صور الموت
تجتاح الشاشات. أشلاء ودماء ودمار في كل مكان. نيران وغارات وجبهات مشتعلة.
أطفال مشردون وأمهات ثكالى وأرامل متشحات بالسواد... إنها فلسطين كما
ترصدها عدسات كاميرات التلفزيون. فلسطين المجزأة التي لا تعرف الراحة
والهناء... ولكن، هل هي الصورة الوحيدة التي ستبقى للتاريخ عن هذا البلد،
وعن شعب هذا البلد؟
نجوى نجار
السينمائية الفلسطينية الشابة تقول «لا» في فيلمها الروائي الطويل الأول
«المرّ والرمان» الذي عرض في افتتاح تظاهرة «ليالي عربية» في مهرجان دبي
السينمائي الدولي. «لا» للبكائيات والزعيق والنحيب. و«نعم» للحرية والأمل
والحياة.
في هذا
الفيلم، وعلى عكس ما قد يتوقع كثر من كل ما هو آت من فلسطين، لا مشاهد موت
ودمار. ومع هذا إنها فلسطين. فلسطين المنسية أو المسكوت عنها... فلسطين
التي تقول نجار تحديداً انها ليست فقط صورة المستقبل المأمول، بل أيضاً
صورة الحاضر لمن يريد ان ينظر جيداً.
ولمن يريد
ان ينظر جيداً، «المرّ والرمان» يصوّر الكثير: الحب والحياة والأفراح،
الوحدة والانكسارات والإخفاقات، الأحلام والرغبات والمخاوف... باختصار
التناقضات، أو بكلام آخر، الحياة، كما هي، بحلوها ومرّها، بأفراحها
وأتراحها... وفي كل الأحوال خيط الأمل لم ينقطع طوال مدة الفيلم.
خبطات على
الأرض
على إيقاع
التحضيرات لحفلة زفاف يفتتح «المرّ والرمان» فصوله، وعلى نغمات الدبكة
وخبطات الأرجل على الأرض يُسدل ستارته. وبين هذا المشهد وذاك تروي نجار
حكاية شعب متعطش للحرية، من خلال امرأة تجد نفسها فجأة وحيدة بعد ان تعتقل
السلطات الإسرائيلية زوجها وتصادر أرضه، فلا تجد ملجأ الا عبر بوابة الرقص
الذي يصبح هنا رمزاً للحرية.
ولكن، هل
يحق لشعب تحت الحصار ان يرقص ويفرح ويحب؟ سؤال قد يبدو مستهجناً للوهلة
الأولى، ومع هذا هناك من طرحه بعدما رأى في الفيلم تشويهاً لصورة فلسطين،
وكأنه كثير على هذا الشعب ان يعيش خارج الصورة النمطية التي ملّت منها
الشاشات. أما نجوى نجار فتجيب: «ان أقدم توق الفلسطيني الى الحب والحرية
ليس تشويهاً لصورة فلسطين، إنما التشويه يأتي حين أقدم فكراً سياسياً
مناهضاً للقضية الفلسطينية. ثم إن قصتي أتت من الواقع، فأنا أعيش داخل
الأراضي الفلسطينية، وشخصيات فيلمي رسمتها في شكل متطابق مع شخصيات أصادفها
في الحياة اليومية. كل ما في الأمر ان المشاهد لم يعتد الا صورة أحادية
تأتيه عبر الفضائيات، من هنا ان أي كسر لهذه الصورة لن يكون مرحباً به
بالكامل». وتسأل: «أما آن الأوان لنقدم صورة أخرى عن فلسطين بعد ان أرهقتنا
مشاهد القتل والدماء والدمار؟ ثم أليس تقديم صورة من واقع حياة أناس
يحاولون العيش كل يوم في ظل الاحتلال، فعل مقاومة في حد ذاته؟».
إذاً، في
فيلم نجوى نجار فعل مقاومة للاحتلال، لا من خلال السلاح والحجارة، ولكن من
خلال الرغبة في البقاء، والأمل في الحياة الذي تجسد في شخصية «قمر» بطلة
الفيلم التي تطورت شخصيتها في شكل تصاعدي، من امرأة لا تعرف قيمة الأرض
وقادرة على التنازل عنها بسهولة - يبدو ذلك في مشهد يجمعها بزوجها الذي
يرفض التوقيع على صك التنازل عن أرضه لجيش الاحتلال مقابل إخلاء سبيله -
الى سيدة متمسكة بالأرض، صوّرتها لقطة معبّرة لها وهي ترقص حافية القدمين
في بستان الزيتون، بعد ان تملّكها ندم لخيانة أرضها أولاً، وزوجها ثانياً.
