جاءت
ولادة السينما السورية مع إنتاج فيلم «المتهم البريء» الذي أخرجه أيوب بدري
عام 1928، بالتعاون مع مجموعة من رواد مغامرين، من هواة السينما، أولئك
الذين شكلوا شركة «حرمون فيلم» للإنتاج السينمائي. وبالتالي لا تتخلف
السينما السورية عن السينما المصرية، على صعيد الولادة، سوى بعام واحد فقط،
على اعتبار أن الفيلم المصري كان من إنتاج العام 1927، وكان بعنوان «قبلة
في الصحراء» للأخوين بدر وإبراهيم لاما. ولكن الانطلاقة الحقيقية والمثمرة
للسينما السورية سوف تتأخر قرابة أربعين عاماً، بعد ذلك، لم تشهد فيها سوى
محاولات قليلة ومتناثرة، لم تستطع أن تؤسّس لسينما سورية، أو لصناعة
سينمائية سورية..
فعلى
الرغم من أن المنتج نادر الأتاسي، بالتعاون مع «سيريا فيلم» قدم في العام
1964، فيلم «عقد اللولو» من إخراج يوسف معلوف، وبطولة الثنائي الكوميدي:
دريد لحام ونهاد قلعي، والمطربة اللبنانية صباح، والمطرب السوري فهد بلان،
إلا إن غالبية المؤرخين يميلون إلى اعتبار أن ولادة السينما السورية
الحقيقية، وانطلاقتها، جاءت مقترنة بولادة المؤسسة العامة للسينما في
سوريا، الناتجة عن المرسوم التشريعي رقم 258 تاريخ 12/11/1963، والذي كان
يعني تولي القطاع العام العملية الإنتاجية السينمائية، إنتاجاً وتسويقاً
وتوزيعاً، وعدم الاكتفاء بالإرشاد والتوجيه، كما كان يحصل منذ أيام الوحدة
السورية المصرية عام 1958، عندما تأسست أول دائرة للإنتاج السينمائي في
وزارة الثقافة والإرشاد القومي، برئاسة المخرج المخضرم صلاح دهني..
ويعد فيلم
«سائق الشاحنة» الذي أخرجه اليوغوسلافي بوشكو فوتشينتش عام 1967 الإنتاج
الروائي الطويل الأول للمؤسسة العامة للسينما في سوريا، التي استطاعت حتى
عام 2008 من إنتاج 55 فيلماً روائياً طويلاً، أي بمعدل لا يكاد يتجاوز
فيلماً واحداً، ونصف، خلال العام.. في الوقت الذي أثبت فيه القطاع الخاص
فشله في مجال الإنتاج السينمائي، وتوقفه عن العمل في سياقه، مع أننا تطلعنا
بأمل كبير إلى تجربة الإنتاج المشترك فيما بين المؤسسة العامة للسينما
والقطاع الخاص، التي بدت ملامحها في تجربة إنتاج فيلم «قمران وزيتونة»
للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد، عام 2001، بشكل مشترك فيما بين المؤسسة
العامة للسينما، وشركة «الفرسان» الخاصة، التي يملكها السيد فيصل مرعي..
وتمنينا أن يتم البناء عليها، وتطويرها.. كما أننا ننظر باهتمام إلى تجربة
المخرج هيثم حقي، بالتعاون مع «قناة أوربت»، تلك التجربة التي انجلت حتى
الآن عن تحقيقه لفيلم «التجلي الأخير لغيلان الدمشقي» 2008، وإنتاج فيلم
آخر بإخراج المتميز فيلم حاتم علي، بعنوان «سيلينا»، عن مسرحية «هالة
والملك» للأخوين رحباني، ومن المنتظر أن يكون هذا الفيلم جاهزاً للعرض،
مطلع العام الجديد 2009.
من
الضروري التأكيد هنا على أن إنشاء المؤسسة العامة للسينما، إنما هو أحد
أشكال التعبير عن رغبة الدولة، والقوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية
المتمثلة فيها، في تحديد الاتجاهات والآليات التي تريدها من الثقافة والفن
والإبداع، وتحديد دورها وطبيعة المساهمات التي ينبغي لها أن تؤديها في خدمة
القوى الناهضة، وتعبيراتها الفكرية السياسية والأيديولوجية.. ومن هنا فإن
الدولة أصبحت هي الطرف الوحيد الذي يقرر حجم وطبيعة واتجاهات الإنتاج
السينمائي، الأمر الذي جعل العملية السينمائية السورية، متأثّرة إلى حدّ
كبير، بطبيعة رؤية الدولة للواقع السوري، ما مضى منه، وحاضراً، ومستقبلاً..
