قيل وكُتب الكثير وتناهى الكثير الى مسامعنا عن
"المليونير المتشرد"، الفيلم الاوسكاري ذي الموازنة الضئيلة الذي تحوّل
ظاهرة
اجتماعية وثقافية، وهي الظاهرة السينمائية الأوسع انتشاراً، على ما يبدو،
منذ "تايتانيك"
(1997) لجيمس كاميرون. ثمة اقتناع يفرض علينا الاعتقاد أن الأهم لم يُقل
بعد. ولعل الزمن كفيل أن يعيد الإعتبار الى هذا الفيلم، بعيداً من الإنفعال
وضغوط
وسائل الإعلام، لأن داني بويل لا يستغل البؤس (وماذا يعني
أصلاً هذا الاتهام؟) ولا
يرمي نظرة سياحية خاطفة وسريعة على أكثر البلدان كثافة سكانية وفقراً في
العالم. من
خلال تصويره الهند، لا يكتفي المخرج الانكليزي بتقديم هدية الى هذا البلد
فحسب أنما
يساوي أيضاً بين الدمعة والابتسامة، بين الأخلاق والفساد، بين
الحب والكراهية، وبين
أشياء أخرى متناقضة، تتشكل منها الهند الحديثة، وهي ضرورية للتراجيديا
الفكاهية
التي يرويها لنا مستنداً الى رواية لفيكاس سوابور تم تحريف جزء كبير منها
عند نقلها
الى الشاشة لأغراض سينمائية. وما من شيء طبيعي أكثر من أن نرى
الفقر المدقع
والكاميرا تدخل بيوت الصفيح في مدينة مومباي حيث أبطال قصتنا. فالفيلم في
نهاية
الأمر قصة متشرد يصبح مليونيراً، وليس عن مليونير يتحول متشرداً. كثيرون
تحدثوا عن
البؤس، لكن قلة ذكرت العنف المستديم المتحكم بمصير الهند، منذ
العهود السحيقة،
وأهمها عنف العلاقات وأيضاً العنف الناتج من الكثافة السكانية، بحيث يتصدر
الصراع
على المساحة حياة الناس اليومية. وبيوت التنك هي فكرة حسنة للتحدث عن الهند
وماهيتها، لأنها استعارة تودي ببويل وشريطه الى بعيد.
جمال مالك، شاب ولد وعاش
في بيوت الصفيح. عاش طفولة معذبة ومرحة لا يغيب فيها عمق
التجربة. يطارد الفيلم
سيرته التي لا يمكن فصلها عن سيرة أخيه سليم. لكن الظروف القاسية وطباع كل
واحد
منهما سيفصلان الواحد عن الآخر. هناك أيضاً لاتيكا، الفتاة التي يحبها
جمال، والتي
سيكون لها مصير آخر عن مصير الأخوين. ذات يوم، ستتاح لجمال
المشاركة في النسخة
الهندية لبرنامج "من سيربح المليون؟"، على رغم أنه لم يكن يطمح الى الربح
بقدر ما
كان يريد من اطلالته التلفزيونية أن تساعده في العثور على لاتيكا، وهو يعلم
أنها
مثل معظم الهنود، تتابع حلقاته الاسبوعية. أجوبة جمال كلها
ستكون صحيحة، لكن، قبل
الوصول الى السؤال الأخير الذي يضمن له الفوز بالجائزة الكبرى، يسلّمه
مقدّم
البرنامج الى الشرطة متهماً اياه بالغش. في مقر الشرطة، سيُطلب منه أن يبرر
كيفية
علمه بالأجوبة.
لبويل اسلوب رافق معظم أعماله: كاميرا موتورة وموسيقى صاخبة
وشيء من فتافيت الأدب الانكليزي (ديكنز هنا كثير الحضور)، وهذا كله يتحكم
بمصير
الشخصيات. حتى في الهند، يبقى بويل وفياً لنفسه ولغته
السينمائية. التقطيع سريع
وسلس، لكن هناك ما يكفي من الوقت للجميع كي يجدوا حضوراً لهم على الشاشة.
