فيلم
"الوعد" بنكهة الرحيل
بعضهم يفك
سوار ساعته عن معصمه، أو يخلع دبلته من يده، وبعضهم يسر إلى أقرب المحيطين
به ببعض أسراره، أو يبلغ خاصته بوصيته، وبعضهم يردد كلمات تعينه في لقاء
يعرف أنه قد أعد أو أُعد له.. كل يجرد من كل زائل في حضرة الخلود الذي يلوح
في نهاية الممر، واعيا أن الصراع المحتوم مع الحياة، والمحسوم مسبقا لصالح
الموت قد أوشك على الانتهاء، غير أن التكوين الاستثنائي للمبدع يأبى عليه
الاستسلام لسكرات الموت المرجح دون مناهدة.
عدد غير
قليل من أهل القلم دخل إلى غرفة العناية المركزة دون أن يحكم غطاء قلمه،
فتسرب المداد بعمل ولد في ساعة الرحيل، أو ما غلب الظن أنه كذلك.. سعد الله
ونوس استأذن السرطان في أن يكتب "نحن محكومون بالأمل".. يوسف إدريس أوصى
على وجه الدقة كيف يمكن أن يستكمل عمله "الفرافير" بعد رحيله، لكنه عاد
ليكمله بنفسه.. أمل دنقل لم يغادرنا قبل أن يؤرخ شعرا لأحداث الغرفة "8".
وهم
الرحيل
يتوارد كل
ذلك إلى الذهن إذا ما علمنا أن وحيد حامد قد خط بعضا من سيناريو فيلمه
الوعد محمولا بوهم البقاء أو الرحيل.. دراما الفيلم ذاتها تنبثق من لحظة
شبيهة؛ إذ ينتزع المريض العنيد الأستاذ عادل غبريال من ذراعه أنبوب
الجلوكوز مقررا أن مريض السرطان ليس عليه المراهنة على طب لن يمنحه في أحسن
الأحوال إلا شهرا أو بضعة أيام؛ ليسلمه بعدها لموته المحتوم.. يبسط الرجل
تلك الحقيقة أمام زائره الشاب، أو بالأحرى الشاب المكلف بزيارته، ليعطيه
هدية رب عمله، ومكافأة نهاية الخدمة.
سرعان ما
تنكشف شبكة العلاقات التي تربط الشاب الزائر بالمريض المسن بطرف ثالث هو
السحراوي، فالشاب ليس أكثر من ذراع حديثة للسحراوي في مرحلة الاختبار،
وإثبات الكفاءة، أما المريض فهو ذراع قديمة استخدمت كثيرا في تحقيق مأربه.
أما
مستخدم هذا وذاك -السحراوي- فهو ضابط أمن سابق يدير مؤسسته الخاصة التي
تزاول أنشطة عديدة، من بينها الاتجار في العملة، والأمن أو الإخلال بالأمن
حسبما كانت زاوية نظرك للأمور، فرجل الأمن المكلف بالتلصص على أفراد
الجماعة، وجمع معلومات لصنع ملفات كاملة تخص نقاط ضعفهم، هو نموذج نعرفه
جيدا، ونطلق عليه اصطلاحا: "رجل أمن"، رغم أنه الأبعد عن أن يكون مصدرا
للأمن أو للأمان.
رجل الأمن
قل مثل
ذلك في رجل الأمن المنوط به التصفية الجسدية لشخص؛ لمصلحة نظام أو مؤسسة
حكم أو غيره.. هل يتشبع رجل من هذا النوع بما اعتاد القيام به من أفعال قد
تبررها ضرورات أمنية لدولة، لكن حتى مع خروجه من الخدمة لا يكف عن القيام
بها؟! بقول آخر: لا يستطيع التوقف عن مزاولة تلك الأفعال حتى وهو خارج نطاق
الخدمة؟! نعم رجل من هذا الصنف يبدو أن الدراما قد قرأت وجوده في تزامن مع
اكتشاف جرائم قام بها رجال أمن سابقين لا تختلف كثيرا عما زاوله في
الخدمة!.
