حاولت طوال الأيام الماضية أن أتناول بعض الأفلام المصرية التى عرضت فى الفترة الأخيرة لكننى لم أستطع، وأصبحت حائرا بسبب تقاليد الصحافة الفنية التى تقضى بأن الناقد أو كاتب المراجعات النقدية للأفلام "مضطر" إلى أن يتابع العروض الحالية، وإذا كان ذلك صحيحا فى جانب منه فلابد من الاعتراف أيضا أن معظم مايكتب الآن عن أفلامنا انتهى إلى نوع من "سد الخانة" وتسويد الصفحات، وأصبحت الأفلام والكتابة الصحفية عنها تدور فى حلقة مفرغة من "إعادة التدوير" لما يمكن أن نطلق عليه "شبه أفلام" و"شبه نقد"، وغاب الطموح الإبداعى فى صناعة الأفلام ونقدها، ليس لأنه ليست هناك أفلام "مبهرة"، سواء فى شكلها أو فى ميزانية الإنفاق السفيه عليها، وإنما لأن الطموح الإبداعى الحقيقى أكثر بساطة وتعقيدا، فهو يبدأ من محاولة الإجابة عن السؤال: لماذا نصنع الأفلام؟ ولمن؟ ومن المؤكد أنه ليست هناك إجابة واحدة عن هذا السؤال، فقد يرغب صانع الفيلم فى تسلية الجمهور، أو قد يسعى لتبنى رسالة سياسية واجتماعية، أو لعله يبحث عن التعبير عن نفسه، لكن المشكلة فى أفلامنا أن هذه الأهداف قد تشوشت وتشوهت، واتسم معظمها بالكذب والادعاء، فأكثر الأفلام سوقية يزعم أنه يحمل رسالة عميقة، ومن يتجه مباشرة للتعبير عن هذه الرسائل يغرق فى الغموض المفتعل والاستسهال، لذلك قررت فى النهاية ألا أكتب ـ إلى حين ـ عن أفلامنا التى تزداد تواضعا وركاكة فى أشكالها ومضامينها، مما سوف يجعل كتابتى عنها تكرر الحديث عن ضعف رسم الشخصيات وترهل البناء الدرامى وفقدان أية بؤرة حقيقية فى الحبكة، وتحول الأفلام إلى "نمر" يمكنك أن تحذف منها أو تضيف إليها ماشئت، لأنها أصبحت أقرب إلى "صندوق الدنيا" البدائى. 

أهرب إذن من "هنا والآن" لأتنقل بين الأفلام فى الزمان والمكان، أعيد مشاهدة أعمال سينمائية من مدارس فنية وعصور وبلدان مختلفة، لكنها تجتمع حول القدرة على الإجابة عن الأسئلة (كل فيلم بطريقته) حول لمن نصنع الأفلام ولماذا، لكن ما اكتشفته خلال رحلة الهروب أن هذه الأفلام تتفق على أنها تحكى "حدوتة" بقدر كبير من البراعة الأسلوبية، التى تتسق مع المعنى الذى تريد توصيله، وأود هنا أن أشير إلى أن كل هذه الأفلام متوافرة مجانا على "الإنترنيت"، ولعل جريدة "العربي" تفكر فى أن تقدم كل أسبوع زاوية تساعد القارئ فى الوصول والحصول على هذه الأفلام، وربما أيضا ـ فى عصر أصبحت فيه المعلومات والمواد الفنية متوافرة إلى حد لا يمكن تصوره ـ يمكن أن تتسع دائرة الرغبة فى تعميق ثقافتنا السينمائية وتواصلها مع العالم، وهى الثقافة التى شهدت للأسف تراجعا فى الفترة الأخيرة بما يتناقض تماما مع مايحدث فى العالم كله، وأرجو على سبيل المثال أن يقارن القارئ بين تنافس أفلام من الصين وإيران وأمريكا اللاتينية فى المهرجانات العالمية، بينما عادت أفلامنا إلى عالم كوميديا كشكش بيه وميلودراما يوسف وهبى، أو هى فى أفضل الأحوال تقليد باهت لأفلام أمريكية لا يهم مضمونها أو شكلها أحدا منا، بل أزيد ماهو أكثر مرارة، فإسرائيل ـ ذلك الكيان المصطنع ـ لا تنتج سنويا إلا عشرة أفلام أو تزيد قليلا، ومع ذلك فإن من بينها فيلمين أو ثلاثة تدخل فى منافسة حتى ينجح أحدها فى الوصول كل عام إلى مسابقة الأوسكار!! 

