ربما يبدو
السؤال سهلاً من بعيد: لماذا يتأخر الفلسطينيون في تنظيم حضورهم السينمائي
على الساحة الدولية؟ إلا ان عوائق الإنتاج والتصوير والتمويل لا تقل صعوبة
عن ملابسات إقامة مهرجان مقنع فنياً وإعلامياً، خصوصاً في الغرب المسكون
بميله المتين الى ترجيح كفة الإسرائيلي على العربي في كل المجالات، مع ما
ينسحب على ذلك من مضايقات منظورة وخفية على السواء. من هنا كان المهرجان
الأول للسينما الفلسطينية في سيدني أخيراً «فتحاً» معنوياً على أكثر من
صعيد، فجاء الحضور كثيفاً من الجالية العربية ومن الجمهور الأسترالي العريض
ولقيت الأفلام الروائية والتسجيلية إقبالاً متوازناً مما هو غير معهود على
وجه العموم، فالسواد الأعظم من روّاد المهرجانات السينمائية يميل الى
الفيلم الروائي أكثر من الوثائقي، لكن «سخونة» الموضوع الفلسطيني ووجود
أسماء معروفة عالمياً في الحصة التسجيلية جذبا المشاهدين الى كل العروض بلا
استثناء.
افتتح
المهرجان بالعرض الأول لفيلم «عيد ميلاد ليلى» سيناريو وإخراج رشيد مشرّاوي
وبطولة الممثل والمخرج المميز محمد بكري في دور قاض حوّلته الظروف القاسية
الى سائق سيارة أجرة. وفي العيد السابع لميلاد ابنته تصرّ زوجته على وجوده
في المنزل على الأقل عند قطع قالب الحلوى، لكن أبو ليلى يواجه في سعيه
المحموم للوصول في الموعد كل ما يؤخر المواطن الفلسطيني عن تحقيق أصغر
أمنياته في ممارسة حقه بالعيش الطبيعي. ولعل اللافت في هذا الفيلم ان
رسالته الرمزية لا تقل قوة عن تتبعه دقائق الاختناق البطيء الذي تعاني منه
الرئة الفلسطينية منذ أكثر من نصف قرن. وليس غريباً أن يسند دور البطولة
الى محمد بكري بعدما أصبح هو أيضاً واحداً من رموز تلك الرئة المقاومة.
«ملح هذا
البحر» رحلة أخرى في الداخل الفلسطيني للمخرجة آن ماري جاسر، بطولة سهير
حمد وصالح بكري، يروي قصة فتاة فلسطينية اميركية المولد تقرر مغادرة
الولايات المتحدة الى فلسطين المحتلة بحثاً عن إرث تركه لها جدّاها في أحد
المصارف هناك. ثريا في الثامنة والعشرين من عمرها تصطدم بجدران وحواجز
تتخطى العبثية السوداء الى الحد الأقصى للظلم، فما هو حقها لم يعد كذلك ولا
هي عادت قادرة على المطالبة به، بل سرعان ما تحوّل جوازها الأميركي الى ملح
في ماء البحر لمجرّد كونها فلسطينية الأصل. أما عماد المولود والناشئ في
فلسطين فهو بعكس ثريا لن يوفر طريقاً أو طريقة للخروج من بلد لم يذق فيه
سوى المرارة والتهميش وموت الأحبة مذ كان جنيناً. في اللقاء بينهما تصوير
موجع لقطع السرة مع التاريخ حين يبحث الفرد عن خلاصه في خضم واقع طاحن لا
يفسح في المجال قيد أنملة كي يستطيع الأفراد أن يصنعوا حياتهم البسيطة
بعيداً من قمع الظروف.
مقاومة
أخرى مستوردة شكلاً من بلاد العم سام، لكنها نابعة مضموناً من التنوع
الثقافي في الضفة الغربية: موسيقى الهيب هوب التي انطلقت في الحقبتين
الماضيتين من أزقة هارلم وبروكلين السفلى الى مسارح طوكيو ولندن وباريس
فأصبحت فناً شعبياً رائجاً في لغات كثيرة بينها العربية. و «مقلاع الهيب
هوب» واحد من شريطين تسجيليين للمخرج الباكستاني صيت جهالي يتحرى واقع فرق
الهيب هوب الفلسطينية ونتاجها المتشكل من مزيج التهميش والفقر والحاجة الى
التعبير بلغة حاضرة على مائدة العالم المعاصر مهما كان الثمن. ويأتي الفيلم
الوثائقي الثاني للمخرج نفسه تصويراً لصوت آخر بلغة العم سام أصاب العلم
بقشعريرة بدأت في سبعينات القرن المنصرم ولم يخفت نمالها بعد: حوار موسع
زاخر بالصور والرسوم والوثائق البصرية مع الراحل الكبير ادوار سعيد في
أربعين دقيقة أحاطت بزبدة الاستشراق كما رآه واستطاع المخرج من خلالها أن
يضيء على مساحات مثيرة من حياة ونتاج سعيد.
وفي سياق
كبار الراحلين الفلسطينيين قدم المخرجان سمير عبدالله وجوزيه ريتس شريطاً
عن زيارة ثمانية من الكتاب والمثقفين المعاصرين الى محمود درويش على رأسهم
وول سووينكا وراسل بانكس. تحية الى شاعر المقاومة والانتفاضتين الذي أصبح
رمزاً حياً لإرادة البقاء وصورة ناقضة بامتياز للكليشيهات المروجة عن العرب
في العالم.
الحياة اللندنية في 2
يناير 2009 |