بعد فيلم
'الإعصار' الذي قدمه في سنة
1992
أطلّ
المخرج اللبناني سمير حبشي من الشاشة الكبيرة بفيلم ثانٍ هو 'دخان بلا
نار' لنقرأ بأن تطوراً بنيوياً كبيراً ولافتاً طرأ على لغته السينمائية.
فالحوار
والسيناريو الذي كنا بصدده، إضافة إلى حركة الكاميرا وضعتا
المشاهد أمام واحد من
الأعمال السينمائية التي يصّح وصفها بسينما المؤلف التي لها عدد محدود من
الذين
يتصدون لها في وطننا العربي. هي لغة سينمائية تضع المشاهد في حالة من
التأهب
الكاملة ليتمكن من إلتقاط كل نبض تعبر عنه الكاميرا، وكل جملة
يتلفظ بها
الممثلون.
من أجواء
الحرب الأهلية وأوجاعها في فيلم 'الإعصار'، عاد سمير حبشي
إلى تداعيات أخرى لتلك الحرب، ملتقطاً الزمن الذي تلى إتفاق
الطائف الذي وضع حداً
لتلك الحرب. وإذا به يغوص في مرحلة تحالف قوى المال والإعمار مع ما يسميه
البعض
بحقبة 'الوصاية السورية'. 'بيروت مدينة مفتوحة' كما هو عنوان الفيلم
بالأجنبية، أو
'دخان بلا نار' بالعربية، فيلم ينطلق من مشاهد أرشيفية وثائقية من إتفاق
الطائف
ومعارضة
العماد ميشال عون له... ومن ثم جولات وصولات للسفير الأمريكي الراعي
والداعم للواقع السياسي الذي كان قائماً. وفي إحدى جولاته في منطقة البقاع
يصدم
موكبه شاباً ويتركه على الأرض ينزف حتى الموت. وعندما يرفض
السفير الأمريكي الحضور
إلى دارة القتيل وعشيرته ويرسل مندوباً عنه لدفع الدية التي يرفضها الأهل،
يُصرُ
كبير العائلة على حضور السفير للإعتذار أو الأخذ بالثأر. ولاحقاً وفي سياق
الفيلم
نكون أمام مشاهد يجري فيها الإنتقام من مرافقي السفير في شوارع
بيروت، حيث تنسب
رسمياً هذه الأعمال لتنظيم القاعدة. وعلى مرِّ السنوات التي يدور الشريط
بين
مفاصلها يكون المشاهد مع بطل الفيلم الممثل المصري خالد نبوي، الذي يؤدي
شخصية
المخرج خالد الحداد والذي قصد بيروت ليصور فيها فيلماً عن قمع
الحريات في الوطن
العربي.
أما إختياره لبيروت فناتج عن هامش الحريات الواسع الذي تتمتع به قياساً إلى
ما
تحتويه العواصم العربية الأخرى من قمع. وفي سياق بحثه عن سيناريو فيلمه يرى
خالد الحداد نفسه أمام حقائق مختلفة عن تلك التي
كانت في ذهنه. فيلتقي بحميد الذي يؤدي
دوره بجدارة رودني الحداد والذي يخبره عن تجربته مع المخابرات وما ذاقه من
تعذيب.
وكيف عُلِّق بالبلانكو كما الخاروف المذبوح. وعندما يستوضح خالد الحداد عن
البلانكو
يختصر حميد المشهد بالقول'بتصير تشوف الدني مقلوبة'. وفي
السياق المشهدي نرى خالد الحداد بالكاميرا التي لا
تفارقه يحاول تصوير 'الدنيا مقلوبة' حين يلتقطها ليصور من
بين ساقيه مشهداً لحركة الإعمار في وسط بيروت. ومن حميد يتعرف
المخرج المصري إلى
السيناريوهات الإعترافية التي كانت تُعد للمعتقلين وكيف يجبرون في نهاية
حفلات
التعذيب بالتوقيع عليها والإقرار بها. لكن الملفت في هذا الفيلم أن الضحية
حميد
يتحول إلى جلاد إنطلاقاً من نظرية من 'يُقمَع يَقمَع'، ومن
يُعَذّب يُعَذِّب'. وهذه
النظرية فيها وجهة نظر نقدية بالطبع، وإلا لكان عدد الجلادين لا نظير له
لكثرة عدد
المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي في وطننا العربي. والمفاجىء في هذا
الفيلم أن
خالد الحداد يُصبح الضحية وحميد هو الجلاد.
