"ليست
هناك بداية. ليست هناك نهاية. هناك فقط الشغف اللانهائي بالحياة." (فيديريكو
فيلليني)
صاغ الاحلام على شاشة بقياس ملم محتفلاً بالحياة كما لو أنه لم تفته لحظة
من لحظاتها؛ مزج الحلم والواقع والواعي واللاواعي من ذكرياته وتوهماته في
قالب لا يشبه سواه حتى اشتقت من اسمه الصفة: "الفيللينية". إنه فيديريكو
فيلليني، السينمائي الايطالي الاكثر شهرة من جيل سينمائيي ما بعد الحرب
العالمية الثانية والاكثر نجومية من دون شك، إذ لم يحدث في تاريخ الفن
السابع ان توازت شهرة مخرج مع شهرة أفلامه أو ضاهت نجوميته نجوميتها لا
لشيء سوى انه كان أفلامه وأفلامه كانت هو، تحكي عنه ويحضر فيها من دون أن
نلمح وجهه حتى قيل ان "أهم شخصية في افلامه هي الشخصية التي لا تظهر في
الفيلم، ومع ذلك موجودة على الدوام؛ هو فيلليني الذي كان نجم أفلامه جميعاً
وفي الحياة اليومية كان شخصاً آسراً". ("أنا فيلليني" لشارلوت شاندلر). وفي
العام ، لُقِّب فيلليني بـ"مخرج العصر" فيما اعتُبر مبالغة من قبل بعضهم،
إلا أنها في كل الاحوال لا تخلو من قيامها على حقيقة الدور البارز الذي
لعبه في السينما العالمية طوال أربعة عقود، تمثلت ذروته في ثلاثة منها على
الاقل من ، سنة انتاج "الطريق"
LA STRADA،
إلى عام "أماركورد"
AMARCORD.
لم يتوقف التأثير عند ذلك الحد، إذ تكشف الاستفتاءات المتعاقبة التي تديرها
مجلات ونوادٍ متخصصة تأثير هذا السينمائي العظيم على الجيل المعاصر ومن
نتائجها أن سُمي فيلليني في استفتاء مجلة "سايت اند ساوند" لعام "مخرج
المخرجين بدون منازع".
كيف بدأت
رحلة فيلليني؟ في ريميني البلدة الصغيرة حيث وُلد وشب لافظاً التقاليد
الاجتماعية والدينية؟ أم في روما عشقه الاول والاخير؟ يصادف هذا العام
الذكرى العاشرة لوفاة "المايسترو".
[ الولادة
وُلِد
فيديريكو فيلليني في بلدة ريميني الواقعة على الساحل الادرياتيكي عام من أب
تاجر كثير الاسفار وأم ربة منزل، تحيا عزلتها الخاصة. تلقى علومه
الابتدائية في مدرسة كاثوليكية، تركت أثراً كبيراً في تشكل شخصيته وتبلور
افكاره المبكرة ضد النظام والقمع والتماثل، وتُرجِمت في مرحلة لاحقة من
خلال افلامه نقداً حاداً للفاشية التي خيمت على أوروبا وقتذاك. في كتاب
مذكراته "أنا فيلليني" ـ اعدته الصحافية شارلوت شاندلر على مدى اربعة عشر
عاماً من خلال معرفتها به ـ يصف تجربته المدرسية بالقول: "في المدرسة قالوا
لي: لا يمكن... هذا مستحيل... أتذكر الكثير من التحذيرات بحيث أعجب كيف لم
أصبح في آخر الامر عاجزاً عن فك أزرار بنطالي! لقد عمقت المدرسة والكنيسة
إحساساً طاغياً بالذنب عندي قبل ان تكون لدي ادنى فكرة عما ارتكبت من
ذنوب". وفي مكان آخر من الكتاب نفسه يقول: "قضيت حياتي ساعياً إلى شفاء
نفسي من تربيتي القائلة: لن تبلغ الكمال، أنت دنس. لقد تأثرنا بالتربية
القمعية المتشائمة للكنيسة والفاشية والآباء...". كان فيديريكو الطفل
تلميذاً عادياً، مع انه كان يفضل ان يُقال عنه انه كان طالباً سيئاً "لأني
ما أحببت يوماً أن أتصور نفسي شخصاً عادياً"، يهوى الرسم الذي كانت تتقنه
أمه وتمارسه سراً وصنع الدمى من الورق المقوّى والصلصال ومن ثم تحويلها
شخصيات مسرحية، كان الطفل يؤلف حواراتها البدائية بنفسه ويؤديها. وغالب
الظن ان اختبار هذه الموهبة المبكرة التي قامت على الحرفة، أي صناعة
الدمية، وعلى الخلق، أي الكتابة والاداء، مهدت لأسلوب عمل المخرج في ما بعد
في صناعة الشخصيات وإدارة الممثلين وذلك بتحليله الشخصي: "...وهكذا اعتدت
تأدية كل الادوار، وطوّرت، في اعتقادي، الاسلوب الذي استخدمته فيما بعد
كمخرج لأوضح للممثلين كيف أرى كل شخصية." جعله ميله إلى الرسم مولعاً
