تطورت التقنيات السينمائية في السنوات الأخيرة بصورة مضطردة ومتنامية إلى
درجة باتت تجعل ما تستطيع إنجازه يفوق التصور. إن استيعاب هذه التقنيات
المتنوعة والسيطرة عليها والإبداع في استخدامها أمر لا مناص منه من أجل
تحقيق فيلم ناجح، ولكن مع ذلك هناك تقنيات أخرى مهمة أكثر بساطة وأقل كلفة
ولا يشكّل امتلاكها أية صعوبة، تقنيات صغيرة، لكنها، إن لم تؤخذ بعين
الاعتبار فسيعجز الفيلم عن تقديم صورة صادقة مقنعة مؤثرة حتى ولو استخدمت
في الفيلم تقنيات متطورة.
هذه التقنيات الصغيرة وبعضها بدائي مستخدم منذ زمن طفولة السينما تبقى
الأساس الأول الذي يشيد فوقه معمار الفيلم وامتلاكها وامتلاك وتراكم خبرات
استخدامها وتوفر خبراء متخصصين في مجالها أمر لا مناص منه ويشكّل المهمة
الأولى الملقاة على عاتق المبدعين. بعض هذه التقنيات يتعلق بالمهارة والدقة
الحرفية “استخدام سليم للكاميرا وتسجيل الصوت، مثلا”، بما يؤدي إلى
المصداقية والإقناع والتأثير، وبعضها الآخر يتعلق بالمنجز الفني التعبيري
والجمالي.
بالنسبة لصناعة السينما في بلدان العالم الثالث بعامة والأقطار العربية
بخاصة، فقد كانت التقنيات وحتى توفر إمكانية اقتنائها، مشكلة حقيقية منذ
بداية التعامل مع السينما، فهي كانت أمرا جديدا مستوردا بالكامل، على
العاملين في صناعة الفيلم أن يتعرفوا عليها وأن يتعلموا كيفية استخدامها
وأن يتدربوا عليها كثيرا كي يكتسبوا، على الأقل، الخبرات الحرفية الأولية
اللازمة لصناعة الفيلم، وذلك حتى قبل أن يتمكنوا من إتقان استعمالها من أجل
الوصول إلى منجز فني وتجسيد حالة إبداعية. شكّل هذا الواقع على الدوام
عنصرا من عناصر الأزمة البنيوية للسينما العربية، في مستوياتها الفنية
والإبداعية، وهي أزمة لم تقتصر على البدايات، بل استمرت عبر مراحل تطور هذه
السينما وصولا إلى الزمن الحاضر والذي بدأت هذه الأزمة تتعمق وتتخذ أبعادا
جديدة مع دخول صناعة الفيلم مرحلة السينما الرقمية، ذلك أن الحديث عن
التقنيات السينمائية بات يتطلب تقسيمها إلى قسمين.. القسم الأول يمثل
التقنيات الأولية الضرورية لصناعة الفيلم والمهارات الحرفية الملازمة لها،
مثل الاستخدام السليم للإضاءة وتسجيل الأصوات وهندسة الديكور والمناظر
والمكياج والأزياء وغير ذلك من عناصر تشكّل ركنا أساسيا من تقنيات الفيلم،
ناهيك عن التقنيات الخاصة بالإبداع في حد ذاته من حيث تقنيات كتابة نصوص
السيناريو والإخراج والتمثيل والمونتاج، وغير ذلك من النواحي التي تعتمد
على المهارات والخبرات الشخصية.
وبالنسبة للسينما العربية بالذات، فإن المشكلة الأساسية التي تجابهها من
الناحية التقنية، تنتمي حتى الآن إلى القسم الأول، أي أنها لا تزال بحاجة
إلى المزيد من امتلاك التقنيات و اكتساب الخبرات المتطورة اللازمة لصناعة
الفيلم، وفي هذا المجال تحديدا، يبدو أن السينما العربية المعاصرة قد قطعت
شوطا كبيرا في اتجاه اكتساب المهارات الحرفية اللازمة، وقد عكس هذا الأمر
نفسه عبر تحسن المستويات الحرفية والفنية الإبداعية للأفلام العربية
الحديثة التي يحققها المخرجون العرب الشباب في كافة أقطارهم، وصولا إلى
نوعيات فيلمية تجسّد حالة إبداعية حقيقية تعتمد على طموح وجرأة المخرجين
على خوض غمار التجريب والتحديث والاستفادة من أحدث المنجزات التقنية، لا
سيما منها التقنيات الإلكترونية، حيث صار العديد من المخرجين يستخدمون اكثر
فأكثر هذه التقنيات الإلكترونية.
تضع السينما الرقمية صانعي الأفلام العرب أمام إشكاليات متنوعة منها أن
التقنيات الرقمية ألغت الكثير من وسائل التقنيات القديمة لكنها لم تلغ
بالمقابل الحاجة إلى إتقان التقنيات الأساسية المرتبطة بصناعة الفيلم
التقليدية، هذا في حين لا تزال ثمة حاجة لاكتساب الخبرة في التعامل مع
التقنيات الرقمية، ومنها أن العالم بات لا يكتفي بالنوعية الجيدة تقنيا من
أفلام العالم الثالث خاصة، بل بات يبحث فيها عن الخصوصية والأصالة التي
تنتمي إلى أمة معينة وتعبر عن روحها فيسهل تمييز انتمائها إلى الأمة.. إلى
ثقافتها أو حضارتها فتضاف هذه الأفلام إلى إنجازاتها. وثمة أفلام تنتج في
كافة أرجاء العالم، لا تحمل بالضرورة خصائص تربطها بأمة محددة أو بتراث
حضاري بعينه، غير أن ثمة ما هو مشترك يجمع ما بينها وهو أنها تتشابه في
كونها تعبر عن روح العصر وعما هو مشترك بين البشر، لذلك يتقبلها المشاهدون
في مختلف الأمكنة ويعتبرونها غير غريبة عنهم، بل إنها تعبّر عن عالمهم، هذا
مع الأخذ بعين الاعتبار أن مفهوم الأصالة لا يقتصر على الهوية الثقافية
عامة، بل أيضا يشمل الخصوصية الإبداعية لمخرج الفيلم، لهذا تصبح الأصالة
قضية رئيسية أمام السينما العربية الجديدة إن أرادت أن تحجز لها موقعا في
خريطة السينما العالمية.
الخليج الإماراتية في
31/10/2009 |