سوف أبدأ بواحد من أكثر الأفلام بساطة وتأثيرا فى تاريخ السينما: "سارقو الدراجات"، الذى يحتفل العالم كله الآن ـ فيما عدانا!! ـ بمرور ستين عاما على عرضه، وهو الفيلم الذى كتبه سيزارى زافاتينى وأخرجه فيتوريو دى سيكا فى عام 1948، وسوف يقول لك البعض ـ ومعهم الحق ـ إنه يعود إلى "الواقعية الجديدة الإيطالية"، لكننى أصارحك القول بأننى لا أميل كثيرا إلى التعميم الذى يضع مجموعة من الأفلام فى سلة واحدة تحمل اسما مبهرا لمدرسة فنية بعينها، فالمهم ليس التسميات بل "السياق" الفنى والسياسى والاقتصادى والاجتماعى الذى ولدت فيه الأفلام، وهذا السياق لا يبدأ أو ينتهى فجأة بحيث يمكنك أن تقول بالتحديد متى بدأت "الواقعية الجديدة" ولا ماهى مواصفاتها، فقد بدأت لأنه كانت هناك ضرورة تاريخية لظهورها، واختفت عندما حلت متغيرات لم تعد ملائمة لها. تخيل معى إيطاليا فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، وقد تحولت بعد ضلالات الفاشية إلى الدمار على المستوى الاقتصادى والإنسانى معا، وساد الفقر المادى والروحى على نحو يقطر بالمرارة. فى هذا السياق كان هناك فنانون سينمائيون ملكوا فى فترة الفاشية إتقان الحرفة السينمائية، وهاهم بعد الانهيار _ وفى ظل إمكانات باتت شديدة التواضع والفقر ـ يسألون أنفسهم عن رسالتهم الجمالية والسياسية، وكانت إجاباتهم هى أن يحكوا "حواديت" هؤلاء الملايين من الفقراء، وكانت إحدى هذه الحواديت هى فيلم "سارقو الدراجات". 

إليك الحدوتة فى سطور قليلة: أنطونيو ريتشى (لامبيرتو ماجوراني) مثله مثل الآلاف والملايين، رجل عاطل ينتظر عملا يعول به أسرته المكونة من زوجته ماريا (ليانيلا كاريل) والصبى برونو (إينزو ستايولا) وطفل رضيع، وهاهو أنطونيو أخيرا يجد عملا فى لصق إعلانات الأفلام على الجدران فى الشوارع، وهو مايتطلب أن يملك دراجة. إنه فى الحقيقة يملك دراجة لكنه رهنها مقابل بضع ليرات قليلة حتى يستطيع أن ينفق على العائلة فى فترة البطالة التى لا يعرف متى تنتهى، وهكذا يشعر أنطونيو باليأس لأن فرصة العمل جاءت دون أن يملك اقتناصها، لكن الزوجة ماريا تقرر أن ترهن ملاءات الأسِرَّة لكى يتمكن الزوج من استعادة دراجته، وبعدها يذهبان معا (برغم تذمر أنطونيو وسخريته) إلى عرَّافة (يزدحم بيتها بمن يسألها عن المستقبل) وتريد الزوجة أن تمنحها بعض المال لأنها تنبأت بقرب حصول الزوج على عمل. وفى هذا المشهد يترك أنطونيو الدراجة وحدها فى الشارع ويعود لكى يجدها، بما يؤسس لدرجة من الاسترخاء تجعله يأمن عليها من السرقة، وهو الأمر الذى يجعل صفعة سرقتها فى مشهد تالٍ أكثر مفاجأة وإيلاما. 
فى الصباح ينظف الصبى برونو الدراجة كأنها كائن حميم، ويخرج مع الأب للعمل، فيصل برونو إلى محطة الوقود حيث يعمل بينما يواصل الأب ليبدأ فى لصق إعلانات الأفلام، وهنا تأتى عصابة تلتف حوله وتنجح فى سرقة الدراجة التى يركبها أحدهم ويختفى وسط الزحام. إنها لحظة من الرعب الحقيقى، تجعلك كمتفرج تتوحد مع أنطونيو وهو يتلفت حوله فى الشوارع لعله يجد دراجته وسارقها. إنه يلجأ إلى الشرطة التى لا تفعل له شيئا سوى تسجيل المحضر (هل يذكرك ذلك بالشرطة التى ليست فى خدمة الشعب؟!)، إنهم يقولون له إنهم مشغولون بأمور أكبر من "مجرد دراجة"، بينما هذه الـ"مجرد دراجة" هى حياته كلها! ويبدأ أنطونيو رحلة البحث عنها بمساعدة بعض الأصدقاء، فيذهبون إلى "سوق الكانتو" لأن أغلب الدراجات المسروقة يتم تفكيكها وبيعها كقطع غيار، وتقترب الكاميرا من وجهى الأب والصبى، وهما يفحصان أجزاء الدراجات الموضوعة فى أكوام هائلة (إنك تسأل نفسك: أتلك جميعا دراجات مسروقة؟)، وتمضى رحلة البحث فى المدينة (فالفيلم هو أيضا نموذج شديد النضج على نمط "فيلم الرحلة")، لترى تناقضات هذا المجتمع فى فترة من فترات انحلاله: المواخير المفتوحة للزبائن فى الليل والنهار، والكنيسة التى تعالج مشاكل العاطلين والمشردين بأطباق الحساء وإقامة القداسات، والمطاعم الفاخرة للأثرياء بينما الملايين يتضورون جوعا، وإلهاء الجماهير عن مشكلاتها الحقيقية فى مباريات الكرة، وتعليق صور الأفلام الأمريكية والنجمة ريتا هيوارث بينما الناس يعيشون حياة بائسة، وتنتهى الرحلة بالأب والابن باللجوء للعرافة التى سخر منها أنطونيو فى مشهد سابق، فعندما لا نملك معرفة ماسوف يأتى به الغد فإننا نلقى بأنفسنا فى أحضان الخرافة. 

