تبدأ، بعد ظهر
اليوم
الخميس، العروض التجارية اللبنانية لفيلمين جديدين، تميّزا بلغة سينمائية
جميلة
ومهمّة، درامياً وجمالياً وفنياً: »فروست/ نيكسون« لرون هاورد
(تمثيل: مايكل شين
وفرانك لانغيلا وكيفن بايكون وريبيكا هول) في صالات »كسليك« و»غراند أ ب ث« (الأشرفية) و»غراند كونكورد« (فردان)
و»سينما سيتي« (الدوره) و»غالاكسي« (بولفار
كميل شمعون)؛ و»الدولي« لتوم تيكوير (تمثيل: كليف أوين ونعومي
واتس وآرمن ـ ميولر
ستال)، في صالات »سينما سيتي« و»أمبير دون« (فردان) و»إسباس« (جونية)
و»أمبير
سوديكو« و»غالاكسي« و»سيتي كومبلاكس« (طرابلس).
«فروست/ نيكسون»
يستحقّ
الممثل فرانك لانغيلا جائزة سينمائية رئيسية، في فئة «أفضل ممثل»، عن دوره
البديع
في «فروست/ نيكسون» لرون هاورد. يستحقّ تقديراً لن يكون أهمّ وأجمل وأفضل
من تقدير
المُشاهدين والنقّاد والصحافيين السينمائيين المهتمّين بشؤون
الفن السابع وصناعته
وفضاءاته المتفرّقة، لأن التقدير الثاني أرفع شأناً من أي جائزة، ولأن أداء
لانغيلا
في هذا الفيلم تحديداً بدا أجمل من أي تكريم عابر، وأكبر من أي تقدير موقّت.
لا
يعني هذا أن الممثلين المرشّحين للجائزة هذه في الفئة نفسها لا
يستحقّون فوزاً أو
تقديراً، خصوصاً ميكي رورك في «المُصارع» لدارن آرونوفسكي وريتشارد جنكيس
عن دوره
في «الزائر» لتوماس مكارثي، علماً بأن براد بيت قدّم دوراً جميلاً في
«الحالة
الغريبة لبنجامن بوتون» لديفيد فينشر (لم تتسنّ لي مشاهدة
»ميلك» لغاس فان سانت،
الذي فاز شون بن بالجائزة المذكورة أعلاه عن دوره فيه)؛ غير أن لانغيلا،
المقبل إلى
السينما من تجربة مسرحية طويلة قيل إنها منحته اختباراً رفيع المستوى في
«إدارة»
الأداء التمثيلي المرتكز، أساساً، على الحركة والتصرّف والنبرة الصوتية،
قدّم شخصية
الرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون بأداء يُذكّر المُشاهد بالأداء
المهمّ
والجميل الذي ابتكره أنتوني هوبكنز في «نيكسون» لأوليفر ستون،
لأنه (أي لانغيلا)
جعل الجانب التمثيلي فيه متحكّماً بالشخصية، على الرغم من براعته في منح
هذه
الشخصية مفردات الأداء الأجمل، الذي لا يغرق في التشابه الشكلي الصرف فقط،
بل يجعل
من التشابه نفسه الخطوة الأولى للتحرّر من الصورة الأساسية،
باتجاه الأداء الفني
الإبداعي.