دائماً
هناك حدث ما يقلب حياة شخوصه، من "تراينسبوتينغ" الى "الملايين" مروراً
بـ"الشاطئ"،
مع رغبة شيقة من جانبه لوضعهم في اطار مكاني جديد. والقاعدة لا
تختلف هنا كثيراً.
اذ أن الاطار المكاني هنا هو ذلك الكرسي الذي سيجلس عليه جمال مالك ليردّ
على أسئلة
مقدم "من سيربح المليون؟"، للوصول الى الجائزة الكبرى. كرسي آخر سيجلس عليه
أيضاً،
لكن هذه المرة في مخفر الشرطة وأمام المحقق. وهذان مكانان لا شك أن جمال لم
يدخل
اليهما سابقاً في حياته. يروي بويل غربة الجسد عن المكان
والدهشة من الإنوجاد فيه.
يكفي أن ننظر كيف يحرك جمال عينيه عندما يجلس في الإستوديو أمام الجمهور.
ويكفي أن
نتذكر ما سيعانيه جسده النحيف في مقر الشرطة من ضرب مبرح عنيف عندما يخرج
من
المساحة التي لا يحق له الخروج منها. هناك أيضاً الاعتراف.
هذان محوران اساسيان في
الفيلم: الكرسي والاعتراف. حين يجلس جمال على كرسي البرنامج، يكون ذلك بغية
الاعتراف بما عاشه من مآسٍ أوصلته الى هنا. سيقول في الهند أشياء كثيرة:
حب، تطرف
ديني، استغلال للطفولة... صحيح أنه، من جانبنا، نرى صور حياته،
لكنه يعد بتأكيد ما
نراه، وكلامه كثيراً ما يكون مدخلنا الى الصورة، ليس العكس. ويأخذ الاعتراف
شكلاً
آخر حين يجلس أمام المحقق الذي نستطيع تشبيهه بالمتلقي الآتي بكل أفكاره
الجاهزة.
هنا الاعتراف سيكون وسيلة اقناع. وسيلة
لإقناع الشرطة (السلطة) بأن ما يعرفه هو
نتيجة ما عاشه.
لا تمنع الحبكتان المتداخلتان (داخل الإستوديو/ مقر الشرطة من
جانب وسيرة جمال من جانب آخر) بويل من أن يمنح الاهتمام الى كل ما يسود في
الخلفية
الاجتماعية والثقافية والسياسية للفيلم. فالهند شخصية ثانوية
ورئيسية في "المليونير
المتشرد". لكن النصّ (لسايمون بوفوي) الذي عولج كما في التراجيديات، يفسح
في المجال
للسياق الاجتماعي أن يكون له حضور ذو دلالات. كل شيء هنا قابل للبيع
والشراء، حتى
عيون الاولاد الشحاذين التي ينتزعها من يتحكم بهم لأن ولدا
كفيفا أكثر مردوداً من
ولد يرى. كل شيء مسألة طبقات، ولا سبيل للإفلات من الحتمية الاجتماعية الا
عبر
الانضمام الى الجريمة المنظمة، والمافيات التي تذل الضعفاء من اليتامى
والمهمشين.
لكن هند بويل هي ايضاً هند الحب، وهند تاج محل، وهند أميتاب باتشان، وكل
هذه
الاشياء التي تحاول تحطيم صورة الهند الحقيقية. لكن هذه القيم تمرغ في
الوحل:
لاتيكا تسخر من الشعور الأسمى عندما تقول لجمال "ممّ سنعيش؟ من الحب؟"،
وتاريخ تاج
محل يصبح مادة للطرافة والهزء. أما باتشان، النجم الأكبر للسينما
البوليوودية،
فيوقّع اوتوغرافاً لمن يخرج من بركة بزار. واستطراداً، يلجأ
بويل الى القفز بين
اسلوبين سينمائيين: الاسلوب الغربي في البناء الدرامي في مقابل اسلوب
السينما
البوليوودية التي يستعير منها بعض العادات والتقاليد، من قبيل الطرافة
والتحية
والمحاكاة، ايماناً منه بأن هذه السينما تشكل جزءاً اساسياً من
حياة الهنود، أكبر
بلد صناعة للسينما في العالم، كمّاً وليس نوعية.