ومتأثرة أيضاً بمجمل الظروف المحلية والإقليمية بأحداثها وتفاعلاتها
وتطوراتها، والإمكانيات الاقتصادية المتوفرة، والأولويات التي تراها الدولة
وتقررها..
هذه
البدايات بظروفها وشروطها حكمت إلى حدّ كبير ليس فقط طبيعة وآلية الإنتاج
السينمائي السوري، بل أيضاً مضامين تلك الأعمال السينمائية وتوجهاتها، مما
جعل الكثير من الأفلام السورية بمثابة بيانات أيديولوجية، تتوافق مع توجهات
الدولة، في الكثير من متضمناتها.. ففي فيلم «سائق الشاحنة» نجد توقفاً أمام
واقع ومعاناة سائقي سيارات الشحن، ومطالبهم بتحسين أجورهم، ليؤكد الفيلم
على ضرورة تنظيم العمال لأنفسهم (نقابياً)، أي ضرورة العمل الجماعي المنظم،
وليس الخلاص الفردي، وهي المقولة ذاتها التي يتبناها فيلم «الفهد» لنبيل
المالح عام 1972 وإن بصيغة أخرى، فنحن في هذا الفيلم أمام المتمرد الفردي
(أبو علي الفهد) الذي يصيبه قهر الإقطاعي، فينفر متمرداً إلى الجبال،
وستكون نهايته المأساوية المحتومة، الإعدام شنقاً، دليلاً صريحاً على أن
الخلاص الفردي، ليس هو الحل.. مع الانتباه إلى أن فيلم أختير ضمن قائمة
المائة فيلم الأهم في تاريخ السينما في آسيا.
أسس فيلم
«الفهد» للعلاقة الواضحة والعميقة بين الفيلم السينمائي السوري، والواقع
السوري (أو العربي عموماً)، حيث تدور أحداث الفيلم في الريف، ولقد عمد
المخرج نبيل المالح إلى الاستغناء تماماً عن الديكورات، حيث صوّر فيلمه في
الأمكنة الحقيقية للأحداث، مما منح الفيلم زخماً كبيراً من المصداقية، بل
إنه استفاد من الريفيين السوريين في بعض المشاهد، خاصة المجاميع.. وسيكون
هذا من سمات السينما السورية طيلة تجربتها اللاحقة.. أي الاعتماد إلى حد
كبير على التصوير بعيداً عن الاستوديوهات، والانغماس في البيئة المحلية
السورية، مستفيداً من جماليات هذه البيئة وصدقيتها.. ومن تعاون الناس
العاديين خلال التصوير..
فالريف
الحقيقي، الصادق بواقعيته وتفاصيله وتنوعاته سيظهر في أفلام «الفهد» لنبيل
المالح 1972، و«بقايا صور» لنبيل المالح 1979، و«نجوم النهار» لأسامة محمد
1988، و«ليالي ابن آوى» لعبد اللطيف عبد الحميد 1990، و«رسائل شفهية» لعبد
اللطيف عبد الحميد 1991، و«اللجاة» لرياض شيا 1995، و«الطحين الأسود» لغسان
شميط 2001، وفيلمه «الهوية» 2007، و«قمران وزيتونة» لعبد للطيف عبد الحميد
2001، و«صندوق الدنيا» لأسامة محمد 2002، و«ما يطلبه المستمعون» لعبد
اللطيف عبد الحميد 2003، وفيلمه «أيام الضجر» 2008..
والبيئة
البحرية ستظهر في أفلام «اليازرلي» لقيس الزبيدي 1974، و«الشمس في يوم
غائم» لمحمد شاهين 1985، و«آه يا بحر» لمحمد شاهين 1995.. وهي في مجموعها
معتمدة على نصوص للأديب حنا مينه.. بينما يتجول فيلم «صهيل الجهات» لماهر
كدو 1993، في عدة بيئات بدءاً من الصحراء إلى البحر، مروراً بالأرياف،
وصولاً إلى المدينة، للحديث بجرأة عن القهر الذي يعشش في أركان المجتمع.
