كان
لافتاً تصريح وزير الإعلام اللبناني
طارق متري لوكالة الصحافة الفرنسية بعدم عرض فيلم المخرج الإسرائيلي آري
فولمان
'فالس
مع بشير' في أي من الصالات اللبنانية. مبرر الوزير في هذا التصريح 'سياسة
لبنان' القاضية 'بمقاطعة البضائع الإسرائيلية'. ما يلفت النظر في هذا الأمر
أن متري
استبق أي عرض من قبل الصالات اللبنانية في نية عرض الفيلم،
مثلما استبق جهاز
الرقابة على المصنفات الفنية التابع لمديرية الأمن العام. وهذا لا ينسجم مع
مبادئ
الوزير الذي كان تقدّم، سابقاً، بصفته وزيراً للثقافة بإلغاء جهاز الرقابة
في الأمن
العام وتفعيل القضاء كبديل عنه. كما كان تدخل من قبلُ لتعطيل
قرار الأمن العام منع
فيلم 'بيرسيبوليس' للمخرجة الإيرانية الفرنسية مرجان ساترابي، والذي يحكي
سيرتها
العائلية في ظل تاريخ إيران الحديث، ولا سيما بعد قيام
الجمهورية الإسلامية. كما
اعترض من قبل على منع الأمن العام مسرحية ربيع مروة 'لكم تمنت نانسي لو أن
كل ما
حصل لم يكن سوى كذبة نيسان' التي تحكي قصة الحرب الأهلية في لبنان من خلال
دور
المليشيات.
مع ذلك،
فإن جمعية 'أمم' التي يديرها الكاتب والناشر لقمان سليم
وزوجته مونيكا بورغمان، نظمت عرضاً خاصاً للفيلم دعت إليه عدداً من
الصحافيين
والأصدقاء في مقر الجمعية في حارة حريك، داخل الضاحية
الجنوبية، عاصمة 'حزب الله'
إذا جاز لنا أن نستعمل هذا المصطلح على سبيل المجاز السياسي وليس الإداري
أو
الوطني. عرض الفيلم جاء قبل تصريح الوزير الذي أشار إلى أن 'القانون
اللبناني
الحالي يمنع استيراد أو رؤية أفلام إسرائيلية'، منوّهاً بأن
منع مشاهدة الفيلم
سيكون عبثياً في ظل الانترنت. الآن دعونا نوقف النقاش حول عرض فيلم
إسرائيلي في
لبنان لنتحدث عن الفيلم نفسه في سبيل توضيح هذه الإشكالية.
الجندي
السابق
يتذكر
بداية من
هو آري فولمان؟ إنه جندي إسرائيلي سابق يبلغ اليوم من العمر
45
سنة. ولد المخرج في حيفا عام 1962 (وهناك من يشير إلى ولادته في وارسو،
بولندا).
قدّم
عدداً من الافلام بينها 'سانت كلير' (1996)، 'صنع في إسرائيل' (2001)
وComfortably
numb
الذي
يتحدث عن صواريخ سكود العراقية التي أطلقها الجيش العراقي
على إسرائيل عام 1991. درس الفن التشكيلي، وعام 1982 شارك في الحرب على
لبنان خلال
الاجتياح الإسرائيلي الذي وصل إلى العاصمة. أثناء الاجتياح
اغتيل رئيس الجمهورية
اللبناني بشير الجميل الذي كان قائداً لحزب 'الكتائب اللبنانية' اليميني،
والذي سبق
أن تعامل مع الإسرائيليين قبل أن يقرر انتهاج سياسة أخرى بعد
توليه الرئاسة. كان
ياسر عرفات غادر بيروت مع مقاتليه إلى تونس وفقاً لاتفاق قضى بمغادرة
المسلحين
الفلسطينيين لبنان بسلاحهم الفردي. لكن فجأة يهزُّ انفجار ضخم 'بيت
الكتائب' في
منطقة الأشرفية. لقد تم اغتيال الرئيس الذي لم يمرّ على توليه
الرئاسة سوى 17
يوماً. لم تمضِ أيام قليلة حتى كانت مجموعات من 'الكتائب اللبنانية' تدخل
بحماية
الإسرائيليين مخيمي صبرا وشاتيلا وترتكب أفظع مجزرة في حق المدنيين العزّل
من شبان
وعجائز ونساء وأطفال. مجزرة راح ضحيتها الآلاف، ولا تزال
ذكراها تثير النقمة والحنق
حتى اليوم. وقتها كان آري فولمان ضمن القوات الإسرائيلية التي دخلت بيروت،
وتحديداً
على مشارف مخيمي صبرا وشاتيلا. انتهت الحرب ونسي فولمان ما حدث. لكنه فجأة
يقرر أن
يتذكر، إنما هذه المرة من خلال السينما. أما دافعه إلى هذا
التذكر فهو المنام
المتكرر الذي كان يلاحقه، وفيه يرى 26 كلباً تهجم كل ليلة لتصل إلى شرفته
وتنبح
بغضب. كان كابوساً يلاحق فولمان إلى أن تذكر عبر مرشد نفسي أنه- بسبب عدم
قدرته على
إطلاق الرصاص على البشر- كلف في قتل الكلاب في المناطق
الحدودية الجنوبية قبيل دخول
الجيش الإسرائيلي إلى لبنان، وذلك خشية أن تثير هذه الكلاب انتباه
المقاتلين. كان
عدد الكلاب التي قتلها 26 كلباً بالضبط لا يزال إلى الآن يتذ كر نظراتها.
