المقابلة الآتية أجريتها مع اندره كونتشالوفسكي (1937) في الدورة
الأخيرة من مهرجان مراكش السينمائي حيث كان تكريمه. كنت حضّرتُ
بضع أسئلة في خصوص
فيلمه الجديد "غلوس" الذي أعاده الى الشاشة بعد انقطاع دام نحواً من ست
سنوات. لكن
أخذتنا أشرطة الذكريات وأوضاع السينما في العالم عموماً الى حديث متقطع
النبرة لا
يرعاه أيٌّ من قيود المهمة الصحافية والهم النقدي وشروطهما.
فخلال مجالستي له، رأيت
أمامي سينمائياً مكسوراً بعض الشيء، لم يعد له الكثير ليقول سوى نعي
السينما
والسينمائيين وحتى أولئك الذين يقفون حصناً منيعاً أمام شاشات الاستهلاك.
كان هذا
السلوك متوقعاً الى حدّ ما من سينمائي عاصر كبار
الشاشة السوفياتية وشارك في كتابة
سيناريوات لثلاثة أفلام أنجزها أندره تاركوفسكي بين عامي 1960 و1969. غني
عن القول
إنني لم أوافقه في الكثير من المحاور، رغم تأكيده المتكرر لصواب رأيه،
بدءاً من
اعتبار السينمائي - المؤلف نوعاً من "جثة" امام جبروت
الرأسمالية. وكبرت دهشتي تجاه
آرائه المتسرعة وغير الدقيقة، عندما أكد انه لم يعد يشاهد الأفلام منذ زمن
بعيد،
لأن ليس بالمشاهدة يتعلّم المخرج مهنته. فعلامَ يبني موقفه، سينمائيٌّ
مثله هو في
قطيعة تامة مع الحركة السينمائية، وخصوصاً عندما نتذكر أن السينما هي من
أكثر
الفنون (وهي أحدثها كما نعلم)، التي لا تزال قادرة على التزويج
بين النخبوية
والشعبية، في مسافة لا تبتعد الواحدة عن الأخرى، ولا ريب أنها أكثرها اليوم
قدرة
على انتاج الكنوز الثقافية؟ كيف ينعى كونتشالوفسكي السينما وهو غادرها منذ
فترة
ليست بقليلة، صناعةً ومشاهدة؟ هذا هو السؤال الذي كنت اريده ختاماً لحديثنا
لولا
توافر المزيد من الدقائق... واذا كانت السينما اليوم بألف خير،
خلافاً لما يراه
كونتشالوفسكي، فليست هذه حال سينماه، وهذا ما يتبدى جلياً من خلال فيلمه "غلوس"
الذي يروي قصة فتاة تحلم بأن تصبح عارضة أزياء. لكنها، ومن دون أن تمتلك
أيّاً من
المقومات المطلوبة لمزاولة تلك المهنة، تصعد صعوداً استثنائياً
الى قمة الـ"جت ست"
الروسي. فيلم متواضع لمخرج قدير عن زمن بكامله في صورة فتاة. يغدو من
الواضح بعد
مشاهدته، أن صاحب "سيبيرياد" (1979) الذي اجتاز مراحل عدة من مسار مجيد،
فيه صعود
وهبوط، قبل أن يغادر ملهمته روسيا ليرسو عند شواطئ هوليوودية أقل اماناً،
بات يعيش
اليوم زمناً مضطرباً يحمله على التأفف.
·
قل لي، ماذا تغيّر في حياتك بعد
حصولك على الجائزة الكبرى لمهرجان كانّ
عام 1979 عن فيلمك "سيبيرياد"؟
-
لا شيء اطلاقاً. هذه الجائزة كانت مهمة
للأوروبيين والاميركيين والغربيين عموماً، لكن لم تكن ذات أهمية كبرى
بالنسبة الى
الروس. على كل حال، كنت مستاء من حصولي على هذه الجائزة، لأن عيني كانت على
"السعفة
الذهب"! لا شك انني كنت متعجرفاً وفي مقتبل تجربتي. كنت اريد، على الاقل،
أن اتقاسم "السعفة"
مع كوبولا [حازها عن فيلمه "القيامة الآن" مناصفةً مع شلوندورف عن فيلمه "الطبل"].