بالقصص المصورة وكان أحد أبطالها "ليتل نيمو" بطله المحبوب. لم يكن "نيمو"
مثال القوة الجسدية الذي يتطلع إليه الاطفال في سن مبكرة، وانما كان الطفل
الحالم الذي يشبه فيديريكو إلى حد بعيد، يأوي إلى فراشه متشوقاً لاكتشاف
عالم لا متناهٍ من الاحلام. لعل تلك الاشياء ـ الرسم والاحلام والدمى ـ
تبدو طبيعية الآن لانسجامها مع مسار حياة فيلليني المكرّس ولكن في مراحل
عمره المبكرة، كانت بمثابة الانشقاق عن السائد والتغريد خارج سرب المجتمع
والمدرسة والكنيسة. من هنا ترتسم صورة اختلاف فيلليني باختلاف التأثيرات في
شخصيته: "كان يُعتَقد ان الاسرة والكنيسة والمدرسة، إضافة إلى الفاشية، هي
المؤثرات الكبرى في طفل الزمن الذي ولدت فيه... أما المؤثرات المبكرة التي
خضعت لها أنا فهي الجنس والسيرك والسينما والمعكرونة". لم يكن الجنس
مصطلحاً واضحاً بالنسبة إلى أبن تسعة أعوام، ولكن فيلليني يعتقد أن الذكرى
الجنسية الاولى تعود إلى سن مبكرة عندما كان مستلقياً على طاولة في المطبخ
عارياً وفوقه انحنت نساء، يصرخن مبتهجات "وقد أثار شيئي الصغير إعجابهن،
واتذكر امي عارية، وكانت تلك المرة الاولى التي اراها عارية فيها." وفي
حادثة أخرى، كان فيديريكو ابن الثلاثة أعوام يحبو تحت الطاولة، متفحصاً ما
كان يخفيه ثوب الخادمة: "لا أظن أن لهذا علاقة بالاهتمام الجنسي؛ كان مجرد
فضول ولم يصبح مثيراً للاهتمام حقاً إلا عندما جذبتني امي من تحت الطاولة
وعنفتني...". ظل الجنس بالنسبة إلى فيلليني متعة خيالية اكثر منها حسية،
كما هي حاله مع الحياة، حتى سن متقدمة. ويعترف في مذكراته أنه كان خجولاً،
قليل الخبرة فكان يلجأ إلى احلامه ليتفاخر أمام أصدقائه حيث "كنت أعرف ما
أفعل في الاحلام بدون ارتباك ولا وجل... كنت بطلاً لا يضطرب ولا يخجل من
جسده...".
[ السيرك
والسينما
حين يتحدث
فيلليني عن طفولته، تبرز حادثتان أثرتا فيه اعمق تأثير: رؤيته السيرك للمرة
الاولى وعلاقته بسينما "دار فولغور". وبحسب الترتيب الزمني، فإن تأثير
الاخيرة بدأ قبل السيرك، إذ دخل سينما فولغور للمرة الاولى بعيد بلوغه
الثانية وظل يتردد إليها خلال سنوات إقامته في ريميني، بدايةً بصحبة والدته
التي أحبت السينما ولاسيما أفلام غريتا غاربو. قد يبدو ذلك مناقضاً لطبيعة
والدته الصارمة، المتزمتة والمتدينة؛ حتى فيلليني لا يملك تفسيراً لذلك سوى
انه تنفيس سري لميول ربما كانت تعتقدها مرفوضة من المجتمع والدين. ولعل ذلك
يتضح اكثر من خلال علاقتها بالرسم الذي كفت عنه أو على الاقل لم تعد تمارسه
علناً بعد ان اصبح فيلليني واعياً. انه اشبه بالاحساس بالذنب الذي يشتد حين
يكون هناك من يشهد ارتكاب "الجرم". في مطلق الاحوال، لا يمكن لفيلليني الا
ان يشكر والدته على ذلك مهما كانت دوافعها، إذ ان تجربة فولغور المبكرة،
خلفت في السينمائي شغفاً عظيماً بالصور من دون ان يتذكرها تحديداً. وعيه
بالافلام تشكل منذ سنه العاشرة مع بداية دخول الصوت إلى السينما، وعلاقته
بها ارتكزت على الافلام الاميركية التي أحبها دائماً ونظر إلى صانعيها
وممثليها بإعجاب وذهول. نجد وصفاً تفصيلياً لهذه العلاقة في مقابلة، اجرتها
معه شاعرة إيطالية تُدعى توني مارايني ونُشرت بعيد وفاته. رداً على سؤال
حول علاقته الاولى بالسينما قال فيلليني: "أحب الآن افلام كوروساوا وبيرغمن
وبونويل وكيوبريك. كشاب مراهق في روما، كانت تبهرني ملصقات الافلام وعروض
المنوعات وغالباً ما كنت أقصد داري السينما القائمتين في الشارع الذي كنت
أقطنه لمشاهدة صور النساء البدينات العاريات عليها. واعترف ان هذه الملصقات
