لم تشذّ الهند، في
تعاطيها مع الفيلم الجديد «مليونير منازل الصفيح» (أو «المليونير
المتشرّد»، بحسب
الترجمة العربية الأكثر انتشاراً حالياً، على الرغم من ميلي إلى الاستعانة
بالترجمة
الأولى، أي «مليونير منازل الصفيح»، لأنها الأقرب إلى مناخ
الفيلم وواقع الشخصيات
الرئيسة الثلاث)، للبريطاني داني بويل، عن منطق عربي ساذج، يتنطّح سريعاً
ضد كل من
يصوّر الواقع الإنساني والاجتماعي، في أي بقعة عربية، متّهماً إياه بـ«الإساءة
إلى
سمعة» هذا البلد أو ذاك. فالواقع، إذا التقطته عين سينمائية
معيدة صوغه بلغة
إبداعية، يُعرّي المنطق المذكور وأصحابه الكثر، لأن هؤلاء الأخيرين
متمسّكون
بالقشور، وجبناء لا يتجرّأون على التطلّع إلى الذات قبل الآخر. والهند، إذ
راعها
التصوير الجميل للفقر والبؤس والعصبيّات الدينية والبشاعة
والقذارة، هاجمت الفيلم
انطلاقاً من المنطق نفسه، قبل دفاع عدد من حملة الأقلام عنه، إثر فوزه بعدد
من أبرز
جوائز «غولدن غلوب» و«بافتا» و«أوسكار»، واجدين فيه (أو بالأحرى في جوائزه)
تكريماً
للهند وإبداعها الفني والسينمائي، ومنتبهين إلى ملامح إيجابية، تعكس قوة
الشخصية
الهندية في مواجهة الظلم، وبراعة المرء في جعل التفاؤل أداة
حيّة لمقارعة القهر
والشقاء، وسمو الحبّ وقدرته على تحطيم القيود كلّها. والفيلم، بهذه
التفاصيل التي
صنعت صورته الحيّة عن بلد وناس من خلال نماذج محدّدة (ليست اختزالاً للبيئة
الهندية
كلّها في المجتمع والسياسة والثقافة والتربية، طبعاً)، جعل الحبّ جوهر
الحكاية
كلّها: حبّ المخرج للهند أولاً، وإن توغّل في قعر المدينة
وبيئتها الأفقر باحثاً
فيها عن الأشياء الجميلة؛ وحبّ جمال مالك (ديف باتل شاباً وآيوش ماش خديكار
صغيراً
وتاناي شيدا مراهقاً) للَتيقة (فريدا بينتو شابّة وروبيانا علي صغيرة
وتانغي غانش
لونكار مراهقة)، وإن مرّ هذا الحبّ بأكثر الصدمات وحشية،
وبأعنف الاختبارات.
قراءات
قد يُشكّل الفيلم التباساً كبيراً في هذه المسائل، بل في مسألة
الحبّ، على الأقلّ. إذ يُمكن لقراءة ما أن ترى في توغّل داني بويل في قعر
مدينة
بومباي (حيث صُوّرت الغالبية الساحقة من المشاهد)، رغبة
استعمارية قديمة في تسليط
الضوء على تلك المستعمرة، من خلال بشاعة الفقر المدقع لأبناء المدينة،
المقيمين في
قعرها. يُمكن لقراءة ما أن تُحلّل هذا النمط الاستشراقي الجديد في التعاطي
مع
المسائل الإنسانية، لأن بعض المتحذلقين يرون في تصوير الواقع
تشويهاً لحقائق يريدون
إخفاءها أصلاً. لكن، تجب تنحية هذا النوع من القراءة جانباً، لأن
«المليونير
المتشرّد» حافظ على نسق سينمائي جميل في معاينته هذا الواقع المزري لملايين
الهنود
المقيمين تحت خط الفقر، أي في البؤس والألم والضياع وسط
القذارة (بمعنييها المباشر/
الماديّ والمعنوي/ الإنساني) وانسداد أفق المقبل من الأيام. ولأن المليونير
الطالع
من مدن الصفيح، الذي عاش طفولة قاسية وجميلة (في بعض مناحيها على الأقلّ)،
استطاع
أن يكسر المقولات الجامدة، بإشهار قدرة ذاتية على تخطّي حقول
الألغام المُقامة في
حياة الفقراء، وبإعلان قوّة الحبّ والتفاؤل في تحقيق معجزات ما، أحياناً.