واذكر انذاك انني قلت لشلوندورف انه افسد عطلتي الصيفية (ضحك).
·
جاءت بداياتك تحت تأثير فيلم
روسي كبير هو "عندما تمر اللقالق" لميكاييل كالاتزوف
الذي كان نال "السعفة" عام 1958. ربما لهذا السبب...
-
لا، لا اعتقد ذلك. كنت
أؤمن بأنني صنعت فيلماً جيداً. حتى كوبولا قال لي "أنني أقبل أن أتشارك
الجائزة
وإياك". كان "سيبيرياد" صعب الانجاز وتطلب مني اربع سنوات من العمل
المتواصل.
النسخة الاولى للسيناريو بلغت مدتها خمس
ساعات. وكان ينبغي ان احذف منه كي لا
يتجاوز الفيلم الساعات الثلاث. في النهاية وصلت الى كانّ ومعي
فيلم مدته ثلاث ساعات
وعشرون دقيقة. كنت اعتقد ان هذا الفيلم هو بالنسبة اليَّ شيء هائل، بقدر
عظمة "1900"
لبرتوللوتشي، ربما ليس بعظمته الفنية، انما... اليوم صرت أجد مثل هذا
السلوك
طبيعياً. انه سذاجة فنان. الفنانون أصحاب "أنا" لا تطاق أحيانا.
·
كيف كنت
تشاهد هذه الكلاسيكيات. هل كانت تُعرَض في الاتحاد السوفياتي
آنذاك؟
-
وحدهم
الطلاب كان يحق لهم مشاهدة تلك الأفلام. لم تكن توزَّع في الصالات. نحن
تسنى لنا
مشاهدة كل كلاسيكيات السينما الاوروبية.
·
تعاملت مع اندره تاركوفسكي. ماذا
ترك
فيك الراحل الكبير؟
-
لم أتأثر به ولم يتأثر بي. تعاملنا معاً فحسب. كنت
معاوناً له وكنا نتعارك كثيراً. قمنا بالكثير من الحماقات
معاًً. كنا شباباً. وبعد
ثلاثة افلام انجزناها معاً، انفصلنا، لأن كلاً منا سلك طريقاً مغايرة لطريق
الآخر.
في مرحلة ما، بدأت أشعر أنني لم أعد اتعرف
الى اسلوبه والى الأشياء التي صنعته في
بداياته الاولى. آليته السينمائية باتت غريبة وقائمة على
المطولات، وعميقة جداً،
وهذا ما كان يثير مللي. هذه المشكلة كانت قائمة عنده منذ "أندره روبليف"،
مع ان هذا
الفيلم كان مختلفاً الى حدّ ما عن أفلامه اللاحقة، سواء في ايقاعه او لغته.
حين كنت
أوجّه اليه ملاحظة، قائلاً له إن أفلامه بطيئة وطويلة جداً،
كان يردّ قائلاً: أنت
لا تفهم! هذه كانت طريقته في العمل وأنا أحترمها، واستطاع ان يحول اسمه
صفة، اذ
اليوم بتنا نسمع عبارة "على الطريقة التاركوفسكية".
·
ألا تعتبر نفسك من
السينمائيين الذين يجعلون اسلوبهم يتماشى مع ما تفرضه عليهم القصة؟
-
أعتقد أن
اللغة شيء ثانوي. الخطورة ان نصبح اسرى لها. على اللغة، في رأيي، أن تبقى
في خدمة
المضمون. سينمائيون مثل يوسيلياني مثلاً يعتنون بلغتهم، واكاد أقول انهم لا
ينجزون
الأفلام الاّ من اجل تلك الغاية. وآخرون لا يهمهم الا ما
سيروونه. خذ فيلليني
مثالاً: انه لا يملك لغة سينمائية. أفلامه تمنح دوماً الانطباع بأنها حفلات
أو
مهرجانات. قد يكون مهرجان كارثة أو مهرجان رعب أو مهرجان حبّ. لكنها دوماً
مغلّفة
بالطرافة والموسيقى. يبقى هو مرجعي الأكبر، والعبقري الذي استلهم منه لأنه
قادر أن
يروي قصة فيها الكثير من الفرح والبهجة، حتى في زمن موسوليني.