السحراوي
من هؤلاء؛ إذ ظل بعد المعاش يلاحق من أراد، ويجند من أراد، ويبتز من أراد،
ويقتل من أراد، مستخدما أدواته التي تفوق في استخدامها كربيب لأمن الدولة،
فما بين بلطجية إلى ساقطات يملك تحريك أولئك وهؤلاء كيفما شاء، عبر
ابتزازهم بكروت ضغط تمس ما يلوثهم اجتماعيا ونفسيا.
هذا المزج
المتعمد بين مرحلة عمل الرجل في جهاز أمن الدولة، وجهاز أمنه الخاص يبرره
دراميا عالم المعنى المؤكد على أن (حاميها حراميها)..
لكن مزجا
من هذا النوع يمس باقي أطراف الشبكة ليس له ما يبرره دراميا من وجهة نظرنا؛
فالمسن المريض والذي أعفي أو استعفى من خدمة السحراوي لا يدري أحد متى وصل
لتلك القناعة، وهل لإصابته بالسرطان، واقترابه من الموت دخل في هذا
الاعتزال/التحول/الإدراك، خاصة أن أغلب ما نعرفه عن الشخصية هو ما يسرده عن
نفسه للشاب الزائر الذي اختاره لمهمة دفنه بعد الرحيل، والذي يبدو أنه كان
يعرف أنه أقرب من السرطان بعد أن قرر الخروج على السحراوي.
فإذا ما
أضفنا أن لحظات انضمامه للسحراوي جاءت عقب فراره من الصعيد بعد أن قتل
زوجته؛ إذ وجدها في أحضان عشيقها فقتلهما معا، وظل ملاحقا بثأر أهل القتيل!
فهل حماه السحراوي منهم أم من القانون أم من كليهما معا؟! وهل حفظ وجدان
الرجل للسحراوي مثل هذا الفضل أم أنه ظل أسير شعور بأنه عبر ابتزازه قد
استنفد ما لديه له؟! سل ما شئت فلن يجيبك الفيلم إلا بكون السحراوي يملك
ملفات تحوي مثالب البشر لاستخدامهم متى شاء.. فالشاب مثل المسن له مثلبته
وهي مهنة أمه كداعرة.. قل مثل ذلك في الفتاة التي تستخدم من قبله عينا على
الشاب.
لعب
الصغار
والشاهد
أن خلفيات الشخصيات لا يقال فيها الكثير عبر الدراما، وتبدو غائمة؛ إذ
تستدعيها ذاكرة ضامرة إن صح التعبير، بالرغم من فاعلية الذكرى في تحريك كل
طرف نفسيا.. فإن لم تكن تلك ذاكرة مختزلة للتاريخ في الفضائح فقل إنها
ذاكرة ضبابية لعقل سقيم بالمعنى المجازي والحقيقي للكلمة؛ لنعود سريعا
لشبكة العلاقات.
السحراوي
يكلف الشاب بإعطاء مكافأة نهاية الخدمة للمحتضر، والمحتضر يسرق دور
السحراوي فيكلف الشاب بدفنه متى مات أو قتل.. السحراوي يتعهد الشاب كقاتل
واعد، والمحتضر يطالب الشاب بأن يعده بألا يقتل متى طلب منه ذلك.. السحراوي
يرسل من يقتل المحتضر، والشاب يؤدي مهمته في دفن الرجل في صندوق خشبي في
قمة جبل يطل على البحر كما أوصاه الرجل، غير أن الصراع الدرامي بين
السحراوي والمهندس عادل لا ينتهي بمقتل الثاني، بل يستمر في دائرة أخرى
تولد من قلب الأول؛ لتتسع تدريجيا صانعة دائرة أخرى أو قل فيلما آخر؛ إذ إن
البلطجي الشاب يتبنى موقف الراحل في عدم الاستسلام لإرادة السحراوي، فلا
يخبره عن مهمة الدفن، والتي يشاركه فيها فتى مسيحي مهادن وانسحابي، لكنه
يحلم بمغامرة، ويسلم الشاب للرجل مكافأة نهاية الخدمة الخاصة بالراحل، فيثق
فيه الرجل، ويكلفه بمهمة تخص غسيل أموال وتجارة عمله في الصعيد، "فيضرب
ضربته ويهرب".
