البلد
المستباح تحت نير الاحتلال ونير المافيات
يفتخر
فيلم (العراق مجزّأ) ، تنافس على جائزة »أوسكار« مع فيلم آل غور) بالوحدة
الموضوعية المخطّط لها، التي ساهمت في إنجازه، والتي اعتمدها المخرج
الأميركي جيمس لونكي بمشقّة محفوفة المخاطر، حياتياً وفنياً. المقارنة هي
هذه الوحدة التي غطّت كل تفاصيل الفيلم بفصوله الثلاثة، والتي استطاع
الفيلم أن يقول، من خلالها وبصراحة ومن دون مواربة، إن الاحتلال الأميركي
في العراق مصدر المشاكل في ذلك البلد.
يبدأ
الفيلم بلقطات أرشيفية لمدينة بغداد الهادئة المسالمة قبل الاحتلال، ثم
ينتقل إلى الدبابات الأميركية في شوارع المدينة، وإلى مناظر الخراب
والدمار. هذه المقارنة أساسية، ولا غنى عنها في اللغة السينمائية للفيلم،
التي تشي بكدح بالغ الأهمية، لإيصال الفكرة عن طريق الصورة المبنية على
إظهار الضد والتشابه، اللذين تحفل بهما خبرة المخرج جيمس لونغلي. فهو
أميركي، درس التصوير والإخراج في روسيا. لذا، من السهولة أن يسلك المخرج
أسلوب المقارنة، لأنه نتاج مدرستين سينمائيتين: الروسية والأميركية. علماً
أن فيلمه هذا يتحدّث عن العراق. وعلى الرغم من أن الفيلم وثائقي، إلاّ أن
أسلوب المقارنة وقدرة الكاميرا على اقتناص الحدث بدقة يعطيان انطباعاً بأن
للفيلم شخصية الروائي وذلك من خلال مشاهد شاعرية مدهشة وسيطرة على مفاجأت
الحدث كأن عين يقظة متمرسة وخبيرة برصد النهايات تراقبه. كما أن أسلوب
المونتاج/المقارن يدلّ، في أغلب الأحيان، على أن الكاميرا هي التي تفاجئ
الوقائع.
ما الذي
يدعو صبي عراقي أن يقول: »أريد أن أصبح طياراً، لأهبط في بقعة نظيفة، وأعيش
في بلد غير العراق«، بعد أن تتفاقم عذاباته جرّاء الضرب والإهانات، التي
يتلقّاها من صاحب ورشة الحدادة حيث يعمل. يقول: »توقّفت عن الحلم«. محمد
صبي عراقي يعمل في ورشة حدادة يديرها شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة (مبتور
الساق). يتلكّأ في المدرسة، لا يستسيغها، ويفضّل عليها العمل. بعد مرور
أربع سنوات على دراسته، لا يستطيع أن يكتب اسم والده مقدّم الشرطة المفقود
منذ عهد النظام السابق. فقدان الأب أدّى إلى فقدان سعادة الطفل. صاحب
الورشة ضد الوجود الأميركي، لأن هذا الاحتلال يهين العراق. لكنه، من ناحية
أخرى، يسمح لنفسه بأن يضرب محمد بكل قسوة، ويتجاوز آدميته. إن هذا جزء من
الشخصية العراقية الموصوفة باللاانسجام. هنا مقارنة بين الموقف النبيل ضد
الاحتلال، والأسلوب البشع للتعامل مع الطفولة، الذي يطفح بالتسلّط
والتملّك، إذ يشعر صاحب الورشة بأنه مالك العمل، فهو يملك التصرّف بحياة
محمد أيضاً. يشعر الأميركيون بأنهم خلّصوا العراقيين من القمع، فهم
يملكونهم والعراق، يعملون ما يحلو لهم من دون مساءلة أو وجل. هذه مقارنة
لإحلال التشابه بين ضرب محمد والاحتلال، إذ ليس من الطبيعي أن يقف المرء ضد
الاحتلال، لأنه يقتل ويخرّب، وفي المقابل يمارس الضرب من مكان القوة
والتسلّط: ازدواج المعايير، الذي يجب أن يختفي من منظومة القيم، إذا أراد
الإنسان الوقوف، فعلاً، ضد الاحتلال. الوردة، بإشاعتها إشارات الجمال
والتألّق، هي الأخرى ضد الحرب، لأن قيمها مغايرة لرموز الحرب (أي الخراب
والموت).