·
سُلِّط عليك
ايضاً سيف الرقابة في زمن الاتحاد السوفياتي، أليس كذلك؟
-
للأسف، لم تعد هناك
رقابة علينا اليوم.
·
ج...
(!).
-
كان النظام انذاك يعطينا المال من جهة
ويشرّع الرقابة من جهة أخرى. في ظلّ ذلك النظام انجزنا روائع السينما
الروسية. ماذا
حلّ بنا اليوم؟ أعتقد أن هذا شأن عالمي وليس شأناً سوفياتياً أو روسياً
بحتاً. لم
يعد للسينما الدور الذي كان لها في منتصف القرن العشرين او في
نهايته. وهذا شأن
الأدب ايضاً. حتى ديموغرافيا المستهلك تغيرت بعد "حرب النجوم". عندما كنا
ننجز
الأفلام في الستينات والسبعينات، كنا نتوجه الى مشاهدين يقرأون كتّاباً
كباراً.
السينما اليوم باتت شأن المراهقين. من هم في الاربعين لم تعد أقدامهم تطأ
الصالة
المظلمة. تغيّر دور السينما لأن المراهقين لا يريدون أن يمعنوا في التفكير
والمضي
خلف أسئلة الحياة الكبرى. صار التفكير وقفاً على الطاعنين في السنّ. اليوم
نعيش في
ذروة زمن "الانترتنمنت".
·
العالم بأسره تأقلم مع هذا
الواقع الجديد باستثناء
روسيا.
-
الجميع في هذا المأزق. حتى الفرنسيون بدأوا ينجزون أفلاماً تجارية
استعراضية على النسق الأميركي الهوليوودي. ثم ان هناك ظاهرة
أخرى اليوم تضرب
السينما الفرنسية وهي ظاهرة الرقابة، اذ، مع استثناءات قليلة، لا تجد
أفلاماً تهاجم
الاليزيه، وتراهم لا يتناولون الا مشكلات الفرد والعائلة ومواضيع ايروتيكية
معينة.
السينما الفرنسية موجودة لأن الدولة تدعمها ضمن سياسة تمويلية غاية في
التعقيد. من
جانبي لم أنجز يوماً فيلماً يناهض السلطة، لم أكن استطيع ذلك، لم يكن
ممكناً، لكني
أنجزت فيلماً عن فلاح تمت مصادرته. شيء آخر ينبغي قوله هو أن المناخ العام
المهيمن
على الوسط السينمائي لا تحدده فقط السياسة انما أيضاً الجمهور.
وفي رأيي أن هذا
الجمهور اليوم بات ينجرّ الى الاشياء السطحية. أعداد هائلة من الناس تمت
"أمركتهم"
على يد الأفلام الأميركية. مَن اعتاد مشاهدة "قراصنة الكاريبي" لن يهمه أن
يتعرف
الى حياة فلاح في قرية نائية.
·
ماذا عن أوضاع السينما الروسية
وأحوال
المشاهدين؟
-
الأحوال متشابهة الى درجة كبيرة في كل اصقاع الكرة الارضية. ما
يريده الروس اليوم هو إما انجاز أفلام تكون تقليداً طبق الاصل
للأفلام الاميركية
ذات الانتاجات الضخمة (وطبعاً من دون أن يصلوا الى جودة الأميركيين في هذا
المجال)،
وإما افلام سوداء غريبة عجيبة لا تمتلك احتمالات النجاح. ثمة شباب اليوم
يغوصون في
الشغل السينمائي من دون أن يكون عندهم ادنى فكرة عن ماهية السينما. في ظلّ
هيمنة
السينما الأميركية ذات الانتشار الواسع، بات من الصعب انجاز
سينما روسية وارضاء
المشاهدين الروس بها. هناك مشاريع اقتباس كثيرة في بالي. لكن السؤال الذي
اطرحه
دوماً قبل مباشرة أي عمل: من سيشاهده؟ يجب ان نفهم ان أي بذرة تقع في أرض
يابسة
وجافة لن تثمر. أعيد وأكرر: نسبة عمر المشاهدين تدنّت،
والمراهقون لا يريدون الاّ
التسلية. إذا أُعطيتُ اليوم إمكان ان اقتبس "الاوديسة" لهوميروس بموازنة
200 مليون
دولار ومن بطولة براد بيت، فهذا يعني حتماً انني لن انجز سوى سلسلة مشاهد
حركة
بليدة على قدر عال من الغباء. يقال لي أحياناً "على الفنان أن
يناضل، وأن يفعل كذا
وكذا وكذا". أما أنا فأقول إن زمن الفنانين الطاهرين انتهى.