يعرف "المليونير المتشرد" كيف
يسمرّ المشاهد في مقعده. الإمكانات السينمائية المستخدمة ليست
قليلة، والتشويق حاضر
خلال فترة الفيلم، لكن ليس هذا السبب الوحيد. هناك سحر المكان، وسحر
الموسيقى، وسحر
جمال وسليم ولاتيكا، في مختلف أعمارهم. انه مزيج الاطعمة والروائح التي
نكاد
نتلمسها لشدة براعة الفيلم في نقلنا الى البيئة الهندية في زمن
التحولات الكبرى.
نعم، هذه التحولات هي ما يرصده ايضاً نصّ الفيلم: بيوت التنك ستفسح في
المجال،
شيئاً فشيئاً، أمام ناطحات السحاب كي تعلو في سماء الهند، وأحاسيس الطفولة
ستصبح
أسيرة المادية وأسس العيش الجديدة الدخيلة على مثل هذه
المجتمعات التي تستورد الغث
والسمين من الخارج. كان يمكن أن يُكتب لجمال وسليم ولاتيكا غير ذلك المصير
الذي
سيحظون به، لكن بويل يريد اظهار المقلب الآخر لشعار الهند "وحدها الحقيقة
تنتصر".
أيّ حقيقة وأي نصر؟ فنحن أمام شاشة بوليوودية تمنح الأمل للناس، رقصاً
وهيجاناً
وفرحاً وألحاناً. ولا بد لأحدهم أن يدفع الثمن وأن يتنحى ليترك
الحبيبين مزهوين
باللقاء الابدي النهائي.
() Slumdog Millionaire -
يعرض في صالات "غراند -
أ ب ث، كونكورد، لاس ساليناس".
(
hauvick.habechian@annahar.com.lb)
سوتيغي كوياته:
"نهر لندن" يعلّمنا ألاّ نخاف من النظر في عين
الآخر
في الدورة الأخيرة من مهرجان برلين السينمائي،
نال الممثل المالي سوتيغي كوياته، 72 عاماً، جائزة أفضل تمثيل
عن دوره في "نهر
لندن" لرشيد بوشارب، المشارك في المسابقة الرسمية، والذي استند الى الهجمات
الإرهابية التي هزّت العاصمة البريطانية في السابع من تموز 2005، ليقفز
منها الى
قصة خيالية جميلة. 4 كان عدد الإرهابيين الذين وضعوا المتفجرات
في مترو المدينة،
قبل أن يعلنوا حرباً مفتوحة على المجتمع البريطاني برمته، وكرهم العقائدي
له. هذه
الضغينة انتجت 56 قتيلاً ونحواً من 700 جريح. ما يهتم به بوشارب هو مرحلة
ما بعد
حدوث الجريمة، من خلال تعاطفه مع رجل (كوياته) وامرأة (الرائعة
بريندا بليثين)،
الأول مسلم والثانية مسيحية، كلاهما خسر ابناً في ذلك اليوم.
هنا شهادة من كوياته
عن أفريقيا وبوشارب ومهنة التمثيل التي يمارسها منذ 43 عاماً.
"ليست أفريقيا
وحدها معنية بتيمة الفيلم انما العالم برمته. يتعلق الأمر بأزمة التواصل
بين الشعوب
وبسؤال الهوية. وهذه قضية حاضرة بها أفريقيا اكثر من غيرها من القارات.
