من عمق رحم المأساة تستجلي ارادة الشعوب مشاعل تضيء طريق الجماهير ..
ماكان لهذه الكلمات المفترضة كبديهيات نضالية ان تحتاج لشخص يجسدها رؤى
وافكاراً على شاشة السينما مرتسمة بدفق شعوري نابض بكل تطلعات من تنسم عبير
الحرية وتعلق به رغم كل القيود مثل هذا الرجل .
يلماز غوناي أسمٌ شكل إِنموذج الوجه الجديد للسينما التركية في النصف
الثاني من القرن العشرين ،فهذا المخرج الكوردي ساهم في ان تجتاح شخوص
افلامه وجدان الملايين لطبقات الشعب المسحوقة التركية والكوردية ،ورغم ان
افلامه زادت على المائة غير انها لم ترتد شكلها التقدمي ورؤاها المستنيرة
لواقع المجتمع التركي الا في بداية السبعينيات وبعد العشرات من الافلام
التجارية أصبح من خلالها نجما ساطعا في سماء الاخراج وصناعة السينما
التركية حتى ان المنتجين تهافتوا عليه لانه بالتأكيد يعني استثمارا ناجحا
بكل المقاييس ،يلماز الذي بدأ العمل السينمائي كنشاط مهني يغطي مصاريفه
الدراسية ولكنه رأى نفسه منغمسا في حب السينما وهو الشغوف بالثقافة قراءة
وكتابة للشعر والقصة والرواية ،يقول عن بداياته التجارية في السينما «لقد
كنت بحاجة الى النقود لاتمكن من انجاز شريط وفق افكاري وليس مايريده
المنتج» ،وبالفعل فحين تحققت له الامكانية ابتدأ بالشروع في صناعة افلام
تنسجم مع خطه الفكري « انا لااصنع سينما بل اكتفي ببيان الحياة
الواقعية..من الضروري ان اسعى لأبراز الاستغلال والاضطهاد الذي تتعرض له
الفئات المسحوقة من الشعب..» .
لم تكن حياة غوناي سهلة ولا طريقه مفروشا بالورود وهو الذي قضى سنين
طويلة خلف قضبان السجن تحت حكم العسكر لتركيا بسبب فكره التقدمي الذي
يعتبره الاساس النظري لتناول الحياة وكما يقول»انني اهتدي بالماركسية كمبدأ
ومنهج جمالي وفكري التزم به وأسير على هُداه» ولم يكن السجن اكثر من طريق
للحرية التي يبتغيها له ولشعبه الكوردي المحروم ،فظهرت اروع نتاجاته
الفكرية (الادبية والسينمائية) كرواية صالبا عام 1973 ورواية معادلات مع
ثلاثة غرباء ،كما سجل السجن وزنازينه الجامدة تسطيره لسيناريوهات افضل
افلامه (الرفيق،القطيع،الطريق) حين كان يرسل به الى زميل دربه شريف غورن
الذي يعمل على اخراجه ويضع اسم غوناي عليه تقديرا له وبالتأكيد هو يستحق
ذلك فالسيناريو يتضمن كل ما على المخرج عمله من اختيار مواقع التصوير
واسلوب الاخراج وكل تفاصيل الرؤية التي يتصورها لاكمال الفيلم ،كان ذلك
ابتداءً من فيلم القلق 1975 حين اعتقل غوناي في المراحل الاولى فأكمله غورن
وظهر يحمل اسميهما .
تجربته الحياتية القاسية وافلامه السينمائية الجريئة في طرح الواقع
الاجتماعي والسياسي وفق منظور نقدي مستمد من فكر تقدمي جعلت لاسمه صدى
يتردد من عمق جبال كوردستان لجنبات الاحياء الفقيرة في مدن تركيا المختلفة
،شارعا بأنطلاقة بعيدة نحو فضاء عالمي اُذهل امام قدرة هكذا شخوصاً على
العمل وسط كل هذه المنغصات بل والابداع في صناعة سينما تنبض بدفق الهم
اليومي للجماهير ،من هنا جاء حصول فيلم الطريق على جائزة السعفة الذهبية
لمهرجان كان السينمائي في العام 1982 مناصفة مع فيلم المفقود لغوستا غافراس
تقييماً عالميا لأنجازات المنتج الابداعي للمخرج يلماز غوناي ،وقتها كان
يقيم في سويسرا وفيها توفي عن 47 عاما بعد ان صور اخر افلامه الجدار كان
ذلك عام 1984 ،والتي التجأ اليها بعد هروبه من السجن اثر افراج مشروط حيث
اكمل مونتاج الفيلم .