فنّانو الامس هم حرفيو
اليوم. ثم لا ينبغي المغالاة في تعظيم دور الفنان وتحميله ما لا يستطيع.
الفنّ لم
يعد يضطلع بالدور الذي كان يضطلع به سابقاً. حال الجوارب التي نلبسها وحال
الفنان
متشابهتان الى حدّ بعيد؛ كلاهما يحاول الصمود.
·
رغم ما تقوله، فأنتَ، ومن أجل
إنجاز "تانغو وكاش"، تعاونتَ مع ستالون الذي يجسد رمز السينما الهابطة...
-
طبعاً، طبعاً، اذا انتقدت شيئاً، فهذا لا يعني انني لن أفعله. لن اتوانى عن
انجاز
فيلم تجاري، فقط لأسباب مالية. لكن انتبه. فليس كل ما أنجزته في اميركا كان
لجني
الارباح. هناك "عشيق ماريا" مثلاً او Runaway train.
·
هل نستطيع ان نصف اقامتك
في الولايات المتحدة بالمنفى؟
-
لا اظن ذلك. اعتبارها كذلك سيكون مجحفاً. ذهبت
بعيداً عن روسيا لأنني كنت اريد ان اتمتع بالحرية. ولا اتكلم عن الحرية
الابداعية
انما الحرية في التحرك والسفر. وكي اسافر حيث اشاء كان ينبغي أن يكون معي
المال،
وكي يكون معي المال كان ينبغي أن أخرج لأعمل خارج روسيا. كنت
مهتماً بالسفر، وكنت
اريد أن ارى هوليوود وباريس والمغرب...
·
في أيٍّ من المسارين استطعتَ أن
تواجه
الأسئلة السينمائية الشائكة: المسار الروسي أم الأميركي؟
-
لا وجود لمسارين في
حياتي. المساران متلازمان ولا ينفصل الواحد عن الآخر. مساري يعكس طريق رجل
يأتي من
تركة ثقافية عالية جداً، وعمل حتى عمر الـ42 داخل نظام معقد جداً، وأراد
فجأة أن
يخرج من بلاده حباً بالمعرفة والسفر والاكتشاف، فغيّر جواز
سفره وانطلق في تجربة
أخرى. لو كان في مقدوري آنذاك ان اتنقل على راحتي، كما هي الحال اليوم،
لكنت بقيت
في روسيا.
·
ما رأيك بسينما شقيقك نيكيتا
ميخالكوف؟
-
انه لسينمائي كبير.
كفيلسوف، لا اوافقه الرأي. لا اشاركه نظرته الرومنطيقية الى روسيا، لكوني
أكثر
تهكماً على أوضاع بلادي وتاريخها.
·
سمعت انك لا تتابع الحركة
السينمائية في
العالم وما يعرض هنا وهناك؟
-
لست سينيفيلياً. لا أعرف السينما جيداً ولا أذهب
الى الصالات الا نادراً. صديق كاتب لي كان يقول لي "لا يكفي أن
تقرأ الكتاب المقدس
ودوستويفسكي كي تتعلم الكتابة". لذا، ليس من المفيد دوماً ان نشاهد كل شيء.
أفضّل
أن اعيد مشاهدة الأفلام التي صنعتني سينمائياً، من فيلليني الى برغمان
مروراً
بكوروساوا وبونويل.