يُروى
الفيلم على لسان محمد، ويدخل من خلاله إلى متاهة الواقع العراقي العجيب:
هدم وتقتيل، مدارس غير نظيفة وسبورات كالحة لا تصلح للكتابة، فتضطر المعلمة
إلى أن تكتب على الحائط. يتكرّر، مرّتين، مشهد استعمال المروحة السقفية
أثناء تحليق طائرة مروحية، ما يذكّر بفيلمي (القيامة الآن) لكوبولا و(أم
ساري) للونغلي نفسه. لم يضع المخرج أي فرصة إلاّ وقارنها بالصورة: عندما
يضرب صاحب المحل محمداً، تنتقل الكاميرا وتصوّره وهو يضرب على الأدوات
الحديدية. حلاّق يقصّ شعر زبون، وفوقهما تحلّق مروحية. يقف المُشاهد، منذ
البداية، أمام مخرج يعرف صنعته بدقة، سالكاً طاقة الكاميرا على البوح
والرصد، واشتغالاً على مهارة الكاميرا الروسية الناطقة. ابتعد الفيلم
تماماً عن التعليق، وحلّت المقارنة محلّه، إذ ما الحاجة إليه والصورة تروي
كل شيء؟ بعد أن ملّ محمد من الشتائم والضرب، انتقل إلى العمل في محل عمّه،
حيث شعر بالسلام.
عبر
الفيلم، من خلال طفولة مهدّدة ومُهانة، إلى عراق مهدّد ومهان. مقارنة
الإهانة المجتمعية (متمثّلة بضرب محمد) بالإهانة الوطنية، عن طريق احتلال
ليس الأرض فقط بل كرامة المجتمع، الذي تغيّرت مفاهيمه كي تلائم هذا
الانقلاب المتغلغل فجأة في نسيجه جرّاء الاحتلال: هكذا يتمحور الجزء الأول
من الفيلم، وهو بعنوان »محمد«. أما الجزء الثاني، »مدينة الصدر«، فتدور
غالبية وقائعه في مدينة الناصرية، حيث يسيطر جيش المهدي، الذي يسنّ قوانينه
الخاصة، منتهكاً كرامة المواطن والدولة معاً.
الناصرية
حاضنة مدينة أور السومرية، تأسّس فيها الحزب الشيوعي العراقي في العام
.١٩٣٤ وبمبادرة من أحد أبنائها فؤاد الركابي، تأسّس حزب البعث، ووجدت
المعارضة العراقية ملاذاً لها في أهوارها. إنها المدينة الأكثر استهلاكاً
للخمر، وفق إحصاءات عدّة، أتحفت الإذاعة والتلفزيون بستين بالمئة من
الفنانين. إنها مدينة الغناء، التي أصبح الغناء فيها ممنوعاً بأوامر جيش
المهدي، فقد أعلنها جيش المهدي مدينة إسلامية، وأخضعها لقوانينه. يتابع
الفيلم غارات جيش المهدي على العاملين في مهنة بيع الخمور، وضربهم المبرح.