يول (الطريق) بانوراما سينمائية دقيقة وغنية بالتفاصيل على مدى ساعة
واربع وخمسين دقيقة لحياة خمسة من السجناء الذين يطلق سراحهم بأفراج مشروط
لمدة اسبوع من سجن جزيرة اميرلي في بحر مرمرة لغرض زيارة عوائلهم حيث ينزع
الفيلم في السير بحيثيات كل واحد منهم متخذا مسار الواقعية دون تكلف في
الطرح معتمدا على الاداء العالي للممثلين (طارق اكان،خليل ارغون،نسمتين
كوبان اوغلو،شريف سيزر،ميرال وغيرهم) ،سُئل يلماز غوناي عن فيلم الطريق
فقال»انه خلاصة احاسيس داخلية اختمرت في نفسي خلال اقامتي المطولة بالسجن
ومن خلال تعلقي بالانسان التركي الطيب ومعاناته القاسية» ،تركيا التي يشير
لها بيول هي سجن كبير لاتعاني الاستبداد السياسي وقتها ولكن مشاكلها كبيرة
في المعتقدات الفكرية والعادات والتقاليد الاجتماعية المليئة بتعصب اعمى
واغلبها سلوكيات ظالمة وقاسية ،كما ان الحالة الاقتصادية الصعبة والفقر
الذي تئن تحت وطأته طبقات المجتمع المنسية هدف اخر يطرحه الفيلم ضمن سيرة
الشخصيات وبأستعراض قوي ومكثف ،فأحدهم يحث الخطى صوب قريته الجبلية البعيدة
لرؤية زوجته فيصدمه منظرها وهي مقيدة بالسلاسل بعد ان حبسها اهلها نتيجةً
لخيانتها اثناء وجوده بالسجن انتظاراً لعودته حتى يقرر ماذا يكون مصيرها
حسب اعرافهم ،فيما يجد الاخر نفسه امام سيل جارف من المشاكل فمن تواجد
عائلته بالسجن كعقوبة لارتكابهم جريمة السرقة الى موت نسيبه في اثناء عملية
السرقة والصدمة الكبرى بتوجيه اللوم اليه من قبل العائلة كونه المسؤول عن
كل ذلك بسبب ابتعاده عنهم ،وعلى امل ان يحظى ولو ببضعة ايام من العيش
بقريته محتضناً ربوعها واهلها يسافر زميلهم الاخر الشاب الكوردي في طريقه
الطويلة نحو الحدود التركية-السورية وحين يصل لايجد غير منازل ترزح تحت
وطأة نار الهجمات المستمرة للقوات التركية .
هذه الشخوص وغيرها سلكت طريقها والاماني تغمرها بعالم وردي داعب
خيالاتهم وسط صمت الزنازين الباردة ،مابرح في الواقع غير اضغاث احلام
جعلتهم يختارون العودة سريعا الى السجن هربا من هكذا مجتمع ،فالعيش خلف
اسواره بأرادةٍ حرة اهون من الحياة على ارض وطن ماهو الا قيد كبير .
ظل فيلم الطريق نابضا بحياة متجددة رغم تقادم السنين فآخر عرض له كان في
مهرجان كارلوفي فاري السينمائي بجمهورية التشيك عام 2004 ،وحين افتتح عرضه
لاول مرة في العام 1982 مسبوقا بضجة اعلامية كبيرة شاهده الجمهور في اوربا
(فرنسا،المانيا الغربية،فنلندا،السويد) وفي امريكا ايضا ،بينما شهدت
اليابان عرضه عام 1985 لكن المفارقة انه لم يعرض جماهيريا على ارض تركيا
الا في العام 1999 بعد مرور اكثر من سبع عشرة سنة على انتاجه.. فأي رسالة
كبيرة المعاني حملها يلماز غوناي بطريقه
المدى العراقية في
02/03/2009 |