·
اذاً، نستطيع أن نقول انك من
السينمائيين الذين يستلهمون
من الحياة أكثر من كونهم يستلهمون من السينما؟
-
بالتأكيد. للمناسبة أنا لست
سينمائياً بل مخرج، لكوني أنجزت مسرحيات واوبرا وسيركاً وميوزيكلات. في
العمل أنا
شبيه بالقرد: مقلّ وفضولي. بعض السينمائيين يقدّمون أعمالاً اوبرالية على
خشبة
المسرح من حين الى آخر. انا نقيضهم: مخرج مسرحي ينجز الأفلام
السينمائية.
نقد
"الرأسمالية: قصة حب" لمايكل مور على الشاشات
المحلية
عــــودة نــرســيــس الادانــة
لا يمكن اعتبار مايكل مور عبقرياً في زمن كالذي
نعيش فيه الآن. فالكاتب والسينمائي الذي يدين الرأسمالية في أحدث أفلامه
ادانة
رعناء وشعبوية، لا يزال ينقسم العالم عنده بين أوغاد وأشرار من جهة ومساكين
من جهة
أخرى. لا تتوقف المصيبة عند هذا الحدّ، اذ تأخذه بساطة روحه
ودعابته الى اعتبار
نفسه رسولاً ومخلّصاً للعالم الحرّ. لا شك اننا في صحبة أحد أشرس العقول في
قدرته
على التلاعب بالرأي العام، لكن اسلوبه عقيم لا يفيد في شيء على الاطلاق الا
للاستعراض وجعل "الانا" وذاتيته المرضية مركزاً للكون.
في "فهرنهايت 11/9"
بدا مور صاحب نظام فكري "شرير" وعمق وتطرّف وسخرية. كان ولا يزال له غايات
اتهامية،
تخريبية، وانتقامية، تتخطى السينما وجمالياتها وأحياناً لا يأبه لها. انه
واحد من
الذين يقفون وراء الحملات المسعورة على "السموم الاميركية"
المرمية في أنحاء
العالم. يشتمّ رائحة مؤامرة أينما حشر أنفه.
في بداياته بدا مشيِّعاً كبيراً
للنكتة، عاشقاً للعدالة، نرسيسياً فائق الهيبة، سيّد حرفة وأسلوب، نسيج
وحده بين
سائر أقرانه. هكذا كان مايكل مور: مراوغ أحياناً، لكنه صادق وفعّال في
المحصّلة،
لأنه كان يطرح التساؤلات الكثيرة والكبيرة. وعندما يصوّر
ترّهات السياسة، فذلك
ليثبت بوقاحة وتهكّم مقزز، عالماً يعيش خراباً ايديولوجياً وسياسياً لا
يفلت من
عقابه حتى البلد الذي يصدّر هذا الخراب. يمضي في التأكيد ان الحرب لا تأتي
دوماً من
حاجة اقتصادية، بل من تشبث وهمجية، ولا يتردد في ان يسأل اعضاء الكونغرس
الاميركي
ما إذا كانوا مستعدين لإرسال اولادهم الى الحرب الدائرة في
العراق. هذا هو أمير
التناقض م. م. سينماه مثل "الكف" التي تنزل على وجه مبلول، مثل الفتنة التي
تتسلل
ببطء.
لكن مايكل مور أمس (زمن "روجر وأنا") شيء ومايكل مور اليوم شيء آخر.
فمشكلته انه طرف منذ اللحظة الاولى، ويختار معسكره حتى قبل الذهاب للتنقيب
في
الحقائق. الحقائق؟ هذا أكثر ما يسخر منه مور، كونه يعرفها حتى قبل أن يحرك
اصبعاً.
مثل كل مواطن يدفع ضرائبه بانتظام ويلتزم القوانين، يرى مور انه يحقّ له ان
يعترض
والاّ يمشي في محاذاة الحائط، مثلما يفعل معظم الاميركيين المنشغلين بالأكل
والشرب
والنوم. بثقة بالنفس لا تقاس، يسمح مور لنفسه بأن يشيع قلقه
الفردي الاسود على بياض
الشاشة، ولا يتوانى عن القفز الى حيّز المبالغة والتطرّف واطاحة الاكذوبة
والمبالغات والاسقاطات ضمن الظروف الملائمة، لتنمو وتتضخم،
وتصبح تالياً سهلة
الابتلاع. اهذه هي السينما الوثائقية "الشعبية"؟ اسألوا فريديريك وايزمان!
