الابن
الحائر في القرود الثلاثة
بدا العام
المنصرم فريدا بالنسبة للسينما التركية التي مر على وجودها أكثر من ثمانية
عقود، بيد أن ما اخرجته الاستديوهات من أعمال ظهرت وكأنها وضعت خطا فاصلا
بين انتاجات أغرقت الأناضول في سنوات امتدت من الخمسينيات وحتى نهاية
الثمانينيات، بالدموع تارة، والضحكات الساذجة تارة أخرى، ميلودراما على
غرار السينما الهندية مغرقة في صدف لا تنتهي وحكايات اقتبست من نصوص لا
علاقة لها من قريب أو بعيد بالواقع المعيش في هضبة الاناضول، وشخصيات لبست
فجأة ثوب الشياطين ولكنها وقبل كلمة النهاية سرعان ما تصبح فجأة أيضا
ملائكة.
كانت
أسماء النجوم في ذلك الوقت فاطمة جريك
Fatma girik
وتوركان شواري
Türkan Soray
وهوليا كوكشيد
Hülya
Koçyigit
وفليز آكين
Akan Filiz
وطارق تكين
Tarik Akan،
وأديث هون
Ediz Hun،
وكرتل تيبيت
Kartal Tibet،
وجونييت أركن
Cüneyt
Arkin والاسم الأخير سيكون من هذا النوع الذي لا يقهر أبدا على
الشاشة فهو مثل الهندي أميتاب باتشان فكم هي الأفلام التي شارك فيها وتمكن
من سحق الآلاف الأعداء دون أن يصاب بأذى. الطريف أن جونييت الذي تحول من
الطب إلى التمثيل قام بطولة فيلم كاوبوي (نقل نقلا عن فيلم ''من أجل حفنة
دولارات'' للأميركي كلينيت استود ولكن في الأناضول).
أما
الكوميديا فلم تكن أفضل حالا فإجمالا اتسمت بالترهل والمواضيع الباهتة
وبطولتها تمحورت حول الراحل كمال صوناي،
Kamal Sunay
وشنر شان
Sener San
الذي صار ممثلا مخضرما يظهر حينا ويختفي أحيانا. كانت هناك بلا شك علامات
مضيئة في السينما التركية لكنها ظلت استثناءات لا تشكل ظاهرة ومنها وهو
الكثير ما كتب عليه المنع بفضل رقابة وضعت قيودا صارمة أمام أي مناقشة
لقضايا حساسة أو المساس بشخص أبو الأتراك (مصطفى كمال أتاتورك). ولكن الباب
كان عليه أن يفتح، وقد انفتح بالفعل ولم يعد هناك من يستطيع غلقه.
أتاتورك
والظلام
في
البداية خرجت ملفات، نهل منها كتاب وضعوها على سبيل التورية في نصوص مسرحية
وأدبية، وشيئا فشئيا اخترقت الميديا المرئية ومعها الشاشة الفضية. وها هو
مؤسس تركيا الحديثة في فيلم وثائقي أخذ عنوان ''مصطفى''
MUSTAFA
نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك. المفاجأة كانت فيما حمله من مشاهد ومعلومات
لم يكن مسموحا التطرق لها، والدليل على ذلك الجدل الذي صاحب عرضه في دور
العرض السينمائي باسطنبول والمدن الكبرى، فاللقطات اقتربت من الحقيقة وسردت
بواقعية جوانب شديدة الخصوصية من حياة الغازي مصطفى كمال أتاتورك وكيف أنه
كان يخاف من الظلام ويحرص على أن ينام بعيدا عن ''الضلمة'' على حد تعبير
راوي الفيلم الكاتب الصحفي جان أوندر
Can Dündar
الذي كتب الشريط ووضع له السيناريو. ولا يتوقف السرد عند ذلك فحسب بل يزيل
الغموض عن علاقات المؤسس بالنساء وشرب الخمر الذي دمر كبده وعجل بوفاته.
وكان
طبيعيا أن ينقسم المشاهدون في عموم البلاد ما بين مؤيد ومعارض، ليس لكشف
المستور وإنما خوفا من تداخل الخاص في العام أو تعميم السلوك الشخصي مقابل
تقليل الإنجازات التي قام بها أتاتورك.
وجدان..
المأساة
كان هذا
عن مصطفى الجامع لأطياف وأعراق صهرت ربما قسرا في بوتقة القومية الطورانية
في ثوبها التركي والمتحصنة بلغة وحيدة ألا وهي اللغة التركية، وهكذا وعلى
هضبة الأناضول نمت تركيا الحديثة وارثة الإمبراطورية العثمانية. ثمانية
عقود ونصف مرت، حفل خلالها المجتمع التركي بمتغيرات شتى وبمراحل تحول
هائلة، لكن بقى هناك القلق والتأرجح بين تقاليد وقيم ضاربة في عمق الاناضول
وأخرى وافدة وهي على النقيض من السائد، المصر على التواجد والبقاء رغم
المواجهات من قبل النصوص القانونية تارة، وتحريض المجتمع المدني ودعوته إلى
التحرر من أسر الماضي المقيت، ولكن هيهات.