خيوط
فرعية من قلب الدائرة الأولى تصنع الدائرة الثانية كما أسلفنا، فالشاب لم
يكن ثمة عداء بينه وبين السحراوي إلا ما أورثه إياه الراحل، والفتى المسيحي
الذي يعمل في الكنيسة في مراسم الدفن والنعوش، والذي عرفه في مهمته الأولى
لدفن الراحل خارج إطار الرسميات، فكانت بذرة لعلاقة أمتن تم التعويل عليها
بعد عودته من الخارج؛ إذ نالته أذرع السحراوي حتى في بلاد المغرب العربي.
خيط آخر
تولد من الدائرة السابقة هو الفتاة التي يكلفها السحراوي بعمل علاقة مع
الشاب، فتقع في حبه، وتتطهر به على عادة غوانينا الفاضلات! والوحدة بين
المشرق العربي ومغربه تتحقق على يد غانية أخرى تحمي بطلنا هناك، وتذبح فداء
لصوت الواجب.
تجربة
بات من
الجلي للشاب أن محاولة الفرار من السحراوي أو مكافحة إرادته بالمقاومة هو
أمر لا طائل من ورائه، ويتمثل هو نصيحة الراحل بأن عدوك إما أن تفر منه أو
أن تقضي عليه، فيتحول الشاب من الدفاع إلى الهجوم، أو هذا ما يحاول أن يوحي
به الفيلم؛ إذ إنه يرى أو يريد أن يرى أن الهروب من السحراوي بسرقة أمواله
فرار من الظالم وهجرة على نحو ما، والخطاب الدرامي العام، حين يقدم مواجهة
من هذا النوع كمقاومة وجهاد يفلت الأمر من يده تماما، فشرعية سرقة الحرامي
الكبير ليس لها ما يحصنها دراميا، وهي قد طعنت سينمائيا بالمثل، ولا رحم
الله الغول أو المولد.. رسخت لحلول، ومن ثم لقيم من هذا النوع.
المهم أن
الضربات الموجعة توجه للسحراوي من طرف المجرمين الشباب، فيقتل قاتل الراحل
استرضاء لهم؛ ليسترد فرسه الحبيب المخطوف من قبلهم، فيقبض عليه البوليس
أخيرا، وينتهي الفيلم بأن قاتلا جديدا يحمل وردا وطردا يجلس في مواجهة
الشباب الثلاثة المنتشين بالنصر؛ لتكون بذلك نهاية مواربة؛ حيث إنها ليست
نهاية مفتوحة بما يكفي، فثمة فيلم أسميناه بالدائرة الأولى جوهرة تأملات
حول الحياة والموت، واعترافات تراجع فيها الذات رصيدها من الفعال، وما
كسبته من وراء ذلك، نجح محمود يس في نقلها ببراعة افتقدناها منه لعقود.
وثمة فيلم
آخر يتواثب للعبة جديدة مغامرة تتلمس الطريق للنضوج يمكن رصدها عبر تمثيل
طازج وحيوي يحسب لآسر ياسين وروبي وأحمد عزمي، لقلوب شاب لكن تحكمها روح
شاخت وتتصابى، ربما كان يحسن أن يعبر عنها من ينتمي لهذا الجيل، وبذا تبقى
صلاحية تلك الكتابة للتعبير عن وجدان اللحظة محط سؤال؛ ليجيبه المشاهد
بنفسه محددا إن كانت كتابة حية حاضرة معبرة وطازجة وفعالة، أم كانت كتابة
متى تعثرت لجأت لمخزونها من الحيل التقنية، فكانت بذلك كتابة برصيد أوشك
على النفاد.
كاتب وناقد فني.
إسلام أنلاين
01/02/2009 |