قال لوتريامون: "الشــعر، يكتبه الجميع". في العالم الحالي للسينما،
حيث سهــّلت التقنية الحديثة والكاميرا الرقمية وبرامج المونــتاج الصـناعة
السينمائية، بات الجميع يُخرجون أفلاماً. لكن، كلّما تيّسرت سبل الإخراج،
ازدادت الحاجة إلى وجود مخرج فنان. هذا الإلحاح على وجـود فنان يعرف ما
يريد، غاب عن فيــلم المخــرج الإيراني بهري "شيعستان"، الذي بنى مادته على
لقطات مفكّكة من دون رعاية موضــوع ومن دون مســار محدّد سلفاً. لقطات عامة
وقريبة كيفما اتفــق، من دون حبكة، هدفها التجميع، عسى أن تأخـذ في النهاية
شكل الفيلم، المغــيّبة شخــصيته منذ البداية. بالإضافة إلى التعليق الممل،
وهــو غالباً بصوت المخرج، بلكنه إيرانية واضحة، وبــطريقة إلقاء ضعيفة،
خالية من شروط قراءة التعليق السينمائي: وقفات بين جملة وأخرى، الاهتمام
بالوضع العاطفي لسير الأحداث، ما أعطى الفيلم صفة تقرير إذاعي. حتى ترجمة
الحــوارات تمّت قراءةً وليس كتابة في أســفل الشــاشة. هذه تساهم بعض
الشيء بإراحة الأذن من الصـوت المتكرّر، الأمر الذي ساهم بتفــاقم
الرتـابة. كأن الفيلم تقريع للمُشاهد، غايته إثارة الأذن وإغفال العين.
تفتقر غالبية الأفلام التي تتــحدّث عن الــعراق إلى جهد كبـير
ودراسـة تفاصــيل المجــتمع العراقي وحيثياته، خصــوصاً بعد الســقوط ومجيء
الاحتلال. كما تفتــقر إلى معرفة سبب الانحياز شـبه الكــامل إلى الطائــفة
من دون الوطن، وهو انحياز ســياسي تروّج له الأحـزاب الدينية، التي تتجه
ببرامجـها إلى المصلـحة الإقليمية.
المقصود من عنوان الفيــلم »شيعستان« دولة شيعية طائفية، تسيطر على
القســم الجــنوبي الغنيّ بالنفط من العراق. لهـذه الدولة منــظروها: في
الفيلم، مقاطع من خـطب السيد عبد العزيز الحكيم (رئيس المجـلس الأعــلى
للــثورة الإســلامية) وبعض رؤساء العشــائر الذين يدعمون أو يعارضون هذه
الدولة المقترحة، مع غــياب مقابلات حقيقية (عدا واحدة) مع الشــارع
العــراقي، الذي هو ضمان نجاح هذه الدولة أو فشــلها. إذ لا يوجد بعيداً عن
الأحزاب الديــنية تصوّر للمواطن عن هذه الدولة، ولا إحســاس بالدولة
الطائفية عند الشيعــة خارج التصوّر العاطفي، الذي هو رد فعل عـلى القمع
اللاحــق بهم، مســتلهماً الحيف التاريخي لواقعة الإمـام الحسين بن علي،
واستشهاده في معركة كربلاء، انتــصاراً لقيم العدالة. هذه الواقعــة
المهــمّة في تــاريخ شيعة العراق تحديداً، غيّرت تاريخهم السياسي والعاطفي
تجاه امتلاك الحق المؤيد من دم الإمام المهدور. لم يُنظّر لهـذه الأحــقية
ســياسياً، بل صارت ضمن الوجدان العاطفي أكثر من كونها غاية للسعي إلى
السلطة. هناك الكثير من التحريف والتشويه الإيرانيــين، عاشا على الدس
والثأر من الطائفة السنية، التي صـُوِّرت كــأنها غاصــبة لحقّ الإمام علي
بن أبي طــالب ولولده الحــسين. هناك فوارق جليّة عاطفــية وفكرية ســياسية
تتعلّق بنظام الحكم، تميّز الشيــعة العــراقيين (نواة التشيّع) عن
الإيرانيين الحــديثي المذهب (أتمنّى ألا يُنَكّل بنياتي البريئة باستبعاد
الخلفية الإيرانية للمـخرج). لذا، يركّز الفيلم على هذه المشاهد: ضرب
بالزنجــيل، مراســيم التــطبير على الرؤوس، اللــطم، إحــياء ذكرى
عــاشوراء، التي يقول البعض عنــها إنها »بدعــة ايرانية دخيلة على الثقافة
العــراقية«. إن الجــهد المتحمّس لتجميع اللقطات والدعاية الطائفية
للمراسيم الحسينية، هما المبرّران المحسودان في هذا الفيلم.