فى لحظات ومشاهد عديدة من الفيلم كنت أشعر أنه يتحدث عنا، خاصة فى تلك النهاية: هل يمكن للإنسان أن يحافظ على نقائه الأخلاقى فى مثل هذه الظروف الطاحنة؟ إن الأب يشعر فى لحظة عاصفة أنه لابد أن يسرق دراجة (ومن هنا الاسم الأدق للفيلم "سارقو الدراجات" بصيغة الجمع)، ليمسكوا به ويوسعوه ضربا أمام ابنه الباكى، لكنهم يطلقون سراحه فى النهاية شفقة عليه، ليمضى الأب والابن فى اللقطة الأخيرة ليذوبا فى زحام الناس دون أن يصطنع الفيلم نهاية سعيدة زائفة، لقد فقد الأب دراجته وكرامته، بينما اكتسب الابن نوعا من النضج الممتزج بقدر هائل من المرارة. تلك هى الحكاية شديدة البساطة عن أناس عاديين، لم يحولهم الفيلم إلى أبطال مزعومين أو مسوخ مشوهة كما تفعل أفلامنا، إنهم ليسوا "فرجة" سينمائية، بل هم "نحن" المتفرجين، وكل الظروف البائسة التى يعيشونها ليست دلالة على سوقيتهم بل معاناتهم، فالزوجة ماريا تملأ دلاء المياه من الحنفية العمومية، لكنها لا "تردح" لقريناتها ولا تسقط المياه على ملابسها فتبرز تفاصيل جسدها، والفيلم لا يبيع لنا هذه الشخصيات وعالمها، وإنما يسألنا كيف يمكن أن نسترد لهم ومعهم كرامتهم وكرامتنا الإنسانية، وأترك للقارئ فرصة المقارنة مع العديد من أفلامنا المصرية الأخيرة التى تناولت مايفترض أنه عالم الفقراء. 

لم تمنع الرسالة السياسية والاجتماعية صناع الفيلم من الوعى الجمالى بالشكل والأسلوب السينمائيين، فليس هناك انفصال بين هذا وذاك، فالفيلم يستخدم العديد من الممثلين غير المحترفين الذين لم يرهم المتفرج من قبل، وأغلبهم لم يستمر فى عالم التمثيل طويلا، كما أن البناء الدرامى الدائرى لبداية البطل ونهايته يتسق تماما مع الحصار الذى يعيشه المجتمع، كما أرجو أن تتأمل أن هذا البناء مفتوح، بمعنى أنك تدرك فى كل لحظة أن الحدوتة التى تراها على الشاشة ليست إلا واحدة من آلاف الحواديت المماثلة (مرة أخرى على عكس أفلامنا تماما ذات البناء المغلق على شخصياتها فقط)، فعندما ترهن ماريا ملاءاتها يصعد العامل إلى أعلى كومة هائلة من الملاءات المرهونة، لنعرف على الفور أن القصة تتكرر بلا نهاية. وأخيرا فإنه لا توجد شخصية مساعدة أو ثانوية أو عابرة دون ملامح إنسانية حقيقية (وليست الكاريكاتير الذى نرى به هذه الشخصيات فى أفلامنا)، وإذا كنت لا تستطيع الاستغناء عن شخصية واحدة منها فإنه ليس هناك ايضا حدث واحد يجعلك تشعر بالاستطراد أو التكرار (مرة أخرى وليست أخيرة مثل معظم أفلامنا)، وبعد ذلك كله تأمل وجود الصبى فى هذه الحبكة، إنه ليس الطفل الذى يتحدث بجمل حوار مضحكة تقليدا للكبار، لكن وجوده تجسيد لدهشتنا ـ مثله ـ أن نرى العالم اليومى العادى وكأننا نراه للمرة الأولي! 

هل يمكن اقتباس هذه الحدوتة لسياق مختلف؟ بعيدا عن القول السائد الساذج وغير المستند إلى أية حقيقة أن عدد التيمات ست وثلاثون (لماذا لا تكون سبعا وثلاثين؟!!)، فإنه ليست هناك فى الفن فكرة عظيمة وأخرى تافهة، فالمهم هو المعالجة، السياسية والجمالية، وأن نعرف لمن نصنع الأفلام ولماذا، لذلك لم يكن غريبا ـ بعد أربعين عاما تماما من "سارقو الدراجات" ـ أن يقوم الفنان الكوميدى الإيطالى ماوريتسيو نيكيتى بصنع فيلمه "سارقو النجفات"، لكى يتحدث بحدوتة مماثلة تماما عن سياق تبدلت فيه الأولويات، وتغيرت التقنيات، ولعلنا نتوقف يوما عند هذا الفيلم الأخير لنعلم ونتعلم. 

العربي المصرية في 13 يناير 2009