ولقد كانت
المدينة مجالاً واسعاً ومتعدداً في السينما السورية، بدءاً من قاع المدينة،
وأحيائها الشعبية، وهوامشها الفقيرة العشوائية، كما في أفلام «الأحمر
والأبيض والأسود» لبشير صافية 1977، و«المصيدة» لوديع يوسف 1980، و«حادثة
النصف متر» لسمير ذكرى 1980، و«حب للحياة» لبشير صافية 1982، و«الطحالب»
لريمون بطرس 1991، و«الليل» لمحمد ملص 1992، و«الكومبارس» لنبيل المالح
1993، و«شيء ما يحترق» لغسان شميط 1993، و«الترحال» لريمون بطرس 1995،
و«صعود المطر» لعبد اللطيف عبد الحميد 1995، و«تراب الغرباء» لسمير ذكرى
1997، و«نسيم الروح» لعبد اللطيف عبد الحميد 1997، و«رؤى حالمة» لواحة
الراهب 2003، و«تحت السقف» لنضال الدبس 2005، و«خارج التغطية» لعبد اللطيف
عبد الحميد 2007.. وصولاً إلى نقد الفئات الاجتماعية المدينية الناشئة في
تحول مجتمعي، من طراز رجال الأعمال في «المصيدة» لوديع يوسف 1980، و«قتل
ع/ط التسلسل» لمحمد شاهين 1982، و«الطحالب» لريمون بطرس 1991.. أو ارتباطاً
بمعطيات وطنية قومية «رؤى حالمة» لواحة الراهب 2003.
وفضلاً عن
الصدق مع البيئة، فقد عمدت السينما السورية إلى الصدق في التعامل مع
شخصياتها المأخوذة من عمق الواقع، بعيداً عن الاختلاق أو الادعاء.. ورغم أن
هذه الشخصيات حملت أعباء التنميط والنمذجة، إذ أصبحت نموذجاً معبراً عن
بيئتها وواقعها وشريحتها سواء العمرية أو المهنية أو الطبقية.. إلا أنها
استطاعت إلى حد كبير أن تظهر كشخصيات حية نابضة من لحم ودم، لها نجاحاتها
وانتصاراتها، كما لها اخفاقاتها وخيباتها، ولا تنسى أبداً التعبير عن
همومها وأحلامها وطموحاتها..
ففي فيلم
«الاتجاه المعاكس» لمروان حداد 1975 نجد محاولة قراءة لآثار وانعكاسات نكسة
حزيران على قطاع الشباب، خاصة في الجامعة، حيث يقدم الفيلم نماذج عدة من
الطلبة الجامعيين بدءاً من الإيجابي الجاد والملتزم، والسلبي المحبط
والمنكسر، إلى اللامبالي العابث اللاهي.. وفي «حادثة النصف متر» لسمير ذكرى
1980 نجد كشفاً لحال الموظف في الدولة، بصفته «بورجوازي صغير»، وما فيه من
تردد وقلق وأزمات نفسية وحياتية، بينما نجد في «وقائع العام المقبل» لسمير
ذكرى 1985 نقداً لاذعاً للبيروقراطية المعششة في دوائر الحكومة، وفي «تحت
السقف» لنضال الدبس 2005، نرصد سقوط الأحلام الكبيرة لجيل من الشباب العربي
عاش على إيقاع صعود وانهيار الثورات..
وينظر
ريمون بطرس في فيلمه «الطحالب» 1991 إلى جوانب الخلل الاجتماعي، من خلال
بطله (أبو أسعد) الموظف ككاتب في المحكمة، ليفضح الطحالب التي تنمو في
مفاصل الواقع فتنهشه وتمتص دمه وتقتل أجمل ما فيه.. بينما يكرس نبيل المالح
فيلمه «الكومبارس» 1993 للحديث عن القمع الداخلي والإحباط العام الذي يعيشه
بطلا فيلمه.. هو طالب جامعي يضطر للعمل من أجل تحصيل لقمة العيش في محطة
وقود، دون أن ينسى هوايته للتمثيل في المسرح، وهي مطلقة تعمل في أحد معامل
النسيج.. وهما يعيشان قصة حب مكسورة.. كذلك في فيلم «نسيم الروح» لعبد
اللطيف عبد الحميد 1999..
ويعتبر
الكاتب صباح، في فيلم «صعود المطر» لعبد اللطيف عبد الحميد 1995، نموذجاً
غنياً على كافة المستويات، فهو من جهة أولى مثقف من طراز النخبة، إذ يعيش
باعتباره كاتباً مبدعاً، كثيراً ما نراه يجلس إلى آلته الكاتب لينجز نصه
الإبداعي، في الوقت الذي يسحقه المجتمع الصلد تحت وطأة الفقر والقهر.. إنه
يستدين طعامه وسجائره ووقود مدفأته، كما يعيش انكسار حالة الحب التي
تداهمه.. سنراه يعيش بين امرأة (مطلقته) التي تركها لأنه يحبها (كما
يقول)!.. وزوجة تنام أكثر مما تصحو، وتتذمر وتشكو أكثر مما تتحدث وتحاور..