والأهمّ
من هذا كلّه، امتلاك «المليونير المتشرّد» مقوّمات فنية ودرامية مهمّة
وجميلة.
فالجمال هنا واضح في استخدام لعبة فنية ارتكزت على الترابط الوثيق بين كل
سؤال
يُطرح على جمال مالك (باتل) في النسخة الهندية من البرنامج التلفزيوني «من
سيربح
المليون؟» (أو «من يريد أن يُصبح مليونيراً؟»)، وإحدى لحظات
حياته طفلاً ومراهقاً.
والربط، بخروجه من ثنايا المسار الدرامي الهادئ في العلاقة الحادّة بين
مقدّم
البرنامج والشاب، قدّم تفاصيل متفرّقة من الحياة الهندية، بلغة بصرية جمعت
الألوان
الزاهية بالخطوط الغامقة والرمادية (بحسب اللقطة ومضمونها
الإنساني والسرديّ)،
وجعلت التداخل بين الماضي والحاضر (في لعبة توليفية دقيقة،
عرّت المشهد ومنحته قوة
تعبير قاس) انعكاساً للخطّ القصصي الأساسي. وإذا بدا الممثلون (ثلاث مراحل
عُمرية
مرّ بها الثلاثي جمال وشقيقه سليم والحبيبة لتيقة، تطلّبت التعاون مع ثلاثة
ممثلين
لكل واحد منهم، ذُكرت أسماء ممثلي البطلين العاشقين أعلاه،
وهناك دور سليم الذي
أدّاه مدهور ميتال شاباً وأزهر الدين محمد إسماعيل صغيراً وآشوتوش لوبو
غاجيوالا
مراهقاً) أبرز أدوات الصنيع الإبداعي هذا في تقديم الحكاية
وسرد مرتكزاتها
الإنسانية والمجتمعية والسياسية والثقافية؛ فإن السمة التي ميّزت السيناريو
(سيمون
بوفوا، عن كتاب لفيكاس سواريب) كامنةٌ في مراوحة النصّ بين ذروة الواقعية
وبراعة
الشعر في صوغ المشاهد والحكايات. والشعر، إذ فاح عطره في لقطات
وسلوك وحوارات
ومواقف عدّة، ذهب بعيداً في جعل الصورة أقرب إلى مسام القلب والروح، وأجمل
في كشف
بعض المستور، في قاع المجتمع الهندي. والواقعية، إذ حافظت على بساطتها
وقسوتها
وقرفها وبؤسها، بدت ساعية إلى التطهّر أمام الكاميرا (التصوير
بإدارة أنتوني دود
مانتلي)، كأنها تَلَت ترنيمة الخلاص من هيمنة التغييب والتستر، أي من قسوة
العيش
اليومي في المزابل والتلوّث والخراء.
السعادة قدراً
لم يقف الفيلم عند حدود
الشخصية الرئيسة (جمال مالك) وبراعتها في تحويل الفقر والمصيبة
إلى شفاء للروح
والعقل، وإلى تحرّر للقلب من قسوة الواقع، بامتلائه بقدر عظيم من الحبّ.