هي التي كانت تشدني إلى مشاهدة الافلام." وفي مكانٍ آخر من الحوار نفسه،
ربما الاخير قبل وفاته، يتحدث عن الافلام الاميركية قائلاً: "بالنسبة إلى
جيلي المولود في العشرينات، الافلام هي الافلام الاميركية. الافلام
الايطالية كانت إما عن الحروب أو عن الرومان وكانت تقوم على بروباغندا
فاشية. لم تكن الافلام الايطالية مغرية. السينما الاميركية في المقابل،
كانت مدعومة بأكبر حركة صحافية في تاريخ السينما وأكثرها تأثيراً. إلى هذا
اليوم، ما زال معظم التعاطف مع الاميركيين يعود إلى أفلامهم. أفلام كانت في
وقتنا تقدم احتمال وجود بلد آخر وحياة أخرى أكثر بهجة من قداديس أيام
الآحاد للكهنة الايطاليين عن الجنة. الافلام الاميركية قدمت هذه الجنة على
الارض. بالنسبة إلى جيلي، كان ذلك مصدر إعجاب لذلك البلد ولشعبه ولشخصيات
أفلامه ولأسلوب تمثيلهم الطبيعي والعفوي. حتى خطاب الجيش الاميركي كان
مقبولاً لأن أبطاله كانوا غاري كوبر وكلارك غايبل وآخرين...". احب فيلليني
ابن العاشرة تشارلي تشابلن والاخوة ماركس وغاري كوبر وفريد استر وجنجر
روجرز والثنائي لوريل وهاردي، كما أحب الافلام التي ارتكزت إلى شخصية صحافي
لا سيما إذا كان يرتدي واقياً للمطر... ويعرف في مذكراته أن عمله في
الصحافة خطر له من الافلام الاميركية. وفي وصف شعوره داخل سينما فولغور
التي اطلق لاحقاً عليها وصف "بيت طفولتي"، يقول فيلليني في مذكراته: "كانت
تنتابني انفعالات حادة وأنا جالس في سينما فولغور وعرض الفيلم يوشك ان
يبدأ. وكان يستحوذ علي هناك شعورالتوقع العجيب. وهو الشعور نفسه الذي كنت
أحسه كلما ارتقيت المنصة الخامسة في سينيسيتا، إلا أنه في الحالة الثانية
كان شعور البالغ الراشد الذي يستطيع التحكم بالانشداه. إنه انفعال الجنس
الكلي، الارتجاف العصبي، التركيز الكلي، النشوة." تقاطعت تجربته في فولغور
مع تجربة السيرك التي تختلف الروايات حولها. ففي مذكراته التي رواها
لشاندلر، يذكر ان أبويه اصطحباه إلى السيرك عندما كان في السابعة. وفي
مصادر أخرى، يُقال انه هرب من المدرسة ذات مرة والتقى بسيرك كان يمر في
ريميني وهي الرواية المتبناة في معظم الكتابات عنه وقد وصلت حداً من
التفصيل، ربما المتخيل، تحدد معه انه كان في سن الثمانية والنصف عندما شاهد
السيرك للمرة الاولى وانه بسبب ذلك أطلق على فيلمه الشهير اسمه "ثمانية
ونصف". وفيما يتعلق بهذا العنوان، تقول رواية أخرى أن الفيلم كان التاسع في
مسيرته ولكن بما أن فيلمه الاول
variety
lights
()، أخرجه بالمشاركة مع صديقه ألبرتو لاتوادا، فقد اعتبره نصف فيلم مما
يجعل رقم الفيلم الذي كان بصدد إخراجه عام "ثمانية ونصف" بدلاً من تسعة. في
مجمل الاحوال، يجمع كثيرون أن تجربة السيرك تلك كانت الاعمق تأثيراً في
حياة فيلليني وأكثرها مباشرة في اختياره السينما لاحقاً. يقول فيلليني:
"صدمتني رؤية المهرجين؛ لم أعرف أن كانوا حيوانات أو أشباحاً. لم اجدهم
مضحكين ولكني أحسست إحساساً غريباً، إحساساً بأن حضوري متوقع. في تلك
الليلة وفيما تلاها على مدى أعوام، كنت أحلم بالسيرك. وخلال أحلام السيرك
تلك، شعرت أنني عثرت على المكان الذي أنتمي إليه." وفي اليوم التالي
لمشاهدته السيرك، رأى فيلليني قرب النافورة في الساحة مهرجاً، كان ما زال
يرتدي ملابس اليوم الفائت. أحس فيلليني بالالفة تجاهه، لعله في لاوعيه لمس
فيه تجسيداً للنموذج الانساني الذي أصبحه فيما بعد: شخص ساخر، من نفسه قبل
الآخرين، لا ينتمي إلى خانات المجتمع الجاهزة ـ المدرسة، المنزل، الكنيسة ـ
يمزج الفرح والحزن، التفاؤل والتشاؤم، ويختلط في عالمه السينمائي القناع
والحقيقة، بينما يسوده السحر والخيال.