حسبي أن لكل
أفريقي واجباً حيال أفريقيا ما دام يحمل وطنه في داخله. لكن أفريقيا شديدة
التعرض
لسوء الفهم من الآخرين وايضاً من الأفريقيين أنفسهم. كلمة "أفريقيا" وحدها
كلمة في
منتهى السطحية. تبلغ مساحة افريقيا 3 ملايين كلم مربع، أي ما يعادل مساحة
أوروبا،
الولايات المتحدة، الصين والأرجنتين مجتمعة. ولا يمكننا التحدث
عنها كما لو كانت
عبارة عن تجمّع صغير من الناس. ما يثير اهتمامي في فيلم رشيد هو انه يُري
رجلاً
افريقياً في خريف عمره يسافر من أجل أن يرى بأم عينيه ما حلّ بالافارقة
المهاجرين
الى أوروبا، وما الذي حفّزهم على الرحيل والعيش هناك. عدد من
الافلام تصور الأفرو -
أميركيين يعودون الى قاراتهم بحثاً عن جذورهم. أما هذا الفيلم فهو يُري
العكس. لكن،
ما دمت أفريقياً، وسأظله دائماً، فما يهمني في المقام الأول في أي فيلم هو
الانسانية. لا تهمني القصة التي لا يكون فيها للروح الانسانية
وجود. "نهر لندن" هو
عن المشكلة التي تثيرها الحياة بالنسبة الى البشر. هو فيلم عن هجمات 7/7،
ويتحدث
أيضاً عن الاسلام، علماً أن هذا الموضوع لا يتصدر الفيلم. وهو ايضاً عن عدم
قبول
البعض للبعض الآخر. انه أيضاً فيلم عن كيفية رد فعلنا حيال
الأشياء، وهذا ما كان
يهمني. ويعلّمنا الا نخاف من النظر في عين الآخر حين نقابله. اذا كان لديك
ما يكفي
من الشجاعة لفعل ذلك، فسينتهي بك الأمر في أن تكون لك رؤية أفضل عن نفسك.
هناك
مقولة افريقية مفادها: أعدني ثانية الى الأمس. وهذا يعني في طبيعة الحال أن
الأمس
ينطوي على ذكرى جميلة. تجربتي الاولى مع رشيد استطيع أن ألخصها على هذا
النحو.
أشياء كثيرة جمعتنا بدءاً من خلفياتنا التاريخية المشتركة وصولاً الى
جوانبنا
الانسانية. من النادر وجود مثل هذا الانفتاح وهذا الاحترام للآخر الموجود
عند رشيد.
عندما كنا نعمل معاً على "السنغال الصغير"، كان يطلب اليّ أن أبدي
اقتراحاتي وأوجه
النقد، وهذا شيء يندر ان يفعله مخرج. الأكثر اثارة للدهشة أنه كان يأخذ
رأيي في
الاعتبار، ويعيد صوغ النصّ وفق ملاحظاتي. اذاً، بعد "السنغال الصغير"،
عندما ابدى
لي رشيد اهتمامه بالعمل معي مجدداً، لم يكن في اعماق نفسي شيء أتمناه أكثر
من ذلك.
لكن كان لا بدّ من بعض الوقت للوصول الى نتيجة ملموسة: 8 سنوات. وعندما
اقترح عليّ "نهر
لندن"، سارعت الى القبول. ومن اللحظة التي بدأنا التصوير في لندن، ادركت
انني
لم أشعر يوماً بهذا التناغم خلال عملية تصوير. لم نختلف على شيء اطلاقاً.
اعترضتنا
هموم صغيرة: كان الطقس ممطراً؛ بعض الجيران يشتكون من الازعاج الناتج من
التصوير.
لكن الفريق كله، بدءاً من أصغر تقني الى المنتج، كان متكاتفاً. كان الأمر
أشبه بقصة
حب! (...). موهبة رشيد انه يعرف كيف يستخلص روح التعاون بين أفراد الطاقم.