ذلك أن «المليونير المتشرّد» التقط نبض الآنيّ في
بلد امتلك قوة نووية لا يُستهان بها،
ومارس سلوكاً ديموقراطياً في أكثر البؤر فقراً في العالم،
وقدّم نموذجاً إبداعياً
لسينما متنوّعة شكلاً ومضموناً ولغة، احتلّت المرتبة الثانية في لائحة
الغزارة
الإنتاجية، ولفن يمزج الأغنية بالرقص في مشاهد استعراضية جميلة، ولأشياء
كثيرة
أخرى، في الاقتصاد واللعبة السياسية/ الأمنية في تلك البقعة
الملتهبة. والآنيّ يكاد
لا يختلف كثيراً عمّا تشهده دول نامية عديدة، في ظلّ هيمنة الاقتصادات
الرأسمالية
والعمرانية والمافياوية، المتشعّبة في شبكة متكاملة تجمع المصارف بالشركات
الكبيرة،
ومصانع الأسلحة والأدوية بالسلطة السياسية المختلفة، تماماً،
عن سلطة أنظمة حاكمة
علناً. في «المليونير المتشرّد»، هناك نقد مبطّن وهادئ لسطوة المافيات على
شرائح
مجتمعية كثيرة، ولقوّة الإعلام الترفيهي في السيطرة على الجماهير،
وللنزاعات
الدينية الدموية، وللحداثة العشوائية في العمران، التي تأخذ
الهند إلى مساحات لا
تتفق وحضورها التاريخي وإرثها الثقافي والإنساني. هذا كلّه مُقدّم بلقطات
سريعة،
لكنها واضحة ومباشرة. وهو مُقدّم في شكل سينمائي شفّاف وقاس في آن واحد، من
خلال
الاستعادات المتكرّرة لجمال مالك لمشاهد من سيرته الذاتية، وهو
جالسٌ على كرسيه
أمام مقدّم البرنامج، المتحذلق والبارع في تسديد ضربات ساخرة وانتقادية ضد
جمال،
إلى درجة أنه لا يتردّد عن تنفيذ مسألتين قذرتين، كقذارة البيئة التي عاش
فيها
الصبيّ طويلاً: الضغط المعنوي الكبير بهدف إخراجه من اللعبة،
وتقديم شكوى بحقّه لدى
الشرطة، بتهمة الغشّ. والمسألتان نابعتان من منطق واحد: كيف يُعقل لابن
منازل
الصفيح هذا، الأميّ والفقير والمتشرّد والوسخ، أن يجيب على الأسئلة كلّها
من دون
أخطاء، وصولاً إلى الجائزة الأولى (عشرون مليون روبي هندي)؟
ومقدّم البرنامج هذا
يخطو خطوة أقذر إلى الأمام، عندما يوهم الصبي بأنه حريصٌ على نجاحه، فيترك
أمامه،
في كواليس المحطّة التلفزيونية، ما يُفترض به أن يكون الجواب الصحيح. لكن
الذكاء
الذي يلتمع في عينيّ الصبي (الشخصية والممثل معاً) يُنقذ المشارك في
المسابقة من
الفخّ، ويجعله الفقير الأول الذي يفوز بهذا القدر من المال.
على الرغم من
اختيار داني بويل نهاية سعيدة للفيلم، تمثّلت بالفوز المنتظر وبمشهد غنائي
استعراضي
على الطريقة السينمائية الهندية المعروفة (الأهمّ من معرفة الخاتمة هو متعة
المُشاهدة)، إلاّ أن «المليونير المتشرّد» برع في جعل البؤس
والألم والتحدّيات
الخطرة التي عاناها جمال ولتيقة تحديداً، صُوراً جميلة عن إمكانية أن تكون
السعادة،
مثلاً، قدراً يصنعه الطامح إليها؛ وعلى أن يكون الحبّ الحقيقي والصادق
والبريء
والشفّاف والمتين درباً إلى تلك السعادة، وإن تلطّخ الدرب بألف
عنف وانكسار وخيبة.
لكن الأهمّ كامنٌ في أمر واحد: هذا فيلم جميل وإنساني، يمتّع المُشاهد
المهتمّ
بالفن السابع، بفضل أسلوبه السينمائي في رصد الحالات الإنسانية في الهند.
تبدأ
عروضه التجــارية المحلية بعد ظهر اليوم، في صالات «غراند أ ب ث» (الأشرفية)
و«غراند كونكورد» (فــردان) و«غراند لاس
ساليناس» (أنفة)
كلاكيت
مرتا.. مرتا
نديم جرجورة
استفاقت «نقابة الفنيين
السينمائيين في لبنان» فجأة، لأن سلطة محلية عابرة أقرّت
قانوناً لتنظيم المهنة.
