في دورته الثالثة عشرة هذا العام (10 - 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2009) خرج
«مهرجان
الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية» على تقليده المعهود في كل دوراته
السابقة ولم يكرم واحداً من السينمائيين التسجيلين الأحياء. وكان على حق في
الخروج
على هذا التقليد هذه المرة، فقط لأنه كرّم اسم المصور
السينمائي التسجيلي الراحل
حسن التلمساني (1923 - 1987). وتوافق التكريم مع مرور أربعين عاماً على
ظهور الفيلم
الذي صوره التلمساني وكان فريداً في نوعه داخل إطار السينما العربية، نعني
بهذا
فيلم «ينابيع الشمس» 1969، الذي أخرجه المخرج العالمى المتمصر
«جون فيني». والواقع
أن اختيار الفيلم ليكون فيلم افتتاح المهرجان أتى بمثابة تكريم مزدوج
للفيلم
ومصوره.
يعتبر «ينابيع الشمس» واحداً من أطول أفلامنا التسجيلية حتى الآن، حيث
يستغرق
عرضه 84 دقيقة. وهو يدور حول علاقة الإنسان المصري بالنيل منذ
عهد الفراعنة حتى
تاريخه. لذا تحتل الحضارة الفرعونية جزءاً مهماً في بداية الفيلم. وتصل هذه
العلاقة
إلى ذروتها ببناء السد العالي. وفي ما بين البداية والنهاية يتعرض الفيلم
الى أفكار
وأساطير المصريين عن النيل ومنابعه في مجموعه. يقدم الفيلم
عرضاً سينمائياً شيقاً
حيث يتابع رحلة النيل التي تبلغ أربعة آلاف ميل من البحيرات الاستوائية
وجبال
القمر، ومنابعه في الحبشة مروراً بالنيل الأبيض والنيل الأزرق حتى يصل إلى
نيل مصر.
وخلال هذه السياحة الجغرافية المشبعة
بمناظر طبيعية رائعة للجبال والهضاب والثلوج
والمجاري المائية والحياة البرية والنباتية، والحيوانات التي
تدب على الأرض أو تزحف
عليها أو تسبح في مياه النيل. يضاف إلى كل ذلك بعض المشاهد لحياة شعوب هذه
المناطق
المختلفة.
الفيلم من ناحية البناء الفني أقرب إلى «أفلام المحاضرة المصورة». وهو ما
يروق
الباحث ويثير اهتمام المثقف والمتفرج العام، لكنه قد يواجه
بانتقادات بعض النقاد.
خصوصاً أن الفيلم ينتهي أكثر من مرة، وقد يؤخذ عليه قصور المونتاج أحياناً.
لكنه من
ناحية أخرى قدم من صور الحياة الطبيعية والبشرية ما يصل إلى
مستوى اللوحات الفنية.
ولم يكن ذلك غريباً على مصور الفيلم حسن التلمساني الذي بدأ حياته فناناً
تشكيلياً
واشترك بلوحاته التشكيلية في عدة معارض محلية وعالمية. وقد استخدم في تصوير
بعض
لقطات الفيلم التصوير البطيء، كما تم استخدام الطائرات في تصوير بعض
اللقطات. ويجدر
الإشارة إلى صعوبة تصوير هذا الفيلم فوق قمم الجبال وتحت هدير مياه المطر
الغزيرة
وعند اختراق الغابات. كما قدم الفيلم من الناحيتين العلمية
والتعليمية ما كاد
يستحيل تحقيقه وقتها وحتى الآن، لولا أن توافر له مخرج مغامر مثل جون فينى
ومصور
مبدع مثل حسن التلمساني، الشخصية المكرم اسمها في المهرجان. واليوم إذا
نظرنا إلى
الفيلم في سياقه التاريخي فلا بد أن نعتبره علامة مميزة غير
مسبوقة في تاريخنا
التسجيلي.
أجانب
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يواجه الفيلم فيها بعض الانتقادات، فما
زلت
أتذكر الضجة التي قامت ضده زمن إنتاجه، وقادها صلاح التهامي
أحد رواد وأساتذة
السينما التسجيلية المصرية. لم تكن الضجة وقتها لأسباب فنية بقدر ما كانت
لأسباب
أخرى تتعلق بالاستعانة بالأجانب، بدافع الغيرة على تشغيل المواطنين والشباب
خاصة،
ولأسباب اقتصادية حيث استهلك الفيلم ميزانية ضخمة (حوالى مئة
ألف جنيه) ابتلعت
ميزانية المركز القومي للأفلام التسجيلية وقتها، ما حرم آخرين من فناني
السينما
التسجيلية من تحقيق أفلامهم. ولكن بالتأكيد على رغم كل هذه الانتقادات
«السابقة
واللاحقة» كسبت السينما المصرية فيلماً فريداً، كان هدية
الدكتور ثروت عكاشة الى
السينما التسجيلية المصرية، كما كان «المومياء» هديته للسينما الروائية
المصرية،
حيث وقف وراء دعم المشروعين أيام أن كان وزيراً للثقافة وقتها. وما زال
الفيلمان
مصدر فخر بحق للسينما المصرية.
وإذا نظرنا إلى الفيلم بين أعمال الراحل حسن التلمساني، نجده واحداً من أهم
المشاريع التي قام بتصويرها. بل انه أبرز هذه الأفلام. وما
أكثر المشاريع التسجيلية
السينمائية الثقافية التي ساعد حسن التلمساني على وجودها وبمستوى لائق أو
متميز.
