسطيني حتى الموت لكني مع استقلال القرار المصري حتى
ما بعد الموت" وفهم الرجل الرسالة وتأكيدا أصدرت مجلة متواضعة جدا اسمها
"مصر" وحين صدر العدد الثاني منها كنت قد طردت من المنظمة وأعتقد أنني
الوحيد في تاريخ المنظمة الذي بادرت بفصله وعدت إلى مصر لأستكمل مشوار
العمل السينمائي في نهاية عام 1979.
سينما إيزيس في
06/03/2009 |