لكنَّ
الجندي السابق كان نسي فعلاً ما حدث في صبرا وشاتيلا. وحاول
عبثاً التذكر. ولهذا
الأمر استعان برفاق سلاح سابقين.
الخيال
كتأريخ
فيلم
'فالس مع بشير'
فيلم
Animation)
رسوم يتم
تنفيذها عبر الكمبيوتر)، لكنه واقعي جداً. إنه فيلم مفترض
من حيث الصورة على خلفية وثائقية تستعين بأحداث حقيقية وشهادات
واقعية لجنود وضباط
إسرائيليين شاركوا في اجتياح لبنان. يبدأ الفيلم بمشهد الكلاب الغاضبة تركض
باتجاه
شرفة فولمان. الجندي السابق نفسه يجلس في حانة يشرب الكحول مع صديق شاكياً
من هذا
الكابوس. بعد استشارات يقرر فولمان استدعاء الذاكرة. لكنه كان
نسي كل زملائه ولم
يعد يتذكر سوى واحد كان يسبح معه على شاطئ الرملة البيضاء (بحسب ما بدا لي
من خلال
المشاهد التي نقلت بيروت بتفصيلات من حيث الأبنية والشوارع وحتى الأبواب
الحديدية
الجرّارة للمحلات والتي لم تعد موجودة اليوم إلا ما ندر). لكن
هذا الصديق يعيش الآن
في
هولندا حيث أصبح يملك بيتاً وبعض المال. يسافر فولمان إلى هولندا آملاً أن
تساعده هذه الزيارة في التذكر. لكن صديقه لا يذكر شيئاً عن صبرا وشاتيلا.
يعود
الجندي فولمان من عند صديقه خائباً، وبينما يتأمل الثلج من
سيارة التاكسي، يتذكر
فجأة كل ما حدث. هنا تبدأ مرحلة أخرى من الفيلم، مرحلة الاجتياح الإسرائيلي
للجنوب
اللبناني ومدن مثل صيدا. زملاء سابقون يبدأون في الظهور أمام الكاميرا
عارضين
تجاربهم المُرّة في هذه الحرب. بعضهم كان يطلق النار بشكل
عشوائي وبعضم كان يجبن.
بعضم كان شجاعاً وبعضم تعرض لحوادث مرعبة في ظلِّ عمليات المقاومة. ويمتد
شريط
الذكريات وتمتد معه الشهادات لتصل إلى مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبتها
'الكتائب
اللبنانية' (بحسب الفيلم) في 16 أيلول (سبتمبر) 1982. كان
الجيش الإسرائيلي يحيط
بالمخيمين اللذين دخلتهما مجموعات 'الكتائب'. ولتسهيل هذه المجزرة أضاء
الإسرائيليون سماء صبرا وشاتيلا بقنابل مضيئة. ظلت المجموعات المسلحة تمارس
القتل
على مدار ثلاثة أيام في المخيمين على مرأى من الجنود والضباط
الإسرائيليين. بعض
هؤلاء رفع تقريراً إلى القيادة العسكرية، لكن شارون كان غارقاً في تناول
فطوره من
بيض مقلي وسواه. كان تعليق شارون، رئيس الأركان وقتها: إذا لم تر بعينك فلا
شيء
حدث. وهذا كان ردُّ فعل رئيس الحكومة وقتها مناحيم بيغن. إذاً،
بعد ثلاثة أيام تدخل
الجيش الإسرائيلي ليوقف المجزرة. وعندما دخل جنوده وضباطه رأوا الأثر
الوحشي لهذه
المجزرة: أجساد مشوّهة ومحروقة ومكوّمة في أزقة ضيقة جداً، عائلات بأكملها
أبيدت،
رؤوساً مقطوعة وأطرافاً مبتورة، يد طفل يقترب منها أحد الضباط
ليعثر على وجه فتاة
صغيرة. 'في مثل عمر ابنتي' يقول الضابط المشمئز. ثم تحدث مفاجأة الفيلم في
المشهد
الأخير حين يجد آري فولمان نفسه في مواجهة نساء متشحات بالسواد
يخرجن مولولات من
المخيم، لتتحول الصور المشغولة على الكمبيوتر فجأة إلى صور حقيقية مأخوذة
من
المجزرة. خمسون ثانية من الصور الواقعية للمجزرة كانت كافية للقول: ما كنتم
تشاهدونه لم يكن رسوماً متحركة. إنه الواقع كما رأيته. هذه
كانت رسالة فولمان في 'فالس
مع بشير' الذي نال جائزة غولدن غلوب هذه السنة ورُشّح لجائزة أوسكار التي
ستجري في شباط (فبراير) المقبل. كما كان الفيلم عرض السنة الفائتة في
مهرجان كان في
الذكرى الستين للنكبة.