نادراً
ما شاهدت هذه الروحية بين أفراد فريق واحد.
بعد اعطائي الموافقة على المشاركة
في الفيلم، اقترح عليّ رشيد مشاهدة ذلك الفيلم حيث اضطلعت
بريندا بدور، وهو "أسرار
وأكاذيب" لمايك لي. اتفقنا بسرعة انه ينبغي لها ان تلعب دور المرأة
الانكليزية.
لكن، لم نجد توقيتاً لا نكون فيه، نحن الاثنين معاً، مرتبطين بمشروع
سينمائي ما. لم
أكن أتكلم الانكليزية، فيما هي كانت تملك القليل من الفرنسية. لكن حصل
اللقاء
بيننا، وعلمنا بأننا سنعمل معاً على هذا المشروع. وبقي رشيد ينتظر. كان
يعرف ما
يريد. كيف يقارب القصة، ومَن يختار للدور، وكيف يعرف كيف
ينتظر. كل شيء بالنسبة الى
رشيد مسألة حبّ. انه لشخص لطيف. لكن أيضاً مثابر! في النهاية وجدنا اللحظة
المناسبة
للتصوير. ولدى بدء التصوير، أمست الفوارق الاجتماعية أقل اهمية، ولا اتكلم
فقط عن
الفوارق بيني وبين بريندا، لا بل بين كل أعضاء طاقم الفيلم".
أوليفييه مارشال شرطي لاذ بالسينما "هرباً من
الحماقات"
بعد "أم أر 73" الذي ختم ثلاثيته البوليسية المخصصة
لـ"العزلة وفقدان الأمل والتسكع"، شاهدنا الفرنسي أوليفييه مارشال أخيراً
الى جانب
جيرار دوبارديو في "ديامان 13". الآن هو يستعد لاقتباس رواية لجان كريستوف
غرانجيه، "الخط
الأسود"... لكن من هو مارشال الذي بدأ شرطياً وانتهى ممثلاً ومخرجاً في
أفلام
تفضح كواليس النظام البوليسي؟
ولدت رغبة اوليفييه مارشال في ان يصبح شرطياً
وممثلاً عندما كان لا يزال على مقاعد الدراسة. وبعدما خضع
لامتحان المحققين في
الشرطة، دخل عام 1980 الفرقة الجنائية في فرساي، قبل الانضمام الى "قسم
محاربة
الارهاب"، حيث تعرف الى سيمون مايكل، صاحب سيناريو فيلم "ليه ريبو" لكلود
زيدي،
الذي ساعده كثيراً في الانطلاق في التمثيل. صغيراً، كان يقرأ كتب والده
التي كانت
تتضمن روايات سوداً. اكتشف مبكراً عالم داشيال هامت وشاندلر
ولورنس بلوك وغيرهم،
وتأثر بهم كثيراً. يخبر انه في حين كان اصدقاؤه يحلمون بمغامرات ابطال جول
فيرن
وجاك لندن، كان هو يهتم بمارلو. كان مارشال يذهب بعد ظهر كل احد لمشاهدة
فيلم في
سينما الحيّ، حيث اكتشف مخرجين كباراً مثل سيرجيو ليوني
وممثلين من طراز لينو
فانتورا وشارلز برونسون. ويذكر ان "السينما منعته من ارتكاب الحماقات". وفي
الوقت
نفسه، كان محظوظاً باكتشاف المسرح في المدرسة. وكان يحب ذلك كثيراً، لكنه
يخاف ان
يقول لوالده انه يود ان يدخل مجال التمثيل. وفي رأيه، كان ذلك مخصصاً لبعض
المحظوظين بالعيش في باريس. لذا، بدأ بمزاولة مهنة الشرطة،
وكانت طريقة ليبرهن بها
انه يستطيع تخطي الحدود كلها، ويمارس مهنة غير نموذجية، تثير الاعجاب
والازعاج في
الوقت نفسه، وتسمح له بالتشبه بأبطال الافلام والكتب. لكن امله خاب سريعاً،
اذ لم
يكن الواقع مطابقاً لما تصوّره. بقي شرطياً لمدة 12 عاماً،
لأنه كان فخوراً بذلك،
ولأنه كان يحتاج الى قروض من المصرف، فكونه شرطياً كان يسهّل عليه الامر.
