أتخمتنا الفضائيات العربية على مدار إجازة العيد بعرض أفلام كوميدية ، منها
ما هو حديث ومنها ما هو قديم ، وكأن لسان حال القائمين على اختيار هذه
الأفلام يقول: "أن الدنيا عيد والأمر يحتاج الى شيء من الفرفشة". غير أن ما
تضمنته تلك الأفلام لم يكن فيه شيئا من "الفرفشة" ، بل "سم بدن" إن صح
التعبير ، وكأن النكتة لا تقال مرّة ثانية. كثيرا ما يحاول أحدهم أن يقول
نكتة ما ، وإذا تبين للمستمع من مطلعها أنه يعرفها فانه يطلب من صاحبها أن
لا يكمل ، ذلك أن النكتة ستكون "بايخة".
هذا على صعيد نكتة صغيرة موجزة فما أدراكم بفيلم كوميدي سينمائي طويل؟
بالتأكيد الأمر لا يحتمل. والغريب ما ينطوي عليه الأمر من مفارقات ، فمثلاً
لقد ضجت القاعات بالضحك حين عرض فيلم "إسماعيلية رايح جاي" في مطلع
التسعينيات ، ولقد حقق هذا الفيلم إيرادات لم تكن في بال القائمين عليه ،
بل إن نجاحه الجماهيري شكّل انعطافة في مسار السينما المصرية ، وجعل الكثير
من الأفلام تذهب نحو الإسفاف والتهريج. وقد استمر هذا التخبط لعقد كامل قبل
أن يصحو عدد من المخرجين المبدعين في مصر ليقدموا أفلاما لها "طعم ولون".
الغريب في فيلم "إسماعيلية رايح جاي" الذي عرضه التلفزيون الأردني ثاني
أيام العيد ، انه ظهر باهتا لا يمت للكوميديا بصلة ، وكأن النكتة لا تقال
مرتين ، وإذا كان القائمون على اختيار البرامج خلال العيد معنيين برسم
الابتسامة على وجوه المشاهدين ، فلقد كان الأجدى بهم أن يبحثوا عن شيء جديد
، عن نكته جديدة طازجة ، فالنكات الجيدة هي التي تعتمد على المفارقة الذكية
، وعلى المفاجأة ، والحدث غير المتوقع.
كثيرة هي الأفلام الكوميدية التي عرضت على شاشات الفضائيات العربية خلال
إجارة العيد : محامي خلع"لهاني رمزي ، و" عوكل"لمحمد سعد"و"جاءنا البيان
التالي"لمحمد هنيدي" و"التجربة الدنمركية"لعادل إمام ، ولقد شاهدتها جميعها
لأرى مدى استعدادي للضحك ، غير أن النتيجة كانت مخيبة للآمال ، فلم أجن سوى
الامتعاض من درجة الإسفاف والابتذال. فهذا محمد هنيدي يتكئ على فكرة ركيكة
- هذا إذا كان ثمة فكرة من الأصل - إذ نشاهد في فيلمه شابا من حي فقير يحلم
بأن يصبح مذيعاً تلفزيونيا فتسنح له الفرصة لأن يعمل مراسلاً لإحدى القنوات
التلفزيونية ، ونراه وهو يتجول على جبهات القتال في مواقع مختلفة من العالم
لنقل وقائع المعارك على الهواء مباشرة في مشاهد ساذجة غير مقنعة ، ثم نراه
في مشهد مؤذ وهو ينقل وقائع الانتفاضة الفلسطينية بأسلوب تهريجي لا يخلو من
ثقل ظل لا يتناسب مع جلال وعظمة الانتفاضة الفلسطينية التي لا يجوز أبداً
إقحامها في مثل هذه النوعية من الأفلام. ثم نأتي إلى"محامي خُلع"الذي
يتجاوز بحيثياته المنطق والمعروف والمألوف وهو يحاول أن يدغدغ مشاعر
الجمهور بالمفارقات التي تتمخض عنها فكرة (الخّلع) في مجتمعاتنا الشرقية.
ثم نأتي إلى عادل إمام في فيلمه"التجربة الدنمركية"والذي ظهر وكأنه أضاع
البوصلة التي تضحك الجمهور بعد أن وضع نفسه في ثوب غير ثوبه وهو يقدم نفسه
زير نساء دون مراعاة لتقدمه في السن. ونصل إلى محمد سعد في فيلمه
الأخير"عوكل"ونسأل : من الذي أوحى للقائمين على هذا الفيلم أنه من شريحة
الأفلام الكوميدية؟ فلا توجد فكرة بل تهريج يصل إلى حد الابتذال. ولا يملك
المشاهد الذي يحترم نفسه سوى أن يتابع ببلاهة وعدم تصديق منسوب السذاجة
الذي وصل إلى حد رسم شخصية لا وجود لها على أرض الواقع ومحاولة حياكة
المفارقات من حولها على أمل انتزاع الابتسامة من شفاه العابرين.