لا يُمكن التغاضي عن مقارنة تفرض نفسها، في هذا الإطار، بين حيوية
أنتوني هوبكنز في تأديته شخصية نيكسون قبل ثلاثة عشر عاماً (في إطار سرد
سينمائي
جمالي صادم وآسر لمقتطفات من السيرة الذاتية لبطل فضيحة «ووترغايت»)،
وبراعة فرانك
لانغيلا في تقديم الشخصية المذكورة، في مرحلة محدّدة بدقّة: الحوار
التلفزيوني
الشهير الذي أجراه مقدّم البرامج التلفزيونية البريطاني ديفيد فروست (مايكل
شين)،
بعد أشهر طويلة على استقالة الأول من منصبه، إثر الفضيحة التي
أنهت حياته السياسية،
على الرغم من القرار الرئاسي الذي أصدره جيرالد فورد، بـ«مسامحة» رئيسه
السابق من
الجرائم الفيدرالية التي ارتكبها أثناء تولّيه الرئاسة. إن فيلمي ستون
وهاورد
يبقيان، في مجال التمثيل تحديداً، إحدى الفرص المهمّة لاختبار
جمالية أداء هوبكنز
وتطويره (له أدوار جميلة متنوّعة، في أفلام عرفت نجاحات نقدية وجماهيرية
مختلفة)،
و»الفرصة» الأهمّ (ربما) في الحياة المهنية للانغيلا، الذي بدا متألّقاً في
ارتدائه
جسد نيكسون وروحه وسلوكه ونفسيته وخبثه وخيبته ودماره الداخليّ.
لكن الأداء
الجميل لفرانك لانغيلا ليس وحيداً في عمل مصنوع بدقّة، لأن ممثلين آخرين
(كيفن
بايكون وسام روكويل وأوليفر بلات تحديداً) شاركوا، بأداء رفيع المستوى
ومهمّ، في
جعل الفيلم صورة حسّاسة وجميلة عن معنى السينما وفنونها
المتفرّقة. وبالتالي، فإن
الأداء الجميل للانغيلا أساساً، وللممثلين الآخرين أيضاً، لا يُلغي الأهمية
الفنية
والدرامية للفيلم كلّه. فاختيار مرحلة التحضيرات الخاصّة بالحوار
التلفزيوني في صيف
العام 1977، أي بعد ثلاثة أعوام (تقريباً) على استقالة الرئيس
السابع والثلاثين
ريتشارد نيكسون (9 كانون الثاني 1913 ـ 22 نيسان 1994) في التاسع من آب من
العام 1974 (أي
في العام الثاني من رئاسته الثانية، لأنه انتُخب في نهاية العام 1968
للمرّة الأولى)، سمح بتكثيف الجانب الدرامي، وبالإمساك الفني
الجمالي باللعبة
البصرية كلّها، كما قلّل من احتمال الوقوع في فخّ الإطالة والتنظير. ومع أن
أوليفر
ستون اختار أن يسرد فصولاً متفرّقة من سيرة نيكسون في رئاسة الولايات
المتحدّة
الأميركية (1969/ 1974)، معتمداً التحليل النفسي أساساً واضحاً
لمقاربته
السينمائية؛ إلاّ أن »نيكسون» هذا بدا، هو أيضاً، متماسكاً في بنيته
الدرامية،
وجميلاً في قراءته المادة السينمائية، وبديعاً في رسمه المناخ الإنساني
المتوتر
للشخصية الرئيسة، كما للفضاء العام بأكمله. أما البريطاني
ديفيد فروست (مواليد 7
نيسان 1939)، الكاتب الساخر والصحافي ومقدّم البرامج التلفزيونية، فعُرف
ببرامجه
السياسية الانتقادية الساخرة، وبلقاءات سياسية وفنية متفرّقة. واللقاء
بينهما شكّل
منعطفاً حاسماً ومهمّاً جداً في سيرة الإعلامي التلفزيوني، إذ جذب نحو 45
مليون
مشاهد، انتظروا، على مدى أربع حلقات متتالية، خضوع الرئيس
نيكسون (أخيراً) أمام
رغبة ملايين الأميركيين: الاعتراف بتورّطه الجرمي في فضيحة »ووترغايت»،
وتقديم
الاعتذار منهم، وإعلان واضح بأنه »خيّب أملهم».