[ حياته
والسينما
لقد تحول
المهرج رمزاً في حياة فيلليني وفي أفلامه. أُعجب بقدرته على إضحاك الآخرين
محاولاً ان يتماثل معه في "سيرك السينما" كما أسماه. وعندما يقول انه شعر
بالانتماء إلى عالم المهرجين، فإنه قصد بذلك الانتماء إلى اسلوب تعبيره:
السخرية وانما بحب وبراءة. كذلك لخصت شخصية المهرج بحث فيلليني المتأني في
أفلامه كافة عن البراءة الخالصة والمفقودة، إذ كان يعتقد ان البراءة
الحقيقية يمكن العثور عليها لدى ثلاثة فقط: الطفل والفنان والمجنون.
وبتحليل بسيط، ندرك أن المهرج يختصر هذه الشخصيات الثلاث، وبتحليل أعمق
قليلاً، نكتشف أن المزيج نفسه شكل شخصية فيلليني وانه أُسبغ على شخصية
واحدة على الاقل في كل واحد من أفلامه: "في كل أفلامي، هناك جهد لتقديم
عالم بدون حب، مليء بالشخصيات الانانية والوصولية والاستغلالية وفي وسط ذلك
العالم، هناك دائماً مخلوق صغير يريد أن يحب وأن يعيش من أجل الحب." يسهل
العثور على ذلك المخلوق الصغير المتمثل بزوجته الممثلة جيولييتا ماسينا في
الافلام التي ظهرت فيها ـ "الطريق"
LA STRADA
و"جولييت الاشباح" وغيرها ـ وفي شخصيات أخرى، نسائية في الغالب، في الاعمال
الاخرى. بهذه العبارة، اجاب فيلليني على تساؤلات معجبيه ومنتقديه من الذين
طالبوه بتقديم قصة حب خالصة على الشاشة، من دون أن ينتبهوا إلى أن أفلامه
كلها كانت بحثاً عن الحب.
من فن
التهريج، اكتسب فيلليني القدرة على جذب المتفرج إلى حكايته كراوٍ من الطراز
الاول. ولكن في الوقت عينه اكتسب أيضاً القدرة على خداعه، فلم يكن ليستسلم
لرغبته بالمضي في حكاية مستقيمة، بل كان سرعان ما يفاجئه بما هو غير متوقع.
يقودنا ذلك إلى مفهوم فيلليني الخاص للوقت أو للزمن، كما استثمره في
أفلامه. ينتقد فيلليني بشدة المفهوم المسطح للزمن، كتتابع تاريخي أو زمني
للاحداث فيقول في مقابلته مع الشاعرة: "نحن الغربيين، بسبب ميلنا إلى
الحياة المبرمجة، نعتقد اننا نعيش في زمن في صيرورة مستمرة، وعلينا ان نحدد
خطواتنا فيه وان نتخذ قراراتنا لنصل الي هدف معين". أما الزمن بالنسبة
اليه، فهو ذلك الوعاء الذي يستوعب الماضي والحاضر والمستقبل في آنٍ واحدٍ
وبدون تراتبية أو زمنية. إنه الوجود الكلي للانسان بأزمنته المتعددة
وخيالاته وواقعه وتوهماته. لذلك نشعر في أفلامه ان الخطين الزماني والمكاني
متداخلان، يصعب الفصل بينهما. الحركة لا تنحصر بمحيط الشخصيات فقط بل
تتعداها إلى عوالم الشخصيات الاخرى التي تتقاطع بالضرورة مع حيوات الابطال.
