على
الرغم من تفاوت تواريخ إنتاجها وتنوع أجناسها وموضوعاتها، فان حضور أربعة
أشرطة سينمائية مصنوعة بأياد عراقية دفعة واحدة، ضمن فقرات برنامج دورة
مهرجان دبي السينمائي الدولي الأخيرة، يدعو الى الغبطة. لكنها في واقع
الأمر غبطة تبدو عابرة، تضافر الزمن والمناسبة في تسليط الضوء عليها.
ولتعيد طرح سؤال الصنيع السينمائي في العراق وراهنه، وما يواجهه المبدع
والمهتم من تحديات جمة. ولكون الحال محكوم عليه بشبه المستحال، وفي حاضر
تتناهبه الفوضى، يبقى السؤال ولا يلغيه. صحيح ان شحة الإنتاج السينمائي هي
ليست وليدة اليوم، إنما نتاج عقود من الإهمال والتهميش بفعل عوامل كثيرة،
منها نظرة الريبة التي بادلتها المؤسسة السياسية والرسمية لها، وغياب الخطط
الجادة للنهوض بواقع الفن السابع من جهة.
وضعف
البنى التحتية المستقلة، وشبه إنعدام المنتج الخاص في تبني مشاريع سينمائية
من جهة ثانية. لكن الأصح، أيضا، هو في محنتها المزمنة، واكتفائها بتأدية
الدور الخجول، وكأنها الابن الضال، في المشهد الإبداعي لهذا البلد، ولحياته
الثقافية العاجة بالشعراء والفنانين والمسرحيين والكتاب، وأخيراً
السياسيين. أين يكمن القصور والخلل، في السلطة والقيميين على الشأن
السينمائي، أم في المبدع؟ هل في صنعة السينما كمفردة حداثية صرفة؟ أو في
مجتمع يخاف من صورته؟ تبادل الأدوار وتقاطعها بين السلطة والمبدع السينمائي
أفضت الى مفترق طرق، ولكل تبريراته وحججه. ما تريده السلطة واضح، صورة
معقمة تتماشى مع شروطها مرة، وأخرى دعائية صرفة. فيما يرى فيها المبدع
السينمائي، كموثق درامي، الفضاء التعبيري القادر على استلاف قصصه من
الواقعي والمتخيل، وفي زمن مكثف بفعل المونتاج، ويحيلها الى صور غدت في
عالمنا المعاصر الفولكلور الأكثر شعبية بين أقرانه من الفنون التقليدية.
ما بعد
السقوط
لم يستلف
المصور والمخرج العراقي قاسم عبد حكاية شريطه الوثائقي «حياة ما بعد
السقوط» من بطون الكتب. إنما ترك لكاميرته توثيق يوميات عائلته الكبيرة،
على مدى 155 دقيقة، والمحكومة بالعزلة والخوف من خطر لا يعرفون مصدره،
ويسجل تحولات الزمن. ويبدء بوصول المخرج من مغتربه الطويل، الاتحاد
السوفياتي حيث الدراسة ومن بعد بريطانيا التي أستقر بها منذ العام 1982،
الى سكن عائلته في بغداد والفرحة الغامرة التي أستقبل بها. لكن فرحة الوصول
سرعان ما تحولت الى بحث في إرث النظام السابق وعسفه، الإنتماء السياسي الى
حزب البعث كان بمثابة فرض، فيما المستقل سياسياً يطلب منه إضافة كلمات
«وسائر في خط الثورة» كحبل نجاة. ثم فترة الحصار الإقتصادي القاسية التي
سيق بسوطها الفئات الأكثر ضعفاً، وتقاسم مفرداتها ومراراتها المجتمع
العراقي، ومروراً بسقوط النظام والمتمثل بسقوط ثمثال رأسه في ساحة الفردوس
يوم التاسع من نيسان 2003، وحالة الفرح والتفائل التي غمرت عامة الناس
بنهاية أحزانهم.
لكن سرعان
ما تبين ان خاتمة أحزان العراقيين، كما يتابع الشريط، وآمالهم المعقودة على
التغيير قد أستجلبت معها حالة من الفوضى العارمة. إذ دخلت المفخخات و القتل
العشوائي على الهوية وصعود النعرات الطائفية وفقدان الأمان، مضافاً اليها
شحة الخدمات الأساسية، مثل الماء والكهرباء والوقود بشكل عام، ومصادرة
الحقوق العامة والشخصية باسم الغلبة، وأصبحت مفردات ما سبق زاداً يومياً
يتقاسمه أهل العراق. ما سجله الشريط من تلك اليوميات كاف لرسم صورة قاتمة
لحاضر ومستقبل هذا البلد الرابض على فيض من العصبيات، وفي ظل غياب شبه تام
للدولة. النهاية الدرامية للشريط، والمتمثلة بمقتل شقيق المخرج على يد احدى
المليشيات، جاءت وكأنها تقول ان فاتورة التغيير مكلفة. ولعل نباهة الشريط
وقوته تكمن في تسليطه الضوء على حالة المرأة العراقية وحقوقها المهدورة،
كما جسدتها حالة الشابة زينب التي اختارت الخياطة بديلاً من الخروج الى
الشارع. وكذلك يحسب للمخرج صدق تعبيراته الصورية، برغم الإطالة في بعض
الفصول، و توظيفه للهجة البغدادية التي كادت تختفي مفرداتها في التعامل
اليومي، وسط هجمة الهامش وتناحر الإرادات.