"الرأسمالية:
قصة حبّ"، الذي عرض في مسابقة مهرجان البندقية في أيلول الماضي،
ينغمس في شؤون أميركا وشجونها أكثر مما ينغمس في الاماكن البائسة حيث فعلت
الرأسمالية فعلتها على مر السنين. مرة جديدة نحن أمام شريط
يرينا فيه مور مدى تأثير
الرأسمالية في أحوال الأميركيين، ولا سيما الفقراء منهم، الذين أكلهم هذا
النظام
المتوحش لحماً ورماهم عظاماً. مرة أخرى، يحتمي مور بالضعيف وبحجته ليصنع
فيلماً أقل
ما نستطيع القول فيه انه قائم على لعبة ديماغوجية ما بعدها ديماغوجية. وهذا
رأسماله
في كل حال. طبعاً، ككل فيلم لمور، ليست الموضوعية خبزه اليومي
وشغله الشاغل. فهو
مخرج قصاصات ورق في المرتبة الاولى، وكلنا نعلم كيف يمكن توليفة من هنا
ومداخلة من
هناك أن تغيّر الرأي العام. لا مشكلة عند مور في جعل السواد بياضاً، او
العكس، ما
دامت نيته هي ادانة من يعتقد انهم اعداء البشرية. للمناسبة،
الرأسمالية لا يمكن أن
تكون عدوّه اذا كان يجني الملايين من الدولارات من فيلمه هذا ومن الفيلم
الذي سبقه.
لا مشكلة عند مور في جعل السواد بياضاً أو العكس، لأن الهدف عنده يبرر
الوسيلة.
لكن خطابه عن أميركا، البلاد المتحولة يوماً بعد يوم، وبأسرع ما يمكن، بات
قديماً
من شدة ثباته على معتقد واحد ووحيد. أما الآلية فبدأت تلهث من شدة دورانها
في فراغ.
الغريب أن مور لا ينتبه الى مشكلة ان ما سيقوله مكتوب على جبينه سلفاً. صار
يبدو
كممثلي البرامج الخفية الذين تنكشف لعبتهم، ورغم ذلك يتابعون التلاعب
بالناس. من
فيلم الى آخر، ينام مور على فكرة ويصحو على الفكرة عينها؛
بالنسبة اليه، أميركا هي
أسوأ البلدان في العالم، لكنه لن يغادرها ولن يتركها في يد من يستغلون طيبة
الشعب
الاميركي وعدم اطلاعه على الحقائق. تفصيل صغير لا ينتبه اليه مور ايضاً، هو
أنه على
الاقل يُسمح له بإنجاز أفلام كهذه يتجند في سبيلها ما يلزم من أبواق
اعلامية. في
نهاية الفيلم نرى مور يضرب طوقاً أمنياً حول مبنى البورصة في
نيويورك، مثل تلك
الاطواق التي تضرب حول ساحة الجريمة. ماذا كان مصيره ليكون لو فعل ذلك في
أي بلد
آخر؟ رغم هذا كله، لا نضع نظافة كفّ الرجل على المحك. مسألة إنصاف مور
مسألة
معقدة، اذ يتداخل فيها السياسي والفني، الشخصي والعام، وما
نعرفه ونجهله. لكن
الأكيد أن السينما تحتاج الى رأسمال أكثر من مجرد الصدق!
hauvick.habechian@annahar.com.lb
مهرجان
خمسة أيام تردّ الإعتبار الى أجمل الفنون المركبة في
"متروبوليس"
بيروت تتحرك بالرسوم والغرائبيات!
في بيروت هذه الأيام، مهرجان يتحمس له كثيرون، يستمد
وجوده من هذا الهامش الضيق المعطى لسينما التحريك في الصالات المحلية.