هنـاك أيضـاً فــيلم "السيـستاني" (عــُرض مؤخّراً في مهرجان (أدفا)
الــدولي للأفــلام الوثــائقية في أمستردام) أكثر حرفية من "شيعستان".
لقطــات متنوّعة بحسب حاجة التعـبير: مقابلات مأخــوذة بلقطـات قريــبة
وأخرى عامة للإحاطة بالمشهد، موضوع أساسي موجّه لمسار السيناريو (مرجــعية
آية الله السيستاني) وتأثيره الفعـّال في سلوك شيعة العراق، سواء إلى
جــانب دعم الدولة أم مسايرة الاحتلال. يُقلّد أغلب شيعة الـعراق السيستاني
فقـهــياً، ويمـتثلون لأوامره الروحــية في العــبادات والسياسة في التعامل
مع نظام الحكم (دعم الانتخابات مثلاً). ويستنتج المتابع لتاريخ مرجعية
النجف تفضيلها الابتعاد عن الشأن السياسي، بخلاف ما يريد فـرضه الإيرانيون
حالياً، أي مرجعية قُمْ متــمثّلة بولاية الفــقيه. هنا، الصراع فقـهي
وتاريــخي مزمن بين المرجـعيتين على القيادة الروحية لشيعة العالم، وعلى
أساليب الحكم، له تأثيرات شديدة على ما يحصل الآن في العراق.
الفيلم واضح في توجّــهاته التعبــيرية والفكرية، ما عدا الالتــباس
المحيّر في الموسيــقى التــصويرية، خصوصاً في مشهد الخاتمة: عرض صورة آية
الله السيسـتاني بالــتزامن مع مــوسيقى غربية سريعة صاخبة، لا تليق بهيبة
المرجعية التي يُجلّها العراقيون. فهل أراد الفيلم، من جانب خفيّ، الإيقاع
بالقدسية؟ أم إنه جذب غربي تسويقي، يستعمل السيستاني عنواناً كبيراً
وجاذباً للغرب، مقلّداً نظام الدعاية الأميركي، الذي يركّز الانتباه على
العنوان مع موسيقى صاخبة من دون المضمون؟ لم يعرض الفيلم قطّ، حتى مقابلة
واحدة مع السيستاني المعروف باعتكافه وعدم إعطائه مقابلات إعلامية، إذ
يتولّى وكلاؤه نقل آرائه الى العامة. وعليه، هناك تصميم مبيّت لاستعمال
العراق عنواناً تسويقياً وعاطفياً، للتغطية على هفوات الصناعة السينمائية،
كي يُسامح المشاهد سطحية العرض، ويغفر التضحية بالفن لجانب رؤية وقائع عدّة
من ذلك البلد، تشفي تطلّعه إلى حقيقة ما يجري هناك.
يقول ميلتون: (لو لم يكن الرديء موجوداً، لما كان للبشر أي فضل
باختيار الجيّد. ربما ينبغي نشر حتى الكتب الرديئة، كي يُمكن الاختيار
بحرية). فهل يتحقّق هذا في بلد الأساطير، بلد "ألف فيلم وفيلم"، بعد أن
تعايش أضداد الاختيار فيه؟
أدب وفن في
18/02/2009 |