«الوعد»
للسينارست وحيد حامد والمخرج الشاب محمد ياسين، فيلم ترفيهى محترم ينأى عن
الاسفاف والابتذال وبعيد عن التقرير والمباشرة خال من المبالغات الانفعالية
ذى نزعة تأملية تطاول عمق الوجود الإنسانى ويمكن قراءته على اكثر من مستوى
وعلى المشاهد الفطن ان يستعمل بصره وبصيرته لمتابعة هذا الفيلم الذى يمزج
بين عالم الحقيقة وعالم الوهم بين التشبيه والتأكيد قى متتاليات سينمائية
تتجاوز الواقع المعاش وتقترب من العبث وغير المعقول،وحيد حامد فى "الوعد"
يملك فكر وموقف يفرضان عليه الكثير من الصرامة تلك الصرامة فرضها على
شخصياته ومواقف فيلمه وتأتى تلك الصرامة الفكرية والفنية من وعى انسانى
وسياسى واجتماعى واضح، تفرض رؤية وحيد حامد على الفيلم بناءا خاصا (سمة
الدائرية ويعنى عودة كل شئ لنفس نقطة البداية واتباع النمط نفسه مرة اخري)
واسلوبا متميزا فى خلق المواقف ورسم الشخصيات (المعزولة عن المجتمع) حتى
تكشف المظاهر عن زيفها والاوضاع عن فسادها والنفوس عن خرابها، من بداية
الاستهلال الدرامى البصرى السريع فى بداية شريط الفيلم والذى استخدمه
المخرج بديلا للعناوين، رجل الأعمال الملياردير "السحراوي" يقرر التخلص من
أحد رجاله القدامى بعد اصابته بالسرطان "يوسف غبريال"، فيكلف السحراوى أحد
رجاله الشاب "عادل" للقضاء على يوسف، ثم كلف إحدى فتيات الليل التى تعمل
كوافيرة "فرحة" لتراقب عادل من خلال اقامة علاقة معه ولكنها تقع فى غرامه
وتكشف له حقيقة دورها وخلافا للمهمة المنوط بعادل تنفيذها اى قتل يوسف تنشأ
علاقة صداقة قوية بين عادل ويوسف ويتعهد عادل بتنفيذ وصية يوسف بأن يبنى له
قبرا خاصا فوق قمة مطلة على البحر تماما كما فعل بطلا فيلم (بوكيت ليست)
جاك نيكلسون ومورغان فريمان المنتظران الموت حيث كانت اخر امنية مشتركة بين
الاثنين وهى ان تحرق جثتهما و دفن رمادها فى اعلى قمة فى العالم!!؟
يقدم
"وحيد حامد شخصياته المحرومة من الاستواء بصبغة أسطورية نلمس لديهم ملامح
فكرية توحدهم ولا يختلفون فى الرؤى والاتجاهات الفكرية، بل يكاد يشكل هؤلاء
شخصية واحدة، وتبدو جميع العلاقات و قد أصابها الوهن، ولم يسمح صناع الفيلم
لتلك الشخوص بالخروج من جمود العروسة البلاستيكية او الحجرية الى الليونة
الانسانية ليشعرونا اننا امام منحوتات شمعية يمكن للكاميرا السينمائية
الدوران حولها ورؤيتها من كافة الزوايا ومن خلال ايحاءات الفيلم ولقطاتها
المكثفة يطلعنا على حقيقة هذا الصنف من البشر وتعرية هذا الواقع الذى يحتفى
بالجماعات المتشابهة ولايحفل بالافراد المتميزين ويطلب وحيد من شخصياته
التمرد على الواقع الذى فرض عليهم، ليختاروا واقعًا جديدًا اكثر حرية
وانسانية واكثر تسامحا ويسع الجميع حوار وحيد حامد جاء محكم مرن مرسوم
بعناية ليدل على رموز الشخصيات والمواقف ومشحون بالكثير من الدلالات التى
كان محورها الوجه الاخر من اهتمامات وحيد حامد من كشف عن الحقيقة وفضح
للضمائر المنحرفة و حقيقة الفساد المستتر تحت غطاء الزيف الذلى استشرى فى
المجتمع العربى.