ويعترف
بأنه لهذا السبب اصبح مديناً، على غرار كثيرين من زملائه. فكانوا يخرجون
غالباً
لتناول كأس، محاولين تبادل مخاوفهم وشكوكهم. وسط ثمانينات
القرن المنصرم، كان
مارشال رئيس فرقة ليلية، وكان يتلقى في الوقت نفسه، دروساً في المسرح في
الدائرة
العاشرة. ولدى ظهوره للمرة الاولى، عام 1988، في فيلم "لا توقظ شرطياً
نائماً"، الى
جانب ألان دولون، لفت إنتباه مديرة الكاستينغ، وعرضت عليه دور محقق في
"بروفيل با"
عام 1993.
بعدما ترك الشرطة نهائياً، ألّف مارشال سيناريوات عدة لـ"المفوض
مولان"، مسلسل فرنسي عرض عام 1976. ثم أطلّ في مسلسل
Quai nº1، وظهر خصوصاً في "بوليس
ديستريكت". بعدئذٍ، برز في فيلم من نوع مختلف، لإيمانويل بيركو، مع ايزيلد
لو بيسكو. في السنة نفسها، أخرج مارشال فيلماً قصيراً عنوانه "شرطي جيّد"
على سبيل
التجربة. ثم اخرج "رجل عصابات"، ثريللر قاتماً وواقعياً، مستوحى من خبرته
في سلك
الشرطة، مع ريشار انكونينا وآن باريو في الدورين الرئيسيين. ينبثق الفيلم
من اشخاص
التقاهم او عمل معهم، وفيه مشاهد واقعية عدة. عندما اخرج هذا الفيلم، كان
قد سئم
التلفزيون، "المحدود"، في نظره. وانطلق من شخصيات قوية، "وضعها
في قدر، وجعلها
تغلي"، مثلما قال. وقد استغرق وقتاً طويلاً في انجازه، ثم ارسله الى ريشار
انكونينا
الذي وافق عليه فوراً. لم يشأ ان ينجز فيلماً وثائقياً، بل على العكس،
فالكلام كان
قاسياً والفيلم عنيفاً في بعض الأحيان، مع ابراز للنص
والممثلين. وقال: "لعل الشرطة
لن تحب العنف والمخدرات والكحول في الفيلم، لكن كل ذلك حقيقي. واتكلّم عما
اعرفه...
لكن فيلمي ليس ضد رجال الشرطة، فأنا احترم
هذه المهنة كثيراً". وجاء
Quai Des Orfèvres 63
ضربة معلم، وفيه تابع استكشاف التباس مهنة الشرطة.
الفيلم ذو موازنة
ضخمة مقتبس من قصة دومينيك لوازو، شرطي سابق أمضى ست سنوات وراء القضبان
نتيجة
مؤامرة ضده. وفيه، يجمع ممثلين كبيرين هما دانيال اوتوي وجيرار دوبارديو.