قد يقول قائل : وما مبرر زخم إنتاج الأفلام الكوميدية ، إذاً ، طالما أنها
ساذجة؟ وما مبرر إقبال الجمهور عليها؟ ولماذا تجني هذه النوعية من الأفلام
- في العادة - أغلب الإيرادات؟ وأقول: ثمة فرق بين أن تضحك وأن تبحث عن
الضحك. وبالتالي فإن الإقبال الذي تشهده هذه الأفلام لا يدل بالضرورة على
أنها كوميدية مضحكة ، بقدر ما يدل على بحث الجمهور عن ما يضحكه ، وفي إطار
هذا البحث قد يضحك الجمهور لمجرد أن يغذي رغبته بالضحك ، أي أنه يريد أن
يضحك بصرف النظر عن الموقف أو عن المشهد الذي يستدعي الضحك ، حتى إذا وصل
به الأمر لأن يضحك على نفسه، لقد عشت هذه التجربة مع فيلم "إسماعيلية رايح
جاي" لمحمد هنيدي ، وهو أحد الأفلام التي اعتبرت انطلاقة جديدة للكوميديا
في التسعينيات كما أشرت ، حيث شاءت المصادفة أن أشاهد هذا الفيلم أول مرّة
في إحدى الصالات الشعبية ، ولاحظت أن الجمهور يضحك قبل حتى أن يبدأ الفيلم
، وبمجرد ظهور العناوين راح يصفق بحرارة شديدة ، وحين ظهرت أسماء الممثلين
علت قهقهات في الصالة ، وهكذا فقد دخل الجميع في سيناريو مسبق القصد منه
إشباع رغبة بالضحك على نحو هستيري ، وحين بدأ الفيلم بدأت القهقهات.
والغريب أنني وجدت نفسي أشارك الجمهور الضحك ، ولا أدري إن كنت أضحك على
المواقف التي يتضمنها الفيلم أم أضحك على حالي وحال من حولي. واللافت
للانتباه هنا أنني عندما شاهدت الفيلم بمفردي خلال إجازة العيد لاحظت أنني
بقيت واجماً ولم تنفرج شفتاي ولو على مستوى ابتسامة عابرة.
بل أنني قدرت لو أن هذا الفيلم يعرض لأول مرة فلن يحظى بالجماهيرية التي
حظى بها في التسعينيات ، أي أن الظروف آنذاك هي التي خدمت الفيلم. إن الأمر
برمته يوحي أننا أمام أزمة جمهور يتوق للضحك الذي لا يأتيه أبداً عبر
الشاشة ، فيوصي لنفسه به ، يفتعله ، وعادة ما تتم المسألة على النحو
التالي: يتجمهر نفر من الشباب ويقصدون إحدى دور السينما لمشاهدة أحد
الأفلام الكوميدية ، وتبدأ قابليتهم للضحك على أي شيء عابر يصادفونه في
الشارع أو أثناء انتظار بدء الفيلم ، ولو أنك في اللحظة الأخيرة استبدلت
الفيلم المنوي عرضه بأي فيلم آخر فإن النتيجة واحدة وهي أن الجمهور سيواصل
الضحك ، أو سيجد ما يضحك عليه. ومثل هذا النوع من الضحك عابر ، يعبّر عن
أزمة ذاتية لدى شريحة من الجمهور ولا علاقة له من قريب أو بعيد بالمادة
المعروضة على الشاشة.
والغريب أن صناع السينما لا يلتقطون هذه المعضلة ، أو لعلهم يلتقطونها
ولكنهم يتحايلون عليها - أو بالأحرى يستغلونها - فتجدهم قد أمعنوا في إنتاج
أفلام من سلالة واحدة ، فأفلام عادل إمام منذ مطلع الألفية الثالثة لم
تتغير ، فدائما ثمة جنس ومفارقات تدور حول هذا الموضوع. ومحمد سعد استنزف
نفسه وهو يكرر شخصية الأبله ، أما محمد هنيدي فقد بلغ به الإسفاف مبلغاً
يصل إلى حد الشك في أن يتمكن من استعادة توازنه من جديد. ولعل أحمد حلمي
لديه جديد ، خاصة في فيلميه الأخيرين: "آسف على الإزعاج" و "ألف مبروك"
وهذا ما يمكن أن نخصه بمقال لاحق.
إن شيوع الأفلام الكوميدية الدارجة مرتبط كما أشرنا بأزمة شريحة من الجمهور
وصل بها الفراغ الفكري مداه ، وهذه الأزمة ليست دائمة بل أنها نتاج مرحلة
ستزول حتماً ، وما لم ينتبه صناع الأفلام الكوميدية إلى ذلك فلسوف يتساقطون
واحداً تلو الأخر. فمحمد سعد ليس بالحضور الذي بدأ به ، ومحمد هنيدي كذلك.
وإذا كان تاريخ عادل إمام يسعفه فهو ليس ببعيد عن حد المقصلة. وأجدني أراهن
على أن هذا النوع من الأفلام زائل إذا ما توفر الإبداع ، فإضحاك الناس فنّ
وليس تهريجاً ، ولقد اعتدنا - من موروثنا الشعبي على الأقل - أن ليس كل
نكته تقال تقابل بالضحك ، فالنكتة تحتاج لمن يمتلك روح الدعابة وإذا قيلت
على لسان شخص آخر تصبح ثقيلة الظل. كثيراً ما نلتقي بأشخاص يتحلون بروح
الدعابة ، فيكون حديثهم في حد ذاته مضحكاً ، حتى لو كان سرداً لمجريات
عادية. وأكاد أتخيل القائمين على صناعة الأفلام الكوميدية الدارجة أشخاصاً
ثقال الظل يلقون نكاتاً"بايخة"، والأهم من كل ذلك أن هناك تطوراً طرأ على
وعي المشاهدين جعل الكوميديا مقرونة بمفارقة الموقف وليس بالشخص المؤدي ،
أي أن زمن التهريج والممثل الكوميدي الأوحد ذهب إلى غير رجعة ، وبتنا في
عصر كوميديا الموقف ، وهذا ما التقطته استوديوهات هوليود فأبعدت ممثلين
كوميديين من أمثال "جيم كاري" و "مستر بن" عن اطار الشخصية الساذجة
والتهريج ، واقحمتهم في أفلام تقوم فيها الكوميديا على مفارقة الموقف ،
وهذا ما على السينما المصرية أن تلتقطه .. وإلا؟
كاتب اردني
الدستور الأردنية في
02/10/2009 |