ومنها مشاريعه مع صديقي عمره صلاح التهامي
وسعد نديم. ومن بعدهما مشروعه الثقافي
التسجيلي/ المشترك مع أخيه عبد القادر التلمساني الذي أسس معه
شركة التلمساني إخوان
لإنتاج الأفلام التسجيلية. وكان لهم جميعاً الفضل في إرساء تقاليد ودعائم
السينما
التسجيلية المصرية. ويمثلون معاً مرحلة من أهم مراحلها، فهم جميعاً أول من
تفرغ
للعمل التسجيلي السينمائي الذي ظل شغلهم الشاغل على مدى
حياتهم، بينما كان العمل في
السينما التسجيلية «وما زال» بالنسبة لغيرهم يمثل عملاً هامشياً إلى جانب
السينما
الروائية أو تذكرة المرور إليها. وكان حسن التلمساني بالنسبة لهذه المجموعة
من
الرواد بمثابة العمود الفقري الذي يمسك بالكاميرا ليحقق
أحلامهم. يصل عدد الأفلام
التسجيلية التي صورها حسن التلمساني الى 124 فيلماً، أولها عام 1953 وهو
«صور من
الحياة» من إخراج صلاح التهامي، وآخرها «العمل شرف» (1986) من إخراج
عبدالقادر
التلمساني.
وبلغ عدد الأفلام التي صورها مع صلاح التهامي 31 فيلماً، معظمها عن
المنجزات
المدنية الحديثة، وفي مقدمتها وأشهرها حلقات أفلامه عن السد
العالي الشهرية «سباق
مع الزمن» والسنوية «مذكرات مهندس». وبلغ عدد الأفلام التي صورها مع سعد
نديم 34
فيلماً منها سلسلة أفلام «فن بلدنا» عن الحرف اليدوية، وسلسلة «الآثار
والمتاحف»،
وسلسلة «رحلة الى النوبة». ومنها مجموعة من الأفلام عن الفن
التشكيلي المصري. ولا
يسعنا إلا أن ننوه بوجه خاص عن تصويره فيلم «فليشهد العالم» عام 1956 الذي
كان أول
أفلامه مع سعد نديم. وفيه استطاع أن يخترق حصار الجيش الإنكليزى مدينة بور
سعيد
ويصور مجموعة من اللقطات التي تصور بشاعة العدوان الإنكليزى
على المدينة وعاد إلى
القاهرة ليضع المادة المصورة بين يدي سعد نديم ليخرج منها هذا الفيلم
«فليشهد
العالم» الذي كان له صدى عالمياً واسعاً وقتها.
ومع عبدالقادر التلمساني صور 30 فيلماً أولها «جبال سيناء» 1960 ومنها:
تكملة
«سلسلة
آثار ومتاحف»، وسلسلة «رحلة الى النوبة»، بالإضافة إلى أفلام أخرى متنوعة
بين الآثار ومظاهر الحياة الحديثة. من أفلامه المميزة مع عبدالقادر
التلمساني «دير
سانت كاترين» بالإضافة إلى مجموعة الأفلام الثقافية الفنية
التي شارك أخاه في
إنتاجها أيضاً من خلال شركتهما «التلمساني إخوان» ومنها: «زخارف قبطية»، و
«زخارف
عربية»، «فنون الخط العربي»، و «دار الفن في القرية».
هذا وقد صور حسن التلمساني أفلاماً لمخرجين آخرين مثل: «هروب العائلة
المقدسة»
لولي الدين سامح (1961)، و «توت عنخ آمون» لفطين عبدالوهاب 1963، و «شدوان»
لفؤاد
التهامي (1972).
بالإضافة إلى ما سبق، صور وأخرج حسن التلمساني خمسة أفلام تسجيلية أخرى
منها:
«يا
نيل»، «البحر زاد» والاثنان عام 1963. وقد شاهدناهما ضمن المجموعة المختارة
من
أعماله وفيهما اكتشفنا مهارة حسن التلمساني كمخرج، كما سبق أن اكتشفنا
حساسية عينه
كمصور. وقد ضم أحد الفيلمين لقطات نادرة لاستقبال المصريين آخر
فيضان من فيضانات
النيل ومواجهته بالاستحكامات اللازمة.
وإلى جانب هذين الفيلمين شاهدنا ضمن هذه المجموعة المختارة من الأفلام التي
صورها ثمانية أفلام أخرى، منها ثلاثة أفلام من إخراج سعد نديم
وهي: «فليشهد العالم»
السابق الذكر، وفيلمين عن معابد «أبي سمبل» والجهود المبذولة لإنقاذه من
الغرق تحت
مياه السد العالي، ومنها أفلام لمخرجين آخرين مثل: «فن الفلاحين»
لعبدالقادر
التلمساني، عن تجربة الفنان رمسيس ويصا واصف التي جمع فيها
أطفال الفلاحين وأتاح
لهم فرصة إبداع ما يتخيلونه على لوحات من السجاد التي اكتسبت شهرة عالمية،
و «هروب
العائلة المقدسة» إخراج ولي الدين سامح، يتابع قصة هروب العائلة المقدسة من
أورشليم
إلى مصر من خلال الآثار القبطية في سيناء والصعيد، ومنها فيلم
عن أعمال «الفنان سيف
وانلى» إخراج سامي المعداوي، وآخر عن «عالم الفنان حسن حشمت» إخراج صلاح
التهامي.
والأفلام في مجملها تعطي صورة واضحة عن
حساسية حسن التلمساني في تصويره السينمائي،
كما تشير إلى دوره الثقافي.
الحياة اللندنية في
30/10/2009 |