ويردد
مارشال ان هذا الفيلم تكريم لشريط مايكل مان "حرارة": "عانى
لوازو كثيراً مأساة
القصة التي اخبرها. فقد سلبوه مهنته وعائلته. لطالما استفزّني
الظلم، لذا اردت ان
ابيّن كيف يمكن هدم حياة انسان باسم القانون. وقلت في نفسي في تلك المرحلة
ان
مقومات التراجيديا الحقيقية متوافرة كلها، من الشجاعة والبطولة والخطأ
الانساني
والموت والدماء والخيانة، ولكن في الوقت عينه، لم اشأ ان انجز
فيلماً مثيراً
للجدال، بل قصّة خيالية ومأسوية هدفها الوحيد فضح الظلم". وقد عمد الى
اخراج الفيلم
على الطريقة الاميركية، وخصوصاً في ما يتعلق بتقنيات الاضاءة والديكور
والاطارات،
شارحاً انه اراد "ان يكون الظلام موجوداً على وجوه الابطال،
وان يكون الجو قاتماً".
عندما سئل مارشال اذا كان يفضّل ان يحصل على وسام شرف كونه شرطياً او
جائزة "سيزار"،
ضحك مجيباً انه لا يكترث للاوسمة، لأنها كثيراً ما تظهر على التوابيت. وهو
غير نادم على تركه الشرطة، مع انه يحترم المهنة كثيراً. ويعتبر من جهة اخرى
ان
السينما ليست على ما يرام منذ 15 سنة. وفي رأيه، عليها ان تكون
شعبية، ويقر بأنه لا
يريد العمل مع اشخاص ينجزون الافلام لأنفسهم ولمحيطهم الضيق، ويحترم كثيراً
باتريس
لوكونت وبرتران تافيرنييه وفريديريك شوندورفر. ويركّز المخرج على ان أفلامه
لا تمسّ
بمؤسسات الشرطة والعدل، انما الهدف منها معالجة الواقع الذي يُخفى على
الناس.
خارج الكادر
فضيحة !
فضيحة جديدة في بيروت.
ربما لا يستحق الأمر أن نرفع اصبعاً من أجله! لكننا سنرفعها. لأن التجاهل
وحده لا
يكفي أحياناً، وخصوصاً أن هذه اللغة، لغة التجاهل، تعصى على "الخصم".
للمناسبة،
أرجو من الأحمق الا ينظر الى الاصبع بل الى ما يُنشر أسود على أبيض.
فضيحة
جديدة اذاً. ليست رقابية بل نقابية. عندما سمعتُ بالخبر الذي يقزز البدن،
تذكرتُ ما
كان يقوله لي باشمئزاز مخرج لبناني عن اجتماعات تلك النقابة التي تحولت
دارا
للعجزة: "لم أعد أحضرها. كثرة النق تشعرني بالاحباط وتجعلني
أشعر بأنني مخرج فاشل".
القصة قديمة اذاً، لكن فصولها المستجدة لا تزال طازجة. كان ذلك الأسبوع
الماضي في
قصر الأونيسكو. استيقظت نقابة الفنيين السينمائيين من غيبوبتها لتدعو
أعضاءها الى
حفل تكريم غامض. نقابة "صوفتها حمراء". لم يعد عندها شيء
لتبيعه الا الثرثرة.
حجتان وقعتا عليها من السماء، فتمسكت بهما: أولاً، بلوغ النقابة
السابعة
والخمسين من العمر ـــ علماً انها لا تتضمن 57 سينمائياً يستحقون تلك
التسمية.
ثانياً، الاحتفاء بإقرار قانون تنظيم المهن
الفنية. فكانت الفرصة مناسبة للطبل
والزمر. لالتقاط الصور وصنع بعض الضجيج في أرجاء الاونيسكو.
البعض فوجئ بالدعوة
لأنه نسي أصلاً أن هناك نقابة. ونسي أيضاً انه مخرج، لأنها مهنة لا يمارسها
الا مرة
كل عشرين سنة وربما أكثر. البعض الآخر أراد تجاهل الدعوة. لكنه أذعن عند
الإصرار.
هناك أيضاً من ذهب خطوة
الى الامام وخطوة الى الوراء. لكنه ذهب.