مهلاً. لا
نقصد السائد من أفلام التحريك الهوليوودية، على رقيّها وذكائها ونبوغ
معظمها، بل
نتكلم عن أمثال ميازاكي وتلاميذه ومحبيه ومن اتخذوه مثالاً
لسينما تحريك تخاطب عقول
الراشدين، وليس من هم دون سن الرشد والفهم. ولأن هذه العاصمة كانت دوماً
تأتي
بأفكار رائدة، فقد كان على أحد، عاجلاً أو آجلاً، أن يبادر الى هذه الخطوة
المبتكرة. وها هي تجيء من أطراف نتوقع منهم مثل هذه الخطوة:
"بيروت دي سي"
و"متروبوليس" ومجلة "السمندل".
المناسبة التي اكتست طابعا مدينيا وأطلقت على
نفسها اسم "بيروت متحركة" (16- 20 الجاري) خطوة رائدة بالتأكيد، اذ لا
احصاء عن عدد
المهرجانات التي تعنى بالتحريك في العالم العربي، وهذه المهرجانات هي ربما
غير
موجودة اصلاً بحكم عدم وجود انتاج لأفلام تحريك تجارية في
بلدان هذه المنطقة. أضف
الى ذلك، أن هذا الفنّ الصعب الانجاز، والذي يتضمن محطات مضيئة في مساره،
لا ينفك
يعاني تصنيفاً غير عادل في عقول الناس، اذ يعتبرونه للأولاد ولتسليتهم بعد
عودتهم
من المدرسة او قبل الذهاب اليها. واذا كان الغرب تجاوز هذا
التصنيف الى درجة كبيرة،
فالطريق لا تزال أمامنا طويلة لإقناع المشاهد المحلي بأن أفلام التحريك
كثيرة
وتتجاوز السينما المعمولة من لحم الناس ودمهم، أفكاراً وعظمة فنية وقدرة
على طرح
قضايا.
اذاً، أهل المدينة اليوم يرافقون ولادة مهرجان نأمل ان يكون صاحب مشروع
ورؤية لتحضير الارض الملائمة لسينما تحريك جادة، حتى لو بدا
المهرجان للوهلة الاولى
متواضعاً ومحصوراً وهامشياً، فليكن كذلك لأن العالم السفلي هو المنشأ
الحقيقي
لسينما التحريك. لم يعكس افتتاح الدورة الاولى، الاثنين الفائت، الا هذه
الغرائبية
التي يسعى خلفها كل من يعمل في هذا الفنّ الباهظ التكلفة، من
ميازاكي الى بلانتون،
مروراً بلاسيتير. مهما جُرّدت سينما التحريك من الأفكار النيرة والرسوم
المدهشة،
وصارت سطحية وفارغة، فهي تبقى شيئا يصعب على المتلقي التماهي معه. فما بالك
اذا
وُضعت قرابة ثمانين دقيقة أمام غرائبية من تلك التي صنعتها
الأميركية نينا بايلي في
فيلم الافتتاح "سيتا تغني البلوز". خيار جريء ومبهج جعلنا ننسى أن الفيلم
لم يُعرَض
الا بنظام "بيتا أس بي" وليس بالـ35 ملم.
هذا النشاط الذي سيلتفت ايضاً الى عدد
من أفلام التحريك القصيرة، اليوم وغداً، تربّع في أعلى ملصقه الاعلاني رجل
حديد
يأتي من ماضٍ أليم اقترن اسمه بطفولة جيل الحرب. هذا الرجل هو غراندايزر
الذي
استعادت مسلسلاته أخيراً احدى المحطات التلفزيونية المحلية. لا
شك أن وجوده لا
يوازي بونيو ميازاكي وبطلة فيلم بايلي، لكن الرسالة وصلت، وكذلك محاولة
المنظمين
توجيه اشارة الى أكثر من جيل؛ اشارة للقول إن التحريك في امكانه أن يتغلغل
ايضاً
الى الذاكرة الجماعية من دون أن نشعر.
دورة أولى وأخيرة أم مشروع واعد؟ ردّ
اعتبار حقيقي لأجمل الفنون المركّبة أم نزوة موسمية؟ هذا ما سنكتشفه في
المستقبل
اذا كُتب لهذا الموعد الاستمرار والحياة. ما نعرفه حتى الآن أن بيروت تتحرك
فعلاً
مع "بيروت متحركة"، وفي الاتجاه الصحّ.