وامرأة تحبه، ولكن بينهما عوائق وحواجز وانكسارات.. في الوقت الذي يكون
شاهداً على قصة حب يعيشها شابان على سطح البناء المجاور..
وفي سياق
مواز اهتمت السينما السورية بالقضايا الوطنية والقومية، ولعلها من أكثر
السينمات العربية اهتماماً بالقضية الفلسطينية، بدءاً منذ اللحظات الأولى
لمسيرة سينما المؤسسة العامة، ففي العام 1970 أنجزت ثلاثية «رجال في الشمس»
بمساهمة كل من نبيل المالح ومحمد شاهين ومروان مؤذن، وفي العام 1972 قدم
خالد حماده فيلمه «السكين» عن رواية «ما تبقى لكم» للأديب الفلسطيني غسان
كنفاني (الذي استشهد على يد الموساد الصهيوني اغتيالاً في العام ذاته).. ثم
ستنتج المؤسسة فيلم «المخدوعون» عام 1972 بإخراج المصري توفيق صالح عن
رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني نفسه..
واليوم..
رغم مرور ستة وثلاثين عاماً على إنتاج هذا الفيلم، فإنه ما يزال من أهم
الأفلام العربية التي تناولت القضية الفلسطينية.. وكما تأخذ رواية غسان
أهميتها في نسق الرواية العربية، يأخذ الفيلم المُصاغ عنها أهميته في نسق
السينما العربية، واعتقد أن رجال الصهريج، ونداء (الدق على جدار الخزان)..
سيبقى لأزمان طويلة قادمة..
وعندما
يقدم برهان علوية فيلم «كفر قاسم» عام 1974 فإنه ينجز وثيقة سينمائية بارعة
عن مجزرة كفر قاسم الدامية.. وسنجد ملامح وتعابير وشؤون القضية القومية
المركزية الأولى، قضية فلسطين في الكثير من الأفلام السورية، انتهاء بفيلم
«رؤى حالمة» لواحة الراهب 2003.. كما نجد حديثاً عن الجولان السوري المحتل
في فيلم «شيء ما يحترق» لغسان شميط 1993.. وحديثاً عن الاستبداد التركي في
فيلم «تراب الغرباء» لسمير ذكرى 1999 من خلال شخصية المفكر عبد الرحمن
الكواكبي.. وسنجد أحاديث عن الأتراك والانتداب الفرنسي في أفلام «الفهد»
و«بقايا صور» لنبيل المالح، و«الشمس في يوم غائم»، «آه يا بحر» لمحمد
شاهين..
ويختار
محمد ملص طريقاً خاصاً به من خلال فيلميه «أحلام المدينة» 1983، و«الليل»
1992، ليس على المستوى الفني المتميز، فقط، بل في طريقة التناول والربط بين
ما خاص ذاتي وحميمي، وما هو عام، وطني وقومي.. فصعود وانهيار شخصياته على
علاقة بأزماتها الاجتماعية، كما بالقضايا القومية الوطنية..
وسيعود
المخرج ريمون بطرس في فيلمه «حسيبه» 2008، لقراءة واقع مدينة دمشق ما بين
عشرينات وخمسينات القرن العشرين، وانتقالها من فترة العثمانيين إلى
الانتداب الفرنسي، والتحولات التي شهدتها سياسياً واجتماعياً واقتصادياً..
بينما تظهر دمشق، في الفترة ذاتها، في فيلم المخرج ماهر كدو «بسمة الحزن»
2008، عن رواية لإلفة الأدلبي.
وفق هذه
النظرة للإنتاج السينمائي الروائي الطويل، الذي قدمته المؤسسة العامة
للسينما في سوريا من العام 1967 وحتى العام 2008 سنجد أن السينما السورية
كانت دائماً على علاقة قوية ووطيدة بالواقع السوري، والعربي عموماً، بكل
همومه وقضاياه، بتغيراته وتحولاته.. وكانت دائماً سينما جادة صادقة
وملتزمة، وامتلكت حداً (معقولاً) من الجرأة والعمق في قراءة هذا الواقع..
وبالاستخلاص نجد أن السينما السورية (إنتاج المؤسسة العامة للسينما) حافظت
دائماً على علاقتها مع الواقع، قراءة وتحليلاً، نقداً وكشفاً، فضحاً
وتعرية، وتبشيراً بالمستقبل المأمول.. ولعلنا لا نغالي إذا قلنا إننا لن
نجد أبداً فيلماً سورياً (من إنتاج المؤسسة العامة للسينما في سوريا) لا
علاقة له بالواقع الموضوعي، وقضاياه وتفاصيله وشؤونه.. إن لم نقل شجونه..
موقع "إيلاف" في
19
يناير 2009 |