إنه فيلم مواجهة (مشغولة بحرفية
سينمائية جميلة) بين طرفين متناقضين للغاية: مقدّم برامج
تلفزيونية بريطاني، ورئيس
أميركي محنّك وصعب المراس وخبيث للغاية. إعلامي بريطاني اشتهر ببرامج
شعبية، وزعيم
دولة قوية وجبّارة اشتُهر بمسؤوليته الأولى والأساسية عن أعمال فاسدة
وجرمية، في
سني حكمه. والمواجهة، سينمائياً، ارتكزت على أشهر طويلة، بدأت من لحظة
الاستقالة،
وهي اللحظة نفسها التي شعر بها فروست برغبة جامحة في لقاء رجل
لم يتفوّه، في رسالة
استقالته، بأي كلمة تشي بتحمّله أدنى مسؤولية جرمية؛ وتنتهي عند لحظة
الوداع بين
الرجلين.
«الدولي»
لا تقلّ الأهمية الفنية والجمالية والدرامية لـ»الدولي»
لتوم تيكوير، عن تلك التي تميّز بها »فروست/
نيكسون»، وإن ذهب الأول في اتجاه
مغاير، تماماً، للثاني. فعلى الرغم من إمكانية القول
بانتمائهما إلى سينما سياسية
متحرّرة، كلّياً، من أي خطاب مباشر او تنظير إيديولوجي، لأنهما مشغولان
بحرفية
سينمائية واضحة؛ إلاّ أن »الدولي» ناقش واحدة من أخطر الحالات الجرمية التي
تمارسها
مؤسّسات دولية رفيعة المستوى، وفاعلة في المجتمعات ومؤثّرة في
السياسات الاقتصادية
والاجتماعية. ذلك أن الفيلم الجديد للمخرج الألماني توم تيكوير (44 عاماً،
اشتهر
عالمياً بفيلمه الرائع »اركضي لولا اركضي» في العام 1998، قبل أن يُنجز
»جنّة» في
العام 2002، وهو الفيلم الأول له مع ممثلين أكثر شهرة، ككايت
بلانشيت وجيوفاني
ريبيزي؛ و»عطر» (2005) عن رائعة باتريك سوسكيند)، تناول علاقة »بنك الأعمال
والاعتماد» في برلين بتجارة الأسلحة، كي يكشف المبطّن في داخل السياسة
الاقتصادية
والتجارية لسلطة المصارف والمؤسّسات المالية وتحالفاتها
السياسية في دول العالم
الثالث؛ من خلال حبكة درامية متماسكة فنياً وجمالياً، ارتكزت على قصّة
بسيطة منتمية
إلى النوع التشويقي: عميلان أمنيان يحقّقان بصفقة مشبوهة بين المصرف نفسه
وشركة
عملاقة في مجال صناعة الأسلحة، وبسلسلة جرائم قتل.
غير أن القصّة البسيطة هذه
تنفتح على آفاق أوسع وأخطر، لأن المصرف لا يرغب في أرباح مالية
من تجارة الأسلحة،
بل يسعى إلى إحكام قبضته على الديون المترتّبة على دول واقعة في فخّ
نزاعاتها
الداخلية، أو متورّطة في نزاعات مع دول أخرى. والقصّة، إذ تتناول الصفقات
وجرائم
القتل المرافقة لها، تفضح عالماً سرّياً خاصّاً بسلطات حاكمة
في الخفاء، كالمصارف
الكبيرة (وشركات الأدوية والأسلحة وغيرها من المؤسّسات الضخمة، في أفلام
أخرى)،
التي باتت أقوى من أنظمة سياسية حاكمة. و»الدولي»، إذ يُفكّك عالم المصارف
وارتباطاتها الوثيقة بالسياسة والأمن والتجارة والجريمة، يستفيد كلّياً من
تقنيات
أفلام الحركة والمطاردات البوليسية. والنصّ السينمائي، إذ يغوص
في المتاهة الجرمية
لهذا العالم، يجعل المطاردة (بأنواعها المختلفة) أساس الحبكة، إلى درجة
يكاد
المُشاهد يشعر بتعب جسدي لكثرة ما في الفيلم من حركة فعلية (مطاردة، قتل،
سفر بين
مدن وشركات وسياسات، نزاعات داخلية في أجهزة أمنية وقضائية،
فضائح في داخل الشركات
نفسها، خيانات، إلخ).
السفير اللبنانية في
26/02/2009 |