(•)
للمزيد من المعلومات عن جداول العروض، ندعوكم الى زيارة الموقع
الآتي
www.metropoliscinema.net
خارج الكادر
صاحب الـ90 ربيعاً!
جان بيار غو
بيلوتان. أين صار هذا الناقد - المدرسة؟ أعرف انه لا يزال حياً يرزق.
وأتمنى له
حياة "طبيعية" نشطة، كما اعتاد ان يعيش، رغم بلوغه التسعين من
العمر. لكن هل هناك
مَن يستطيع ان يقول لي مما يتكون تقاعد رجل أمضى 86 عاماً من وجوده على هذا
الارض
وهو يركض من صالة مظلمة الى أخرى؟ وكيف يعيش رجل ديناميكي ومرح عزلته في
بلاد ليس
له فيها اي مجد مهني؟ ألا يزال في منزل ابنته في باريس، أم
غادر الى مونبيلييه
بالقرب من ابنه؟ لن أعرف، لأنني لم أجرؤ يوماً على رفع السماعة ومكالمته
هاتفياً.
رقمه عندي ولكني أخاف. أخاف أن اسمع صوته
مجدداً بعد 4 سنوات، فقد يكون هذه المرة
خافتاً الى حدّ الصمت! أخاف أن أكلمه عن فيلم جديد لا يكون قد
سمع به!
انه "استاذ"
جيل كامل من السينيفيليين اللبنانيين. الوالد الروحي غير المتوج. تعلمنا
القراءة ونحن نقرأ له. تعلمنا الكتابة ونحن نراه يكتب اسبوعاً
بعد اسبوع في صفحات "لوريان
لو جور". حتى بعد مرحلته العقيمة، واعتناقه "التقليدية" مَخرجاً الى النقد
السليم أخلاقياً وسياسياً، ظللنا نتابعه بشغف. منه تعلمنا العصامية
والاصرار
والتشبث. وهو بدوره تعلم هذه الصفات من والدته العصامية والمغرمة بالسينما.
فمن
كثرة ما كان هذا الصبي يرافق امه الى الصالات المظلمة، انتقلت
اليه "اللوثة". في
بوردو الفرنسية، حيث ولد وترعرع، "ابتلع" كميات كبيرة من الصور تسلسلت طوال
سنوات
قبالة عينيه. صور كانت آنذاك صامتة، فأثارت دهشة الولد، وساعدته في ادراك
الطبيعة
البشرية وتركيبتها، وطوّرت لديه الحس الجمالي والنقدي، تاركةً في وجدانه
أثراً
عميقاً. مع نشوء السينما الناطقة، ازداد اهتمامه بالفن السابع،
وكان الى متابعته
الدراسة المدرسية، يرتاد مع صديق
له الصالات المظلمة، وأعدّاً معاً مطبوعة متواضعة
كانا يكتبان فيها آراءهما عن الافلام، وكانا القارئين الوحيدين
لهذه المجلة.
هكذا بدأ مشوار دام ستة عقود امضاها الرجل في مزاولة مهنة تقتضي مشاهدة
الافلام
وأخذ موقف سلبي او ايجابي منها. أيّ مهنة هذه، أن تقبض مرتباً
في مقابل أن تشاهد
الأفلام وتنقدها؟ "غو" (اسمه عند المقربين منه) جعل منها مهنة. وهو الاول
في لبنان
صنع منها مهنة حقيقية. الدرب الذي سلكه مؤسس النقد السينمائي، يداً بيد مع
الراحل
سمير نصري، يمر من حيث مر تاريخ السينيفيلية اللبنانية التي عاشت ايام عز
في زمن ما
قبل الحرب التي قسمت هذه البلاد وفرّقت رواد الصالات المظلمة
الذين اعتادوا التجمع
تحت سقف واحد. "غو" كان شاهداً على تلك المرحلة، وهي حقبة حكى لي قسماً
كبيراً
منها، وكان لها خصوصيتها في تاريخ لبنان والمنطقة.
"غو"
ساهم في ان نرى العالم
على نحو اوضح، وساعدنا في فهمه فهماً افضل، وهو يستحق حتماً لفتة تكريمية
قبل حلول
الوقت الأخير.
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
19/11/2009 |