"عباس
السحراوي" الذى قام بدوره بشكل بارع الممثل السورى "غسان مسعود" لواء شرطة
السابق يمتلك شبكة دولية للاجرام ويعتبر نموذجا مثاليا لفساد كثير من رجال
اعمال هذا الزمان حيث الزواج غير الشرعى بين المال والسلطة، فالسحراوى بعيد
عن عالم الروح أو الأحاسيس الإنسانية أو المبادئ الأخلاقية لا نجده يعانى
أزمة ضمير بعد ارتكابه لأى جريمة فهو لا يستطيع أن يأسف لأى شيء ولا يفكر
عادة إلا بما يحقق له أكبر النفع دون أن يقيم وزنا لقيمة أخلاقية وبذلك
تتجرد الشخصية غير المبالية والعبثية من إنسانيتها لتصبح شيئا غير بشرى،
كأنه يتمثل قول "نيتشة" "إن أقوى وأسمى إرادة فى الحياة لا تتمثل فى الكفاح
التافه من أجل الحياة وإنما فى إرادة الحرب إرادة السيطرة، وهو يدعو البشر
لنبذ الأصنام أى المثل العليا فالحياة للأقوي"، الشاب عادل احد عملاء
السحراوى و الذى قام بدوره الممثل الشاب "اسر ياسين"بطل فى زمن خلا من رجال
البطولة لا حدود لطموحه تسكن همومه قضية عامة وخطيرة ونعنى بها مرض
الإنسانية الذى تعانى منه فى هذا العصر هو "الغربة" والفشل فى التكيف مع
المجتمع، حياته بها الكثير من النكبات (مرض امه النفسى وفقدها) التى ترسبت
فى وجدانه وعاشت فى لا وعيه وهو دائم العمل ودائب الخلاص للخروج من عنف
وقسوة هذا الواقع الذى حكم عليه بعدم الاستواء، يوسف توفيق غبريال الذى قام
بدوره الفنان القدير "محمود ياسين" ظل مطاردًا طوال حياته ولم يعش مرة كما
اراد، مصدر عذابه هو الوعى الذى ينتاب الإنسان فى بعض اللحظات النادرة من
حياته، تلك التى يخلو فيها إلى نفسه ويفكر فى قيمة ما عمل وما يعمل لتتجلى
امامه الحقيقية المفزعة "كل ما فى هذا الوجود عبث" وعلى الإنسان أن يسلم
بأن الحياة خالية من المعنى ثم يكيف موقفه استنادا على ذلك، الشاب جرجس
والذى قام بدوره الموهوب الفذ احمد عزمى واكثر شخصيات وحيد حامد طزاجة فنية
واكثر الشخصيات بعدا عن النمطية يتفجر وعيه فيرى ان الانسان لا وجود له دون
حريته وامتلاكه إرادة الاختيار، فرح "روبي" عميلة السحراوى المتفجرة
الانوثة والتى توقع بعملاء السحراوى وتتابع تحركاتهم وتقضى النهار بالعمل
بأحد مراكز التجميل كواجهة تخفى نشاطها خارج القانون، وتقضى الليل مع زبائن
المتعة من الكبار ذوى النفوذ وتمتلك احد القصور، والشخصية تمثل احد اشهر
كليشيهات السينما المصرية ولكن برداء هذا الزمان فالمراءة تتحول هنا الى
فاعل تمارس الاغواء وتعبر صراحة عن رغباتها واصبح الرجل مفعولا به، فالفتاة
"فرح" تعلن صراحة لعادل انها تريد أن تنام فى "حضن واد مز"...محمد ياسين
كمخرج احد اهم عناصر الاجادة فى هذا الفيلم الذى يحوى تيمة تبدو مستهلكة
(وهذا ليس عيبا) فيعلن بقوة عن امتلاكه مقومات التعبير الفيلمى وله اسلوبه
الدينامكى فى التعبير المرئى عن صور اختناقات عالم شخصياته من خلال قدرة
كاميرته على تجسيد المغزى والتوقف امام الدلالات والعناية بالتفاصيل
الكبيرة والصغيرة والتكوينات الجمالية للكادرات والايحاءات المعمارية
للشخوص داخل وخارج المكان فى ايقاع مشدود ومتواز مع كل الشخصيات وقدرته على
ادارة الممثلين بكفاءة عالية وقد برع المخرج حرفيا وفنيا فى كثير من
المشاهد خاصة فى مشهد دفن يوسف فوق قمة الجبل وحيث نلمس فى هذا المشهد
اصوات الموسيقى الفردوسية فى يسر وبساطة"موسيقى تامر كروان" ولكن يؤخذ عليه
طول مشاهد المطاردة فى المغرب، وافتقاد عملية اختطاف الحصان للمنطق فبدت
ملفقة، ومن ادق وابلغ مشاهدالفيلم تعبيرا مشهد نهاية الفيلم حيث يجتمع عادل
وجرجس وفرح فى أحد المطاعم وأمامهم أحد أفراد العصابة يهددهم بالقتل ولكنهم
يواجهون هذا الشر القادم بالتحدى وعدم الخوف "فإن لم تستطع قهر الخوف كن
مصدرا له".
العربي المصرية في
13
يناير 2009 |