وجدت، في هذا الإقرار، مناسبة لإطلالة ملتبسة ومنقوصة. استعانت بذكرى
تأسيسها قبل
سبعة وخمسين عاماً، كي تُفبرك موقعاً باهتاً لها، وسط الانهيار الفظيع الذي
تعانيه
النقابة نفسها، والعمل النقابي اللبناني عامة. خلطت أموراً
كثيرة في إطلالتها تلك،
فضاعت المسائل، وأكّدت النقابة انتماءها الصارخ إلى حفلة الزجل اللبناني،
التي
يتمتّع بها كثيرون، في السياسة والإعلام والثقافة والاقتصاد والاجتماع.
كرّمت
أناساً، بعضهم أكبر من أي تكريم مسطّح وساذج. تناست بعض أبرز
الرسميين والسينمائيين
والنقّاد، العاملين من أجل تنظيم العمل النقابي وقانون المهنة وصندوق
الدعم، ومن
أجل السينما أساساً. أرادت، في حفلتها هذه، أن تُصالح السينما بالتلفزيون،
فدعت
صحافيين وإعلاميين لا علاقة لهم بالفن السابع وطقوسه وصناعته
وعالمه، وتغاضت عن
متمسّكين بهذا الفن وتفاصيله. ارتأت أن تجعل من وزير الثقافة الحالي بطلاً،
لأن
قانوناً ما صدر في عهده، فكان البطل أكبر من أن يقع في الفخّ، لأنه أدرك أن
حضوره
في الوزارة عابر، وأن السينمائيين باقون.
لكن، لا مفاجأة في هذا كلّه. تغيب
النقابة كثيراً، وعندما تطلّ على المشهد الإعلامي، لسبب ما،
يزداد غيابها حضوراً.
حاول نقباء سابقون أن يجعلوها حيوية، لكن الفشل لم يكن دائماً بسبب ظروف
وضغوط
ومؤامرات خارجية، لأن بنية النقابة وآلية عملها محتاجتان إلى تأسيس نقابة
جديدة،
تمتلك وعياً بالعصر، وقدرة على تحرير العمل النقابي من
الاهتراء والفوضى
والبيروقراطية القاتلة والاستسلام شبه المطلق لرغبة دفينة في عدم تحمّل أي
مسؤولية،
مع أن المصالح الداخلية والصفقات الغريبة حتّمت، مراراً، توافقات مبهمة في
انتخابات
لا طعم لها ولا قيمة. بعض النقباء السابقين اجتهد في سبيل
تحسين شروط العمل
النقابي، ودافع طويلاً (حتى بعد تركه المنصب) عن مشاريع تعود بالفائدة على
السينمائيين، وإن انفضّت غالبيتهم الساحقة عن النقابة. لكن، أن
يكون الاحتفال
الأخير استعراضاً تلفزيونياً، وأن يُعلَن فيه عن مهرجان سينمائي بإدارة
فنانة لا
تملك إرثاً سينمائياً (تمثيلاً أو كتابة أو عملاً آخر)، أو ثقلاً فنياً، أو
تاريخاً
حافلاً بالأعمال الجدّية والنيّرة؛ فهذا يعني أن النقابة تتلهّى بأمور
كثيرة، في
حين أن المطلوب واحدٌ: نقابة جديدة، تحترم السينما
والسينمائيين، وتعمل من أجلهم
(فعلاً
لا قولاً ومنابر إعلامية وإطلالات تلفزيونية)، وإن احتاج الأمر إلى مقارعة
شرسة ضد النظام الطائفي والمتاهة السياسية وبهتان البيئة المجتمعية؛ وإلى
مقاومة
العفن الضارب بقوّة فيها أولاً وأساساً.
تُرى، ما الذي أرادته النقابة من
احتفالها هذا؟ فالعناوين غير مقنعة، إلاّ إذا كان الهدف
منصبّاً على استعطاف قطاع
رسمي ما، أو إغواء جهة خاصّة بمشاريع وهمية. أم إنه الهوس بإطلالة إعلامية
لتثبيت
وجود ملتبس؟
السفير اللبنانية في
05/03/2009 |