لم يكن مهماً انتظار خاتمة مسلسل «بين بيروت ودبي» الذي انتهى ليل الأحد، فهذا المسلسل الذي كتبه جبران ضاهر وأخرجه ميلاد أبي رعد (المؤسسة اللبنانية للإرسال) تخطى حدود «القصة» التي رواها مركزاً على الجو الدرامي الذي اعتمده أو أشاعه. لكن العنصر القصصي لا يمكن التغاضي عنه، على رغم اقترابه في أحيان كثيرة من «الميلودراما» الشعبية، فالقصة هي قصة الصراع الذي عاشته «أمل»، الشخصية الرئيسية مع ذاتها أولاً ثم مع الآخر أو الحبيب «وليد» الذي خانها رغماً عنه. وانطلاقاً من هذا الصراع المحوري نشأت صراعات أخرى ثانوية صبت كلها في السياق الدرامي نفسه. غير أن شخصية «أمل» بدت هي الأساس في هذا الصراع، فهي مثاره ومآله، بدايته ونهايته.

وليس من المبالغة القول إن أداء الممثلة كارمن لبس لهذه الشخصية منح الشخصية الكثير من الحياة والعصب، وارتقت بها الى مصاف الحضور الجسدي والنفسي، مجسّدة حالات اللاوعي التي تعتمل داخلها. ونادراً ما نشاهد ممثلة تلفزيونية في هذه القدرة على الإمّحاء في الشخصية التي تؤديها، حتى أن المشاهد يحار: هل يشاهد أمل تؤديها كارمن لبس أم يشاهد كارمن لبس تؤدي شخصية أمل؟ استطاعت كارمن أن تجعل من شخصية أمل مرآة لها وحلّت بها أو «تقمّصتها» إن أمكن القول، وأعطتها إيقاع جسدها ووقع حركتها وتعبيرها، إنها «عاشتها» بحسب ما يقول المخرج الروسي ستاينسلافسكي، مكتشفة فيها ماضيها وملتقطة الأحاسيس المشتركة بينهما والنزعات والميول الكامنة في اللاوعي المشترك أيضاً. إنها المرأة الثرية التي تجد في الحب عزاء لها وملجأ تهرب إليه من حال الفراغ الذي تعيشه كامرأة عاقر بل كامرأة خائبة من أن تكون أماً. كان الحب مجسداً في شخص «وليد»، حباً مثالياً وعاصفاً، فالحبيب كان العشيق والزوج والابن في آن، وقد أحبتها في تعدده هذا، هو الذي أغرمت به من النظرة الأولى كما يقال، ورفعته من سائق تاكسي الى رجل أعمال. وعندما تكتشف خيانته لها وزواجه السرّي الذي طالما كانت تخشاه، يجن جنونها، فالخيانة هنا مزدوجة وأكثر، إنها خيانة الحبيب وخيانة الزوج وخيانة الابن «الافتراضي». وقد زاد من جنونها أن الزوج استطاع أن يحقق حلم الابوة عبر زواجه من امرأة أخرى في بيروت. لكنّ الزوج «وليد» لم يقصد في زواجه الثاني، السرّي وغير المعلن، خيانة «أمل»، فهو ظلّ يحب «أمل»، حتى بعدما جرّدته من المال والعمل وأرجعته سائقاً، ولم تكن خيانته لها إلا تحقيقاً لرغبته في الإنجاب وفي أن يصبح أباً.

أصبح «وليد» الشخص النقيض لـ «أمل» بعد أن كان شبيهها أو قرينها في حياتهما الزوجية في دبي: «أمل» المنتقمة أضحت كالنمرة المتوحشة (ظاهراً) التي لم يبق لها من هم سوى أن تثأر لنفسها ولحبها ولأمومتها المتوهمة، أما وليد فازداد رقة وضعفاً وبدا كأنه يعاقب نفسه على «خطيئة» ارتكبها مرغماً. لكنّ أمل التي غدت شرسة وقوية كانت أشد ضعفاً من الحبيب الخائن، قسوتها تبدّت في الظاهر أما في الداخل فكانت دوماً تلك العاشقة الرقيقة والمجروحة والمتألمة.

