لم يحظ الفيلم التسجيلي «هيفي ميتيل في بغداد» بفرص عرض في المهرجانات
السينمائية العربية السنة الماضية، على رغم عرضه في الدورات الأخيرة
لمهرجانات سينمائية كبيرة مثل برلين وتورنتو، وعلى رغم الإثارة التي تحيط
الأفلام التي تتناول العراق، بعد الحرب الأميركية التي أسقطت نظام صدام
حسين عام 2003، والأحداث الجسام التي وقعت بعدها.
يعود غياب الفيلم عن العروض العربية على الأرجح، الى صورة العراق
والعراقيين التي ظهرت في الفيلم، وربما ايضاً الى اللغة القوية، التي تتضمن
الكثير من الكلمات القاسية التي غلبت على احاديث شباب الفيلم العراقيين.
فالفيلم لم ينشغل بتقديم صورة العراقي المعتادة: صورة العراقي الضحية، او
العراقي المقاوم، بل اقترب من محرم آخر، لا يقتصر فقط على «سمعة» الموسيقى
التي يعزفها ابطال الفيلم من العراقيين، ولكن أيضاً، على فكرة ان تكون
الموسيقى او الفن بالنسبة الى الشباب، «أهم» من قضايا البلد الكبيرة،
فالشباب «هم ابناء الموسيقى»، وكما وصف احد العازفين نفسه وزملاءه في
الفرقة. وللموسيقى وحدها، يعود ولاؤهم. ومن اجلها اقتربوا كثيراً من الموت،
وتفرقوا في بلاد الله البعيدة والقريبة.
هذا الفيلم، حتى وإن أفرد الكثير من وقته، للحديث عن الحياة في العراق
بعد حرب 2003، والعنف الذي تفجر بعدها، بقى مع هذا متعلقاً بهمه الأساسي:
مجموعة عاشقي موسيقى «هيفي ميتيل» في يغداد، والذين بدوا كأنهم افراد قبيلة
ضالة، مغضوب عليها. لكنهم ومثل اي موسيقي «روك» متمرد، يخفي انكساره بقسوة
كبيرة، لم يرغبوا في التحسر او البكاء، هم غنوا وزعقوا اغنيات الموت وفقدان
الأمل، لغتهم الوحيدة التي يعرفون!
تبدأ حكاية الفيلم، من تحقيق صحافي يتناول أول فرقة موسيقى «هيفي
ميتيل» عراقية، قام به صحافيان كنديان من تلفزيون الأم تي في، حضرا مثل
المئات من غيرهم، الى بغداد بعد دخول القوات الأميركية اليها. وعندما رغب
الصحافيان سورشي ألفي وإيدي مورتي بتتبع اخبار الفرقة العراقية، واجهتم
مشاكل العنف الذي بدأ يستهدف الغربيين في بغداد. لكن الأمر لم يوقفهم بل
طلبا من أحد زملائهما الدنماركين، وكان مقيماً في بغداد تصوير حفلة للفرقة
في العاصمة العراقية في عام 2005. ولكن بعد الحفلة الوحيدة، لم يعد
باستطاعة الفرقة، مواصلة عملها، بسبب الوضع الأمني أيضاً. وفي عام 2006،
يقرر الصحافيان الذهاب الى بغداد، لمقابلة الفرقة.
روح عام معيّن
ومثل العديد من الأعمال السينمائية التسجيلية في العراق بعد حرب 2003،
لم يستطيع الصحافيان تنفيذ معظم ما خططا له، فبغداد تحولت في عام 2006، الى
واحدة من اخطر المدن في العالم، ومعظم اعضاء الفرقة، هربوا مثل ملايين
العراقيين الى دول عربية مجاورة، وأحدهم هاجر الى كندا، والذين بقوا في
العراق، عانوا صعوبات كبيرة في مقابلة الصحافيين، والتحدث إليهم، بسبب
الخوف من الجماعات المسلحة، والذين كانوا يترصدون العراقيين، الذين لهم
علاقات بالأجانب.
وعلى رغم فشل الصحافيين في اجراء تحقيق واسع عن الفرقة وعن حياة
اعضائها، قدم هذا الجزء من الفيلم التسجيلي، بعضاً من روح عام 2006 المرعب
في بغداد، فبدا ربما افضل من اي عمل آخر تناول العراق بعد 2003. فالمشاكل
بدأت حتى قبل طيران الصحافيين الى بغداد، بخاصة بعد اطلاعهما على الإجراءات
التي اتخذتها السلطات في مطار بغداد، لمنع استهداف اي طيران مدني من قبل
الجماعات المسلحة، وهو الأمر الذي كان يعني هبوطاً مختلفاً وخطيراً
بالطائرة. بعد وصول الصحافيين الى بغداد، اكتشفا مباشرة، انهما لن يستطيعا
اخذ الكاميرات وأجهزة التسجيل والتجول في الشوارع. قبل كل شيء كان عليهم ان
يدفعوا مبالغ يومية طائلة لفصيل المسلحين العراقيين الذي تولى حمايتهم،
والذي كان يؤكد أحياناً، بأنه لا يستطيع دائماً الحماية من كل أنواع العنف.
وبعد اشهر من عودة الصحافيين الأجنبيين الى بلدهما، والتحاق اعضاء
الفرقة الذين كانوا في بغداد، بزملائهم الأخرين في سورية، يقرر الصحافيان
السفر الى دمشق لمتابعة حياة اعضاء الفرقة العراقية فيها. في هذا الجزء من
الفيلم، يقدم الى جانب الموسيقى، بعضاً من معاناة العراقيين المهجرين،
فالذين وصلت اعدادهم الى ارقام غير مسبوقة في مأساة، وصفها أحد تقارير
الأمم المتحدة، بأنها اكثر مأساة بشرية سرعة في التدفق في التاريخ الحديث.
وإذا كان العنف هو السبب الذي كان يوقف الفرقة عن العمل في بغداد،
فالعوز وقسوة الظروف الاجتماعية، كادت ان توقف الفرقة عن العمل في دمشق،
لكنهم قدموا على رغم ذلك، وبمساعدة فريق الفيلم، حفلة في دمشق، وسجلوا
للمرة الأولى في حياتهم، اغانيهم في استديو موسيقي بدائي.
لم يتعرض صانعو الفيلم كثيراً، للسمعة المريبة التي تحيط بموسيقى «هيفي
ميتيل»، والتي تربطها الكثير من المجتمعات العربية، بـ «عبدة الشيطان»،
ربما بسبب الألبسة السوداء التي يرتديها المعجبون بهذه الموسيقى، ولغة
الأغاني العنيفة اليائسة، والقنوط من العالم الذي يحيط بهذه الموسيقى.
في نهاية الفيلم، تجمعت الفرقة العراقية مع صناع الفيلم، لمشاهدة
المشاهد التي صورها الصحافيان في العراق، بخاصة صور المكان البسيط، والذين
كانت تتجمع فيه الفرقة للتمرين، والذي دمر تماماً، بعد عملية تفجير قضت على
البناية التي كانت تضم الاستديو، إضافة الى مشاهد من الحفلة التي اقامتها
الفرقة في أحد فنادق بغداد، والتي ظهر فيها جمهورهم العراقي الشبابي
القليل. «لقد قتل او هاجر كل من كان في هذا الحفل» يؤكد أحد عازفي الفرقة
قبل ان يترك الغرفة.
الحياة اللندنية في
27/02/2009 |