يكفي ان نتذكر حكاية الاطفال في "الحياة جميلة" الذين ادعوا رؤية العذراء
لنفهم معنى الوقت عنده. فالحكاية هنا تخرج عن خطها الرئيسي، وهي إذ تعود
وتلتقي به من خلال تغطية مارتشيللو ماستروياني للحادثة من موقعه كصحافي،
إلا أن فيلليني بخلاف مخرجين آخرين، لا يفعل ذلك بتكلف ولا يشعرنا للحظة
بأن خط السرد أو الاحداث هو لخدمة أبطاله، بل هو أولاً وأخيراً في خدمة
رؤيته، تلك التي تتضافر فيها أحلامه وخيالاته وهواجسه ومهمته كسينمائي في
التعبير عن كل ذلك بما يلامس المشاهد ويتركه في حالة من السحر. لقد أراد
فيلليني ان ينقل إلى مشاهده تلك الحالة التي كانت تنتابه في دار سينما
فولغور عندما كان طفلاً، ولأنه كان طفلاً وقتذاك، فإن المتعة ارتبطت لديه
بالصورة قبل أي شيء إذ لم يكن بمقدوره في طبيعة الحال فهم العمل الفني
بكليته. لذلك ظلت الصورة شغله الشاغل، فنجده يقول في حواره المذكور:
"افلامي ليست للفهم؛ بل هي للمشاهدة". وفي مكان آخر من الحوار عينه، يصف
شعوره كمتفرج: "لعلني انتمي إلى نوع خاص من المشاهدين؛ فأنا أشعر بالمتعة
عندما أحس أنني أمام الحقيقة المطلقة، ليس بتشبهها بالحياة، وإنما من حيث
صدقيتها كصورة وبالتالي حيويتها. إنها هذه الصفة الاخيرة، الحيوية، هي التي
تدفعني إلى احترام العمل الذي أشاهده وأشعر انه ناجح. وأبعد من ذلك، أعتقد
أن أي عمل فني يحصد ما يشبه الاجماع عندما يشعر المتلقي أياً كان انه
يستقبل شحنة من الطاقة من شيء نابض، غامض ومفعم بالحياة." لعل فيلليني كان
يصف أفلامه من دون أن يقصد؛ الحيوية والغموض والطاقة هي الصفات الدقيقة
لأفلامه، أما المعنى الذي سُئل عنه مراراً، فلم يشغله، بل انه كان يتبرم
بأسئلة الصحافيين عن المعنى: "المعنى، المعنى، يسألونني دائماً عن المعنى
في أفلامي وهذا يجعلني أشعر أنهم أسيرو العقل".
[ روما
والسينما
عاش
فيلليني في ريميني حتى العام إلى حين انتهائه من المدرسة الثانوية. حتى ذلك
التاريخ، كان هونفسه التلميذ العادي، الميال إلى الرسم والفنون والخجول
بطبيعته: "ما انخرطت قط في منافسة افتقر فيها إلى الموهبة. كانت تعوزني
القدرة الخاصة على التوجه إلى الالعاب الرياضية، بل كان يعوزني الاهتمام.
وبما أني كنت نحيلاً مثل هيكل عظمي، كنت أحسد اللاعبين الشبان على
عضلاتهم... كنت أرتعب من ملابس السباحة ومن ارتدائها، وهذا كان جزءاً من
شعور لازمني مدى حياتي هو الخجل من جسدي. لم أكن ميّالاً إلى المنافسة في
صغري وكنت أتعاطف في سري مع الخاسرين. ولما كبرت، صرت أخشى النساء
الجميلات". ("أنا فيلليني"). لعل أبرز ما حدث للصبي فيلليني في مرحلة
الطفولة، إلى تجربتي السينما والسيرك، هو تفجر موهبته في الرسم
الكاريكاتوري تحديداً التي تنم عن ميله إلى السخرية وترتبط بانبهاره
بالمهرجين والسيرك. في الحادية عشرة، بدأ يرسل رسومه وقصصاً قصيرة وتعليقات
مستوحاة منها إلى المجلات في فلورنسا، وما هي الا مدة قصيرة حتى نُشرت. لعل
رد فعل فيلليني الطفل وقتذاك، يعطي صورة واضحة عن شخصية فيلليني السينمائي
غير المتبجح والنقدي باستمرار. فهو كان يرسل عمله بأسماء مستعارة متعددة،
وعندما نُشر أول عمل له، لم يخبر أحداً من أصدقائه، بل خبّأ المجلة: "...لم
يكن ذلك خجلاً ولكنني كنت من السعادة والشعور بالفخر لدرجة أردت كتمان سري
الصغير... لم أرغب في مشاركة أحد فيه...". بعيد بلوغه السابعة عشرة، غادر
من دون أن يخبر أحداً إلى فلورنسا على الرغم من انه كان يرغب بالذهاب إلى
روما. ولكن فلورنسا كانت أقرب وكانت مقراً لعدد من المجلات والصحف التي كان
يرسل رسومه إليها. اشتغل فيلليني هناك بالصحافة ولكنه يصف عمله في كتابه