إلا أن الجوّ الدرامي لا يقتصر على هذه العلاقة المعقدة بين امرأة ورجل، بل يشمل أيضاً عائلة «وليد» (زوجته وابنتاه) وعائلة أحد أقرباء «أمل». وتتداخل العلاقات وتبرز صراعات هامشية داخل عالم «العمل» التجاري وما يتفرّع عنه. فابنة «وليد» (فاتن) مثلاً تقع في حبائل الفخ الذي نصبه لها أحد المتاجرين بالمخدرات انتقاماً من أمها التي لم تبادله الحب في الماضي، وابن قريب «أمل»، وهو رجل أعمال لبناني، يقع في حب الابنة الثانية لـ «وليد» وتسعى أمل الى تدمير هذا الحب في سياق انتقامها من «وليد»... هكذا تتوالد القصص بعضها من بعض وتتقاطع العلاقات وتتوتر، بين بيروت ودبي المدينتين اللتين تتخطيان المفهوم «الجغرافي» لتصبحا مكانين عاطفيين، مكان يمثل الماضي وآخر يمثل الحاضر، مكان يجسد الحلم وآخر يجسّد الكابوس.

قد يؤخذ على مسلسل «بين بيروت ودبي» بعض الهنات، سواء في تركيب الشخصيات وبناء علاقاتها أم في البنية العامة التي اعتمدها الكاتب والمخرج، ومنها على سبيل المثل تنكّر «أمل» في شخصية امرأة خليجية بغية تأكدها من حب «وليد» لها، أو وقوع ابن قريب «أمل» في حب ابنة «وليد» وسواهما... عطفاً على تأثر الكاتب بما يُسمى موجة الميلودراما «المكسيكية» التي درجت فترة قبل أن تحل محلها الميلودراما التركية. إلا أن حضور ممثلة في قامة كارمن لبس استطاع أن ينقذ المسلسل من تلك الهنات التي أخذت عليه، ناهيك بحضور الممثلين الآخرين وفي مقدّمهم فادي ابراهيم الذي أدى دور «وليد» بمتانة ورهافة. أما كارمن لبس فبدت في أحد أجمل أدوارها التلفزيونية، ممثلة لا يكفي وصفها بالبارعة والخارقة، من شدة ما نجحت في أداء هذه الشخصية، مبرزة تناقضاتها النفسية وصراعها الداخلي. وكم بدت بديعة في عيشها هذه الشخصية التي غرقت فيها وأضاءت عالمها الجواني وأحاسيسها الدفينة وغرائزها. ولم تقع كارمن، في أي لحظة، في التصنّع والافتعال أو المبالغة، بل هي عرفت كيف توازن بين عنف الشخصية الخارجي وعنفها الداخلي، بين صخبها وصمتها، فإذا هي «أمل» وإذا «أمل» هي، في معاناتها المتعددة وفي أزماتها النفسية، وفي اللعبة التي أدتها كامرأة من لحم ودم. وثمة لقطات أدتها كارمن لبس لا يمكن نسيانها فعلاً، ومنها مثلاً حال الجنون الذي حل بها عندما اكتشفت خيانة زوجها لها بعد أن قصدت المستشفى فراحت تصرخ في الشارع بملء ألمها، وكذلك عندما دخلت غرفة النوم في الفيلا التي كان يسكنها وليد مع زوجته وابنتيهما ووقوفها أمام سرير الخيانة الزوجية... أما أداء كارمن دور الأم المتوهمة فكان غاية في الرقة والحنان الأمومي وقد بدت خلاله أماً حقيقية بملء جوارحها، على رغم انها لم تكن أماً حقيقية.

قد يكون مسلسل «بين بيروت ودبي» مسلسل كارمن لبس بامتياز، فهي استطاعت من خلاله أن تثبت أنها ممثلة ذات خامة مميزة لا سيما في هذه المرحلة التي تفتقد فيها الممثلات، لكنه أيضاً مسلسل الكاتب والمخرج وسائر الممثلين الذين بدوا في حال من التناغم الدرامي الجميل.

الحياة اللندنية في 6 يناير 2009