في وجدان
''VICDAN'' هذا العمل السينمائي الغائر في تراجيديا مفعمة بالمأساة
تغوص الكاميرا في عمق الثقافة المتسيدة بعنف، وبطبيعة الحال يتركنا مخرج
الفيلم آردين كيرال
Erden Kiral بجانب الضعفاء وهم هنا النساء اللاتي يذكروننا بأقرانهن في
مخطوطات أدب الغضب. ويالها من مصادفة أن يأتي الشريط في وقت تجد بعض
الكاتبات هجوما ضاريا لإصرارهن على مقاومة التابو.
المثير أن
كاتبة شابة مثل سيلين تكتين والتي أرادت أن تكسر القالب لتصنع شخصية تتصرف
وفق اهوائها سوف تكتشف هي نفسها أنها لا تملك هذا الترف في مجتمع سنجد
قطاعات منه لا تطيق استمرار عقاب أشخاص كانت جرائمهم التنكيل بنساء خرجوا
عن العرف، فبطل العمل مراد هان ''Murat
Han''
يصول ويجول في الخطيئة وكله زهو وفخر، وحينما تقوم زوجته تولين آوزن ''Tülin
ozen'' ـ التي تتقاسم معه مشقة الحياة بالتساوي وتعمل معه في نفس
شروط العمل القاسية ـ برد فعل معنوي يعبر عن رفضها الخيانة التي لا
تستحقها، كان لابد أن تواجه مصيرها المحتوم ألا وهو القتل وتركها تزحف ببطء
نحو الموت، دون أن تصيب الجمع الحاشد حولها بأي رجفة وكأنهم يباركون ما
فعله القاضي والجلاد معا، وعلى أية حال سينال رمز المجتمع الذكوري، جزاءه
من الشخصية المحورية بالفيلم والتي كان القهر محور حياتها. وأدت الدور نور
جول ياشيل تشاي ''Nurgül Yesilcay''،
وقد حصلت على جائزة أحسن ممثلة في مهرجان البرتقالة الذهبية بمدينة أنطاليا
في أكتوبر الماضي.
كتاب
العطلة
ولكن
القهر لن ينتهي فسوف يعود من جديد في ثوب آخر وتفاصيل أخرى وعنوان بليغ
اختصر في ''TATIL
KITABI''، بداية الفيلم مشاهد بنورامية شديدة الصفاء، هكذا ظهرت
المدينة في عين هذا الصبي البالغ من العمر عشر سنوات والذي يتأهب للإجازة
بعد عام حافل من النشاط كان فيه مجتهدا نبيها باعتراف الشهادة التي حملها
مع كتاب العطلة عائدا إلى منزله. ولأنه ينتمي لعائلة بسيطة غارقة في
مشاكلها الحياتية المزمنة، فقد كتب عليه أن يقضي إجازته في عمل أيا كان
للحصول على مال ضئيل فهو في النهاية سيزيح بعضا من العبء الذي يتحمله رب
الأسرة. المثير في الفيلم الذي أخرجه
Seyfi Teoman
أن الابن الأكبر يرفض أن يلتحق بأكاديمية عسكرية رغم الحاح الأب، وهنا تكمن
دلالة الفيلم فالجيش لم يعد تابو أو قدس الأقداس أو جنة عدن حتى لو كان
المقابل البطالة والشظف أو البقاء على الهامش في مدن مازالت منسية.
القرود
الثلاثة
القرود
الثلاثة ''UC
MAYMUN''
التي لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم. تنويعة صاغها باقتدار
Nuri Bilge
Ceylan بيد أنه استحق جائزة الإخراج في مهرجان كان الأخير، تبدأ
التترات بمحاولات مضنية يبذلها شخص كي لا يغفو، إنه مصمم على أن يقود
سيارته بعد يوم طويل في الخطابة وشحذ الهمم. إنه يخوض انتخابات فلا تكفيه
وظيفته الرفيعة، بل يريد أن يصبح نائبا في جمهورية يمقتها أو على الأقل
يكره مؤسسها! ولأن السماء أرادت أن تعاقبه فقد ناله النعاس في طريق متعرج
عجيب لينتهي به الأمر وقد صرع شخصا. وكان لابد من آخر أن يتحمل القتل الخطأ
فليكن سائقه الذي سيلبي على الفور.
وها هو
قطار الضواحي يشق صمت الموت، التلفاز يتحدث عن انتخابات يتصدرها حزب
العدالة والتنمية لكن لا احد على استعداد أن يسمع وكأن الانتخابات تجري في
بلد آخر. فالقهر المادي والمعنوي قد وصل مداه لتلك الأسرة التي لا تنتظر
عائلها الذي يقضي شهورا في السجن بدت وكأنها تنتظر لحظة انهيارها المدوي،
ومن خلال الجسد المفترض أنه مصان بحكم التقاليد والعرف تتداعي الشخوص
وتنزلق إلى هوة سحيقة والشاهد سيكون الابن ''Ahmet
Rifat Sungar'' والمسمى هنا إسماعيل ضحية القمع المزدوج من واقع معيش شرس
لا يرحم، ورب الأسرة ''Yavuz
Bingol''
رغم أنه (أيوب) إلا أنه لا يعرف الصبر معتقدا أن بضعة مئات من الليرات
كفيلة بنجاته من مقصلة الفقر، أما الأم ''HaticeAslan'' وهي هنا هاجر سوف تستبسل لجلادها كي لا يتركها فأخيرا عرف
جسدها أين هو مرفأه.
الإتحاد الإماراتية في
8
يناير 2009 |