بالقول: "...لم يكن العمل جيداً، ولم يكن الراتب جيداً، ولم اكن صحافياً
جيداً...". ولكنه كان عمله الاول الذي جنى المال منه. لم يطل المقام به
هناك أكثر من أربعة أشهر، عاد بعدها إلى ريميني وأخذ يعد العدة للذهاب إلى
روما التي عرفها من ذكريات أمه الباهتة عنها ومن زيارة خاطفة له إليها
عندما كان في العاشرة. نزل فيلليني على رصيف محطة تيرميني بروما في شهر
كانون الثاني/ يناير من العام والتأريخ هنا مهم لأنه بداية علاقة عشق بين
السينمائي والمدينة، امتدت على مدى حياته وتخلدت في أفلامه. يقول فيلليني
انطباعه الاول عنها: "للمرة الاولى كان الواقع يفوق الخيال". روما الحقيقية
كانت أجمل من روما في ذكريات أمه ولعل ما قاله فيلليني في روما هو من أجمل
ما قيل في عشق المدن: "كلما غادرت روما قلقت عليها؛ خشيت أن يصيبها شيء
وأنا بعيد، وكأن في وسعي وأنا فيها ان أحميها وأنقذها من الخطر... ومهما
غادرتها وعدت اليها، فإن روما تبدو لي عند كل عودة أروع منها في أي وقت
مضى". وبرغم أن فيلليني ذهب إلى روما ليلتحق بجامعة الحقوق كما وعد والدته،
إلا أنه تنقل بين الكتابة في صفحة الحوادث بجريدة "شعب روما" وفي "المجلة
السينمائية" ونشر صوره ورسومه في مجلة "مارك أوريليو" ورسم الكاريكاتور بين
ميادين العاصمة ومطاعمها، إلى أن قاده عمله في الصحافة إلى أبواب مدينة
السينما "شينيسيتا" التي دخلها بغية إجراء حوار صحفي مع الممثل الايطالي
القديم أوزفالدو فالنتي من دون أن يعرف أنه سيقضي بقية حياته خلف أبوابها.
على الرغم من أن عمله الفني بدأ منذ مطلع الاربعينات من خلال كتابة اسكتشات
كوميدية للاذاعة مستوحاة من شخصيات مجلة "مارك اوريليو"، إلا أن نقطة
التحول في حياته جاءت العام عندما التقى السينمائي الايطالي روبرتو
روسيلليني الذي طلب منه كتابة سيناريو لفيلمه الجديد. كانت الفكرة الاولى
قصة متخيلة عن اغتيال الالمان لكاهن ايطالي، وطلب روسيلليني من فيلليني ان
يقنع صديقه الممثل الهزلي الدو فابريزي بلعب دور الكاهن. تحقق المشروع بعد
ان باع روسيلليني بعض اثاث منزله ليرفع أجرة فابريزي وخرج فيلم "روما مدينة
مفتوحة"، أحد أشهر أفلام روسيلليني وعلامة من علامات الواقعية الجديدة في
السينما الايطالية. في العام التالي، ارتقى فيلليني ابن السادسة والعشرين
إلى وظيفة مساعد مخرج ولكنه سرعان ما لفظها، وعاد إلى روسيلليني العام
ليوقع سيناريو "المعجزة"، الجزء الثاني لفيلمه "الحب". كثيرون يجدون ان
ملامح سينما فيلليني ظهرت للمرة الاولى في هذا الفيلم: فتاة مزارعة بسيطة
وشخصية الرجل التي توازنها وهي تشكيلة عاودت الظهور في فيلمه اللاحق
"الطريق"؛ وجود عناصر تكرر ظهورها في افلامه مثل البحر ومشهد الحفلة وأجواء
الوسط الفني؛ علاقة غامضة بالدين. كانت تلك التجربة، إلى أخرى لروسيلليني
في عنوان "فرانسيسكو" ()، بمثابة الاعلان عن ضرورة انتقال فيلليني إلى
مكانه الطبيعي خلف الكاميرا. وبكلمات فيلليني، فإن علاقته بروسيلليني كانت
إشارة إلى اكتشاف ميله إلى الاخراج: "تعلمت شيئاً من روسيلليني وهو ان
الاخراج يمكن ان يقوم به أي انسان. وهذا لا يقلل من شأن روسيلليني الذي كان
انساناً غير عادي ولكنه قصد انك عندما تريد القيام بشيء فمن المفيد ان تلقي
نظرة إلى الذين يعملونه. فحين ترى أنهم بشر برغم كل شيء، تدرك انه يمكنك أن
تحقق أنت أيضاً ما تريده. ما نقله روسيلليني إلي كان شعوراً. وذلك الشعور
هو حبه لإخراج الافلام وقد ساعدني ذلك على ادراك حبي أنا للاخراج." منذ تلك
اللحظة أدرك فيلليني أن الوسط السينمائي هو "موطن القلب"، محققاً تجربته