تقويم
شخصي
خط
التوثيق الذي ساجل فيه المصور قاسم عبد اليوم العراقي، أخذ على يد الممثل
والمخرج بشير الماجد وفي عمله الروائي القصير الأول «تقويم شخصي»، عرض ضمن
فقرة أصوات خليجية، بعداً رمزياً ليقارب راهن بلده. يدعونا الماجد الى
متابعة رحلة قصيرة في واسطة نقل عمومي، يفتتح بها شريطه وعبر لقطة مقربة
لخلفية باص، كان في السابق مخصص لطلاب مدرسة، وفي إشارة الى مفردة الحواسم
التي شاع استعمالها إبان سقوط النظام السابق. مرور الباص في أحد الشوراع
يرسم الصورة العامة لأجواء الرحلة، ملصقات سياسيين ونواب ولقادة فاعلين،
أعلام عراقية، شعار عاش العراق ولكونه آمناً، وتتوسط كل هذا الحشد لافتات
الموت ومجالس العزاء، وعلى شكل اعلانات بالمجان تحتضنها الأسوار. أما ركاب
الباص فهم أقرب الى خليط ألوان المجتمع العراقي، تكشفهم الملابس واللهجات
والفئات العمرية المختلفة ومن بينهم شابة تجلس في زاوية منه. فيما تدور
النقاشات الحامية داخل الباص حول سؤال محوري يتعلق بيوم تسلم الراتب
التقاعدي.
لكن تلك
النقاشات والحوارات الجانبية تفضي الى إلتباسات في عدد أيام الأسبوع،
فتقويم كل شخص، كما يفصح عنه الشريط، يختلف عن الآخر حسب إرتباطه بحدث ما.
ولأنه إلتباس مرتبط بالغايات والنيات، فهو في نهاية المطاف يأخذ بعداً
تهكمياً للحالة العامة التي تحكم الناس وتضبط تقاويمهم الشخصية. وحدها
الشابة تنأى بنفسها عن تلك الحوارات العبثية، وتحرشات أحد الركاب، عبر
إطلاق ناظريها الى الفضاء العام وكأنها تحلم بأمل ترسمه خضرة الحدائق. شريط
الماجد يبشر بنباهة مخرج كتب بالصورة والحوار الذكي اليوم العراقي وأوجزه
بـ 9 دقائق، وأختتمه باللقطة ذاتها التي أفتتح بها عمله.
عدسات
مفتوحة
هي الصورة
إذاً، وقدرتها على مقاربة حياة ويوميات البشر، تلك التي وثقتها المخرجة
ميسون باجه جي في شريطها «عدسات مفتوحة في العراق». فقد تتبعت المخرجة ما
قام به المصور الصحافي البريطاني يوجين دوليبرغ في تصوير مجموعة نساء ومن
بيئات مختلفة، وجمعها في معرض حمل الاسم نفسه. وذهبت أبعد الى النفاذ الى
عوالم خمس نساء، عبر منح كل واحدة منهن الفرصة للحديث عن الطفولة،
والمعانات من أجل الحصول على التعليم واختيار الرجل المناسب، وعن قصص الحب
والخيانات، وما يترتب على تلك الأفعال من ردود فعل اجتماعية وفي بيئة
محافظة. ومن خلال تلك القصص تنسج المخرجة حبكة شريطها، ولتجتمع في قصة
واحدة عمادها قوة حضور المرأة في مقاومة أشد الظروف والمحن.
فيما
يمتحن المخرج عباس فاضل معنى الصداقة والوفاء والوعد، عبر شريطه الروائي
الأول «فجر العالم»، الذي عرض ضمن فقرة الأفلام الروائية الطويلة لمسابقة
المعر العربي. وفيه متابعة لقصة حب مسرحها الأهوار، بطلها مستور وقريبته
زهرة [المغربية حفصية حرزي التي فازت بأفضل دور نسائي عن شريطها «أسرار
الكسكس» لعبد اللطيف كشيش في مهرجان البندقية للعام الماضي]. لكن زواج
مستور من زهرة سرعان ما ينفرط بفعل إندلاع حرب الخليج والتحاق الزوج بجبهات
القتال، إذ يتعرف هناك على مجند من أهل بغداد، وتنشأ بينهما علاقة صداقة
قوية. لكن إصابة مستور المميتة، وقبل ان يلفظ انفاسه يطلب من رياض البحث عن
زوجته والعناية بها. بالمقابل، وبرغم صدمتها وفقدان زوجها التي احبت، تجد
زهرة نفسها أمام خيار القبول بمأساتها رافضة الإقتران برياض. وبرغم بنائها
الدرامي، وتطرقه لموضوع الحرب وما تركته من خسائر شخصية وعامة، فان شريط
«فجر العالم» جاء في بعض فصوله مكرراً لاشتغالات سبق وان تناولت مثل هذه
الدراما.
المدى العراقية في
12
يناير 2009 |