وفيما
إنطلق الفيلم كما سبق القول
بمشاهد أرشيفية تابع فيما بعد مساره ضمن سيناريو متخيل كان فيه الواقع
اللبناني على
مختلف الصعد وفي تلك السنوات تحت مجهر مؤلف السيناريو، والذي يُعبر عنه خير
تعبير
خالد الحداد، الذي يصور ويكتب سيناريو فيلمه ويعلقه أوراقاً متناثرة على
جدار منزله
دون كلل. وحين يقع بين أيدي المخابرات وتوجه له تهمة التعامل مع تنظيم
القاعدة
تتناثر أوراق السيناريو في الهواء بفعل عبث المخابرات بها.
وفي سياق
سيناريو
سمير حبشي يبدو أن كل مشهد محسوب بأبعاده كافة. وكل مشهد يمكن أن نقرأ من
خلفه
مشاهد متعددة وسيناريوهات لم نرها ولم نسمعها. ففي إختياره للقتيل الذي
أودى به
موكب السفير الأمريكي من بيئة مسيحية بقاعية عشائرية أراد
القول بأن الإستهتار
بإنسانية الإنسان كما فعل السفير الأمريكي، والإستهتار التام بالقيم
والعادات
والتقاليد، سيدفع بهؤلاء البشر للإنتقام لدم إبنهم بعد إنعدام وجود
العدالة. وهذا
ليس سلوكاً لفئة دينية دون أخرى من العرب بل لجميعهم وكأن سمير
حبشي أراد قول ذلك.
وفي هذا المشهد نقرأ كذلك إختصاراً للسياسة الأمريكية في العالم والتي تدوس
على
كامل القيم الإنسانية تجاه العديد من الشعوب وبخاصة العرب وتتهم بالإرهاب.
وتصرف
السفير الأمريكي إختصار لما تقوم به دولته تجاه الشعوب.
في مشهدية
دخان بلا نار
والصورة الجميلة التي وصلتنا من خلال المصور ميلاد طوق، ومع ذلك المزج
المتواصل بين
المُعاش والمتخيل في مسار السيناريو نعترف بأننا كنا أمام فيلم
مشغول بلغة سينمائية
عالية وعالمية. لغة جذبتنا من بدايتها حتى نهايتها بكل ما فيها من مضمون
وشكل، وعمق
وتقنية. تلك اللغة التي تضمنها السيناريو تشابكت بحرفية وقدرة
كبيرة على التنقل بين
الواقع والخيال. كما أنها لغة تتضمن خيوطاً متشعبة، كانت تطل على الشاشة
ضمن سياق
يشعرنا بسلاستها ومنطقية موقعها ومكانها. إذ لم يكن في الفيلم موضوعاً
محشوراً من
خارج السياق، وبخاصة المشاهد العاطفية الراقية التي تضمنها.
ونلفت
كذلك إلى
إطلالة
المخرج سمير حبشي على مشهد الحريات في لبنان من خلال طرف ثالث هو المخرج
المصري خالد الحداد، الأمر الذي جعلنا أمام رؤية للواقع عن بعد. وهي نظرة
يحتاجها
الموضوع الذي كان الفيلم بصدده وهو الحريات.
وإلى
الصورة التي يقدمها الفيلم
والتي كانت غاية في السحر، نشير إلى الكاستنغ الذي إختاره سمير حبشي بعناية
تامة،
وأداره بطريقة أضفت على فيلمه قوة وإقناع. الممثلون كانوا في
غاية الواقعية في
آدائهم، من ديامان بو عبود التي أدت دور حبيبة خالد الحداد، إلى سيرين عبد
النور
التي زادت من قناعاتنا بأن مستقبلها في التمثيل وليس في الغناء، إلى رودني
الحداد
الذي أصاب المطلوب منه بالعمق. وكذلك حضور حشد من الممثلين
اللبنانيين المخضرمين
والشباب أمثال محمود مبسوط 'فهمان'، فادي رعيدي، نقولا دانيال، رفعت طربيه،
جوزف
بونصار، ختام اللحام، فادي أبي سمرا، رندا الأسمر، ليلى حكيم، وداد جبور،
جورج
كعدي، علي مطر، وشكري أنيس فاخوري كاتب السيناريوهات
التلفزيونية المعروف.. وأكثر
هؤلاء أطلوا بمشهد وربما إثنين، لكنهم قالوا الكثير في هذا الحضور الذي
أثرى فيلم
دخان بلا نار ووضعه بمثابة محطة جديدة ومهمة في تاريخ السينما اللبنانية
الحديثة.
سمير حبشي
قدّم فيلما من إنتاج شركة 'أفلام مصر العالمية' للمنتج
اللبناني الأصل غابي خوري، فيلم جدير بالمشاهدة والتوقف عنده ملياً، فهو
يلعب
حالياً في مصر لبنان والأردن.
القدس العربي في
15
يناير 2009 |