الاخراجية الاولى الكاملة عام في عنوان "الشيخ الابيض"، بعد تجربته
المشتركة مع البرتو لاتوادا على "أضواء الاختلاف" (). لاقى الفيلمان فشلاً
جماهيرياً ذريعاً ولكنهما قدما شخصين مهمين في حياة فيلليني، جيولييتا
مازينا الممثلة التي كان قد التقاها العام وتزوجها يوم تشرين الاول/
أوكتوبر وهو التاريخ الذي شهد موته بعد خمسين سنة بالضبط والمؤلف الموسيقي
نينو روتا الذي عمل على أفلام فيلليني كافة حتى وفاته عام . كما قدّم
الفيلمان لمحة عن أسلوب المايسترو الذي تكرس في أفلامه اللاحقة وهو ذلك
المزج بين الواقعية في القصة والسوريالية في المناخ العام للفيلم. لم ينتظر
فيلليني كثيراً ليلتفت العالم إلى موهبته. فقد شهد العام ولادة تحفته
الفنية الاولى "المتسكعون"
I VITELLONI
التي حازت جائزة الأسد الفضة في مهرجان البندقية السينمائي إلى التوزيع في
العالم. توالت النجاحات مع "الطريق"
LA STRADA
عام مع جيولييتا مازينا وانتوني كوين الذي حاز الاسد الفضة أيضاً ولكن
الاهم انه حصل على أوسكار أفضل فيلم أجنبي في مشهد سيتكرر أربع مرات أخرى
عن: "ليالي كابيريا"
THE NIGHTS OF CABIRIA
()، "ثمانية ونصف" ()، "أماركورد"
AMARCORD
() وعن مجمل أعماله سنة قبل ستة أشهر من وفاته. بين هذه الافلام، قدم
فيلليني أعمالاً لا تقل أهمية من "الحياة حلوة"
LA DOLCE VITA
() الذي كان بداية تعاونه مع الممثل مارتشيللو ماستروياني في مشوار امتد
سنوات طويلة على الصعيدين العملي والشخصي. احدث الفيلم فضيحة كبرى في
افتتاح مهرجان ميلانو بسبب نقده اللاذع لمجتمع روما الغارق في ملذاته
وسطحيته ولكنه حاز سعفة كان الذهب ومازال واحداً من أكثر أفلام المايسترو
المعروفة والمتداولة. بعد هذا النجاح الكبير، توقف فيلليني لبعض الوقت،
متفكراً في ما سيقدمه من جديد. فإذا به يحوّل أزمة إبداعه موضوع أعظم
أفلامه "ثمانية ونصف" وأكثرها ذاتية. بعده، امتنع عن المشاركة في مسابقات
المهرجانات.
[ أفكاره
والسينما
في أفلامه
كافة، كان فيلليني يغرف من معينه الذي لا ينضب: تجاربه الماضية، ذكرياته،
أحلامه وتوهماته. لقد اعتقد أن الاحلام والخيال اصدق من الواقع لأنهما
يقاومان التفسير الواضح، يأتيان صاحبهما صوراً ورموزاً اكثرها جنسي. على
الرغم من أن أسلوبه السينمائي متفرد، إلا أنه لم يكن خارج نفق التحولات،
منطلقاً من الواقعية الجديدة مع روسيلليني وفي أفلام مثل "الطريق" و"ليالي
كابيريا" حيث الفعل السينمائي يمحو نفسه تاركاً لوهم الواقع ان يقود
المتفرج، إلى واقعية سوريالية غارقة في السؤال عن الشكل السينمائي نفسه
كموضوع وليس كوسيلة كما في "ثمانية ونصف" و"روما" () و"المقابلة" () و"كازانوفا
فيلليني" () وغيرها. في المرحلتين وما توسطهما من انتقالية، لم يكن فيلليني
إلا ذاتياً، ليس بسرد واقعه وانما بانفتاحه على باطنه، فالسينمائي بالنسبة
إليه "هو القادر على إضافة الحياة إلى خياله" وليس العكس كما هو شائع. وهو
إذ كان ينكر صفة "السيرة الذاتية" عن أفلامه، إلا أنه كان يفخر دائماً بأنه
لم يقصد فنانين آخرين للعثور على موضوعات أفلامه بل ذهب إلى حياته. وبرغم
انه اكد مراراً انه لا شيء سوى راوي حكايات، إلا أن أفلامه تحتوي على نظرة
إلى الانسان والمجتمع من زاوية غاية في الخصوصية والابتكار: فهو من خلال
أفلامه قدم صورة بصرية ضخمة ومبالغة عن العالم الذي نظنه "العالم الحقيقي"
فقط ليقترح ان الحقيقة هي في مكان آخر في هذا العالم الاشبه بالسيرك. في
حين تنطبق الصفة الذاتية علي أفلامه كافة، يبرز اثنان منها سرداً مباشراً
لحياته: "ثمانية ونصف" و"أماركورد" أو "أنا أتذكر". في الاول، وكان المفضل