لا شك في
أن فيلم 'فالس مع بشير' فيلم جميل من حيث
الإخراج وتوليف المشاهد، لدرجة أن المشاهد لا يشك لحظة واحدة أنه أمام فيلم
مشغول
بالكمبيوتر. الواقع لا يفارق مشاهد الفيلم منذ اللحظة الأولى
إلى النهاية. هذه قدرة
إخراجية استطاع المخرج من خلالها أن يسبغ مناخاً حقيقياً على صور افتراضية.
الموسيقى أيضاً يمكن وصفها بالساحرة. موسيقى ليست تصويرية بل هي مقاطع
موسيقية
كاملة تساهم في مضاعفة الجو الجنائزي في الفيلم.
بين
التطهر
والإنكار
الفيلم
الذي أنتج بمشاركة إسرائيلية وفرنسية وألمانية من زاوية
الطرح يستحق نقاشاً آخر. من ناحية هو فيلم اعتراف يقف فيه الجلاد لحظة ندم
أمام
ضحيته. إنه يعترف بهذه الضحية بعكس غالبية الكتابات والأعمال
الفنية الإسرائيلية
كما يُنقل إلينا (لأنني لست خبيراً في الأدب أو الفن الذي ينتج في
إسرائيل). مع
ذلك، بدا الفيلم منقسماً إلى قسمين. القسم الأول قبل الوصول إلى مجزرة صبرا
وشاتيلا
لا يصوّر وحشية الجيش الإسرائيلي في القرى والبلدات والمدن
التي دخلها. صحيح أنه
يتحدث عن هستيريا في إطلاق الرصاص والقصف أثناء الاجتياح، كما يسجل شهادة
أحد
الجنود الذي ساهم في إطلاق الرصاص على سيارة مدنية في صيدا أودت بحياة
عائلة بكامل
أفرادها، إنما كانت مشاهد العنف هذه تلميحاً أكثر منها
تصريحاً. بدت مجازر منعزلة
في
حين أن أرقام ضحايا الاجتياح التي بلغت الآلاف تعكس واقعاً آخر. لكن الفيلم
يصبح
أكثر وضوحاً في تصويره مجزرة صبرا وشاتيلا على أيدي ميليشيا 'الكتائب
اللبنانية'.
من جهة أخرى، فإن الفيلم يصرّح بمسؤولية الجيش الإسرائيلي والقيادة
العسكرية
والسياسية
أيضاً في مسؤوليتها الأخلاقية واللوجستية عن هذه المجزرة. لكن هذا غير
كافٍ. غير كافٍ أن يكون دور الجيش الإسرائيلي في المجزرة اقتصر على إضاءة
القنابل
فوق المخيمين أو الصمت ثلاثة أيام إزاء المجزرة. في الواقع
حدثت المجزرة بقرار
وتسهيل مباشر من قبل الجيش الإسرائيلي الذي كان يطوّق المخيمين. لم يكن
الأمر مجرد
غض نظر بل قراراً سياسياً وعسكرياً ومساهمة ميدانية في تنفيذ
المجزرة. وعليه، أخشى
أن
يضيع هذا الأمر في ظلِّ مبدأ الاعتراف والتطهر اللذين أبداهما الفيلم
ومخرجه.
أخشى أن يكون الفيلم إنقاذاً للجيش الإسرائيلي من المشاركة المباشرة في
المجزرة.
هذه خشية ينبغي ألا تضيّع البعد الأخلاقي للفيلم الذي يجب أن نقرأه بحذر.
نعود
إلى وزير الإعلام المنتمي إلى جماعة '14 آذار' وتصريحه بتوجيه
هذه الأسئلة إلى
الذات قبل أن تكون موجّهة إليه شخصياً: ألا يستحق فيلم كهذا المشاهدة؟ إذا
كنا-
كلبنانيين- لا نقوى على التذكر، وإذا تذكرنا فعلى سبيل الفكاهة وتكرار
الماضي،
لماذا نمنع العدو من التذكر عنا؟ حتى الآن لم تأت الرواية أو السينما أو
القصيدة في
لبنان والتي تبوح بتلك الحرب المؤلمة. ما زلنا نختبئ خلف هذا
الحاضر 'الموقوف'
مديرين
ظهورنا لحرب ذهب ضحيتها مئات الآلاف. حتى الراحلة رندة الشهال حين أرادت أن
تظهر عنف هذه الحرب عبر بذاءة اللغة اقتطعت الرقابة من فيلمها 'متحضرات' 46
دقيقة.
أي اقتطعت الفيلم.
شخصياً،
أرفض أي تطبيع أو أي علاقة من أي نوع كانت مع دولة
تقوم على إبادة الآخرين مثل إسرائيل، لكني شاهدت الفيلم وأرغب في أن يشاهده
آخرون.
ولم تغيّر هذه المشاهدة موقفي لأنني- كعربي- لست قاصراً كما تريد الرقابات
العربية
أن تقنعني.
القدس العربي
02/02/2009 |