وكانت الفضيحة
الكبرى: مجموعة كبيرة من الدروع وزِّعت كالإعاشات على الحاضرين والغائبين
من
المكرمين. حفلة فولكلورية "مثيرة للشفقة" غيِّب عنها الصحافيون والنقاد
المعنيون
بالشأن السينمائي في البلاد. لكن صحافيات المنوعات احتللن المكان. أصحاب
الشعر
المستعار والمصبوغ كانوا ايضاً هنا. أما رائحة الكولونيا
وربطات العنق المقلمة
فذكّرت البعض بحلقات "دالاس" و"فالكون كريست" من ثمانينات القرن الفائت.
بكلمة
مختزلة، كانت السهرة أشبه بإطلاق فيلم لعادل امام من دون عادل امام، مع ما
يتضمن
ذلك من كلمات لا يصدّقها حتى أصحابها. أبجدية أكل عليها الدهر وشرب. كلام
معلّب
أُمطر به الحاضرون. شريط دعائي عن تاريخ السينما اللبنانية
عُرض على الشاشة الشفافة
والملأى بالغبار لصالة الأونيسكو. وكان من بين الحاضرين جان شمعون وميشال
كمون
وكريستيان غازي وغسان سلهب. وربما غيرهم من الاصيلين.
اهانة كبرى وجِّهت الى
هؤلاء وغيرهم، اذ كرِّمت، في جملة من كرِّم، مجموعة لا بأس بها من "فناني"
الكليبات
وصانعي الدعايات في سهرة إدّعى القائمون عليها بأنها تحرص على مصلحة
السينما في
لبنان. مهلاً، هذا ليس كل شيء: مَن ناضل ويناضل من أجل وجود سينما في لبنان
منذ زمن
بعيد، وضعوا في مرتبة الوافدين الجدد الى عالم الصورة، فنالوا
دروعاً تكريمية بلا
أيّ مسوغ. باختصار، اختلطت الامور على النقابة، واعتقدت ان كل صانع صورة هو
سينمائي. وكل من يمسك كاميرا في يده أو يضعها على كتفه، هو من سلالة
أيزنشتاين،
ويستحق أن يكون له "ربع ساعة مجد" قبل أن يطويه الزمن الى
الأبد! ولا عجب أن تحصل
مثل هذه الفضيحة: فهذا هو مستوى النقابة التي يترأسها صبحي سيف الدين.
جاء
الحفل عبارة عن سلسلة فضائح مترابطة. ولعل "أجملها" اعتقاد من يدير النقابة
أن
الوسط السينمائي في البلد هو هؤلاء الذين تجمهروا وصفقوا لنشاطها البائس في
تلك
الليلة. هذه النقابة هي نموذج للانظمة العربية التي تعيش خارج
الزمان والمكان. ولا
تعير اهتماماً للأسئلة الحقيقية المتراكمة. تصوّروا نقابة تعلن ولادة
مهرجان
سينمائي لبناني تديره مادلين طبر! تصوّروا نقابة لا تعلم حتى أن هناك على
الاقل
ثلاثة مهرجانات سينمائية في لبنان، بعضها لا يجد أحياناً
فيلماً لبنانياً واحداً
ليعرضه ضمن برنامجه.
هذه نقابة لم تنجح، على مدار 57 عاماً من الوجود، في تأسيس
صندوق دعم للسينما اللبنانية. كل ما يشغلها هو الابتهاج لحدث شكليّ سخيف.
أياً يكن،
فليس لهذه النقابة فضل على القليل الايجابي الذي انجز في السينما اللبنانية
طوال
السنوات الماضية. واقعها لا يعكس واقع سينمانا ولا واقع
السينمائيين ونمط عملهم
وتفكيرهم. واذا كانت الحفلة مادة تسلية للمتطفلين، ومادة تهكم لنا، فإنها
أصابت بعض
السينمائيين في الصميم. قالوا: اذا كانت هذه حالنا فبئس الحال وبئس المصير.
)هـ. ح.(
النهار اللبنانية في
05/03/2009 |