لدى المايسترو، يعرض لأزمة الهامه كمخرج ولأزمة منتصف العمر ولعلاقاته
الانسانية المشوشة من ماضيه وحاضره ويبقى الفيلم الذي يسعى المخرج في
الفيلم ـ يلعب دوره ماستروياني ـ غير منجز كأنه يقول انه من الاستحالة
بمكان صنع فيلم عن حياة كاملة ولو أن أفلامه مجتمعة، استطاعت أن توجز
الحياة بأعمق مما هي عليه احياناً وبأمتع وبأكثر إثارة. وفي "اماركورد"،
يستعيد طفولته في ريميني ليس كما عاشها في الواقع فحسب بل أيضاً في الخيال
والاحلام. انشغل فيلليني في أفلامه بالعلاقات البشرية بين المرأة والرجل،
وبحث عن الحب في علاقته بالجنس، ودارت أفلامه في فلك الغربة والوحدة. لقد
اعتقد دائماً ان مصيبة البشرية هي الوحدة، وآمن بأن كسرها ممكن بمشاركة شخص
آخر هو الحب. لذلك بقي فيلليني وفياً لشريكته مازينا (توفيت بعده بخمسة
اشهر) واعتبرها ملهمته الحقيقية، فشكلت بالتناوب مع ماستروياني، اناه
الثانية في السينما، التي تجسد باطنه. برغم جرأة أفلامه في التعاطي مع
المرأة وفي تقديمها، إلا أنه كان يخشى النساء ويحسد مارتشيللو على تحلق
النساء حوله، في حين انه كان هو يهرب منهن. شكلت المرأة محوراً أساسياً في
افلامه، وبخلاف ما يُقال أحياناً عن احتقاره لها، فإنه اعتبرها مخلوقاً
أسمى من الرجل: "المرأة كون، أسمى من الرجل لأنها تولد ناضجة قديمة. وهي
بحكم امومتها، تسمو. حتى الثورة فعل نسائي. اما الرجل فقد اخترع لنفسه
التفوق الذهني الزائف كوسيلة عنف للسيطرة عليها لأن معركته معها ليست
متكافئة. لعل ذلك يدفع كثيرين إلى عدم التصديق لأنني إلى الآن لم أقدم قصة
حب ولكن علي القول أنني لم أتماهَ ابداً مع قصص الحب المتطرفة في عاطفتها."
اذا كان الرجل في أفلام فيلليني هو القوي المتسلط كما في جزء "الحريم" من
"ثمانية ونصف"، فاقد القدرة على التعبير (الطريق) أو أسير شهواته (مدينة
النساء والحياة جميلة)، فإن المرأة أكثر تعددية في أفلامه وأكثر تعقيداً.
فهي المرأة ـ الام في "ثمانية ونصف" و"مدينة النساء" و"الحياة جميلة"، من
خلال ذكرياته عن "سارايينا" الغجرية (صورة أمومية) وعلاقته بزوجته في الاول
والمربية في الثاني والحبيبة المتفانية في الثالث. ولكن "مادلينا" في
"الحياة جميلة" أكثر تعقيداً أولاً لانها توازي شخصية ماستروياني قوة،
وثانياً لأنها مزيج من البراءة والسقوط الاخلاقي وكأنها انعكاس لشخصية
فيلليني من حيث غربتها ومشاعرها المتناقضة تجاه الحب والجنس. وفي هذه
الافلام، غالباً ما يعاني الزوجان من صعوبة في التواصل والتفاهم، غير أن
الصورة الكاملة للزوجة جسدتها زوجته في الواقع جيولييتا في "جولييت الاشباح"،
فكانت صورة شاملة للمرأة بتعقيداتها وهواجسها وتناقضاتها وأزماتها كما
يقدمها تحديداً في مشهد المرايا. كان "صوت القمر" خاتمة اعماله السينمائية
عام الذي جمع فيه علي نحو ما أساليبه ورؤاه كافة من دون أن يدري أنه الاخير.
بقي مفتوحاً كبقية أفلامه رحلة بدون نهاية.
خلال
أربعة عقود وأربعة وعشرين فيلماً وعشرات الجوائز، كان فيلليني كريماً كما
لم يكن غيره؛ فقد سمح للعالم ان يجعل من حياته وأفلامه مادة ترفيه وتسلية
وإثارة مستمرة. لم ينغلق يوماً على نفسه، فشكل نموذجاً فريداً للفردية
والخصوصية بمعناهما الانساني الاشمل، وتحوّل ظاهرة من حيث إجماع الجمهور
والنقاد وأوروبا وهوليوود على أهميته. اكتشف عشرات الممثلين وقاد آخرين إلى
أهم إنجازاتهم ولكنه ظل النجم الاول في سينماه خلف الكاميرا وأمامها من
خلال الشخصيات التي جسدت جزءاً من اناه. كأنه بذلك كان ضرباً من الخيال
ولكن أصدق من الواقع.
المستقبل اللبنانية في
2
يناير 2009 |