هناك أحداث الصدام مع القوات الإيطالية. دماء وقتلى. في الجانب الآخر، تبدو
المدينة خربة ومهملة، لا شيء فيها سوى خطب ممثلي جيش المهدي. والسؤال هنا،
هو: كيف استطاع المخرج، وهو أميركي يُنسب في أحسن الأحوال إلى أميركا، أن
يرافق جيش المهدي في مداهماته، ويطوف العراق متقصّياً أحداثاً وثائقية
تحتاج إلى الصبر والتأني، وإلى كثير من الثقة، المفقودة أصلاً بين
الأميركيين والعراقيين؟ أي شجاعة وجَلَد وحلم سينمائي لديه؟ يبدو أنه،
لتحقيق هذا كلّه، أفصح إلى جيش المهدي بنيّاته الحقيقية، ما يكشف عن درايته
بما يريد قوله: فيلم ضد الاحتلال الأميركي. لم يخن المخرج جيش المهدي، ولا
تمكّنت الإغراءات من جذبه إلى الجانب الحكومي الأميركي. لكنه لا يحابي
تماماً تصرّفات من يحميه، في مشهد مؤثّر لإمرأة عراقية تتوسّل قائداً في
جيش المهدي أن يطلق سراح زوجها، وابنتها بقربها تبكي.
اعتنى
الفيلم بأسلوبه الوثائقي. إنه مهموم بالصورة، أكانت متخيّلة تنحو منحى
الفيلم الدرامي، أم وثائقية محض: عندما يتعرّض إلى لقطات وثائقية من
الأرشيف، يُدخل عليها مؤثّرات الكومبيوتر، فتبدو كأنها وليدة الحدث الآنيّ.
ينتهي هذا الجزء بلقطة سيــنمائية مؤثــرة: قبر، وإلى جانبه يرفرف علم
عراقي، ثم كاميرا سريعة تصوّر السكك الحديدية،و تهدأ سرعتها لتقف عند مشهد
محطة فارغة. هذا هو حال العراق: قتل وتمزيق يؤدّيان إلى القبر، في حين أن
السكك الحديدية ترمز إلى الانتقال من مرحلة إلى أخرى. أخيراً، يصبح العراق
محطّة، ويبقى السؤال محيّراً: لماذا محطة فارغة؟
يبدأ
الجزء الثالث »كردستان/ العراق« بدخان أسود لمعمل صناعة الطابوق (كورة،
باللغة العراقية الدارجة). أقدم طريقة لصناعة الطابوق استخدمها السومريون.
الطابوق يرمز إلى البناء. نلاحظ مرة أخرى اللغة السينمائية في الفيلم،
كأنها تقول: أينما يتواجد الأميركيون، يحلّ الهدم (لا توجد في كردستان
العراق قوات أميركية). يصوّر هذا الجزء الرعاة والفلاّحين الكرد. الأطفال
سعداء، يلعبون ويذهبون بشوق إلى المدارس، بينما الصبي محمد في الجزء الأول
يُضرَب ويُهان، ويترك المدرسة بسبب الاحتلال، أو مقتل والده من قبل نظام
البعث. يقول فلاح كردي إن العراق سيُقَسّم إلى ثلاث مقاطعات، فتصوّر
الكاميرا مباشرة ناراً تلتهم الحطب. المُعبَّر عنه هنا، بحسب اللغة
السينمائية هذه، أن مصير العراق الاحتراق، إذا جرى تقسيمه إلى فدراليات.
أحسب أن هذا الموضوع هو، في النهاية، رأي الفيلم. لذلك، اختير له عنوان
»العراق مجزّأ«. يبدو أن مخرجه أمضى وقتاً طويلاً في كردستان العراق، من
خلال تصويره مناظر الربيع والشتاء، حيث نشاهد دورة فصول السنة. أطفالٌ
يتراشقون بكرات الثلج وهم سعداء.
عاش
المخرج سنتين في العراق، لإنجاز فيلمه هذا، الذي ينتهي بمشهد يُصوِّر صبياً
يدخل الحقول. إذاً، الدخول عراقياً إلى الخصب والازدهار لا تشهده المرحلة
الراهنة من العراق بل المستقبل. الأطفال هم الذين سيشهدون هذا التغيير، في
حين يتناحر العراقيون الآن في ما بينهم. إن »العراق مجزّأ«، بحق، عمل شخص
بمفرده، كأن جهده الفردي يعادل فريق عمل.
أدب وفن
11/02/2009 |