ولإضفاء
مزيد من الواقع على الفيلم، اختارت نجوى نجار ان تسند الى المحامية
الإسرائيلية ليا تسيمل دوراً ما هو الا دور تسيمل في الحياة، أي محامية
تدافع عن وكلائها. وفي «المر والرمان» تدافع ليا عن حق «زيد» زوج «قمر» في
الحرية والمحافظة على أرضه ضد غطرسة الاحتلال.
ولا شك في
ان اختيار نجار لإسرائيلية - حتى وإن كانت تدافع عن حقوق فلسطين - لن يعجب
كثراً. ومع هذا رأى بعضهم ان هذه الخطوة من الأهمية بحيث تدين إسرائيل اكثر
من أي كلام بطولي أو خطابات رنانة تصدر من أفواه محلية، وبالتحديد لأنها
تأتي على لسان إسرائيلية. أما نجار فتقول: «ليا تسيمل محامية إسرائيلية
معروفة بمناصرتها للقضية الفلسطينية. لذا لم أجد حرجاً في إشراكها في
الفيلم لإضفاء لمسة واقعية على الأحداث. إذ أصور في هذا الفيلم قصة نصادفها
في حياتنا اليومية. وليا تسيمل مثلها مثل عدد من الإسرائيليين مرتبطة
بحكايتنا».
قد يقنع
هذا الكلام بعض من شاهدوا الفيلم، بينما لا يرى فيه بعضهم الآخر الا
تنازلاً من جانب المخرجة «لتسويق فيلمها في الخارج»، ويعزز هؤلاء رأيهم
بـ «اللغة الاستشراقية» المكثفة في الفيلم، والتي تستهدف عين الخارج لا
الداخل.
ولا تنفي
نجار اشتغالها على لغتين في هذا الشريط: لغة الداخل ولغة الخارج، وتقول:
«صحيح، حاولت ان أحكي لغتين في الفيلم، لكنني لم أضع ما تحب كل فئة ان تسمع
إنما ما هو ضروري لسياق الفيلم».
رحلة شاقة
رحلة نجوى
نجار مع «المرّ والرمان» لم تكن سهلة، حتى انها كادت ان تتوقف في منتصف
الطريق بعدما ساءت الأحوال في الأراضي الفلسطينية. والحال، «أجّلت ظروف
البلد المتدهورة كل شيء بعدما كنا حصلنا على إنتاج أوروبي مشترك كبير.
وإزاء هذا الوضع، وقعت شركتنا «أسطورة» في خسارة كبيرة، وشعرت ان المشروع
لن يتحقق الى أن قُبل السيناريو في «ساندنس» عام 2005، وعندها عادت اليّ
الروح». وتضيف: «هذا من دون ان أتحدث عن الصعوبات اليومية التي واجهتنا
أثناء التصوير، خصوصاً ان طاقم الفيلم آت من كل فلسطين، وقد صورنا في القدس
ورام الله وضواحيها، ووقفنا كثيراً على الحواجز على رغم ان الإمكانات تفرض
علينا ان نصور 48 موقعاً في 5 أسابيع... على رغم هذا كله، لا أنكر ان
التصوير كان متعة، خصوصاً مع فريق عمل متميز يضم هيام عباس وياسمين المصري
وعلي سليمان ويوسف ابو وردة وأشرف فرح».
وتروي
نجار كيف ولدت فكرة الفيلم، قائلة: «ولد «المرّ والرمان» كفكرة اولى إبان
الانتفاضة الثانية حين شعرت بوحدة كبيرة كوني مسجونة بين أربعة جدران. وهو
شعور قاد كثراً على رغم الحصار والأوضاع المزرية، الى الانتفاضة على
واقعهم، ولو من طريق خطوات رمزية... فالشعب الفلسطيني شعب حيّ وإلا لما ظل
صامداً كل هذه السنوات على رغم الصفعات التي يتلقاها من كل صوب».
اليوم،
بينما غزة تتلقى الضربات، يطلّ «المرّ والرمان» ليبعث الأمل ويقدم أنشودة
للحرية. من هنا أهمية عرضه خلال هذا الشهر في مهرجان «ساندنس» الذي يعتبر
من أهم مهرجانات السينما المستقلة في العالم، علّ هذا العالم يسمع ان هناك
شعباً فلسطينياً يستحق ان يعيش... ويعرف كيف يعيش.
الحياة اللندنية في 2
يناير 2009 |