لو أن المخرج بسام الملا والكاتب كمال مرّة حافظا على سيرورة حكايتهما
الفانتازية، دون أن يربطاها بزمن محدد، لكان الجزء الرابع من (باب الحارة)
قد نجا من المأزق الذي وقع فيه. لكنهما غامرا هذه المرة باقترابهما من
الواقع جزئياً، وألزما نفسيهما بزمن من التاريخ القريب والحاضر في الذاكرة
الشعبية السورية، وهو فترة الاستعمار الفرنسي، بينما بقيت الحكاية مطلقة
على عواهنها، مما ولد الكثير من التناقضات، بحيث بدا المسلسل وكأنه يحرّف
في مجريات التاريخ، وهو يقدم حكايات وقصصاً وأحداثاً لم تحدث، ويتحدث عن
بيئة شعبية لم توجد.
جهد ضائع
حاول كل من مخرج وكاتب «باب الحارة» في الجزء الرابع أن يراعيا بعض
الملاحظات النقدية التي وجهت للعمل في أجزائه السابقة، ولاسيما في ثلاثة
أمور، الأول هو عزلة الحارة عن محيطها الخارجي، وهو ما يرفضه كثيرون، فدمشق
كعاصمة، لم تكن يوماً منعزلة ومعزولة، وإنما كانت دوماً في قلب الحدث
السياسي، وصانعة له عبر تاريخها، وهي في الأساس مدينة تنشط فيها التجارة،
وموقعها الجغرافي يؤهلها دوماً لكي تكون ملتقى للقوافل التجارية، ومكاناً
للتفاعل الثقافي. لكن المخرج الملا والكاتب مرّة لم يكونا موفقين في
مسعاهما لتفادي هذا الانتقاد، حيث أقحما العنصر الفلسطيني بأسلوب مباشر،
فبدا العزف على الوجع الفلسطيني مفتعلاً، وخارج السياق. صحيح أنهما بذلك
نجحا في كسب تعاطف بعض المشاهدين، ودفعا كثيرين للتكهن بإسقاطات يمارسانها
على الواقع، لكنهما لم ينجحا تماماً بربط هذا الخط الدرامي مع بقية الخطوط.
أما الانتقاد الثاني الذي وجه للعمل في أجزائه السابقة فهو يخص المرأة،
وتحييدها عن دائرة الفعل، وإبقاءها على هامش الحدث، غارقة في حالة من الجهل
والخضوع والخنوع لسلطة الرجل، الذي يجاريها جهلاً كما يقترح المسلسل. وهو
ما يرفضه كثيرون أيضاً، لأن التاريخ يثبت عكسه. ولتلافي هذا الإشكال تم
إقحام شخصية (أم جوزيف) باعتبارها مفتاح الحل، وزج بها اعتباطاً في العمل،
ولولا الأداء الملفت الذي قدمته الفنانة الكبيرة منى واصف، لكانت هذه
الشخصية قد زادت الطين بلة. أضف إلى ذلك شخصية الطبيب التي اخترعت لتحاشي
الانتقادات من أن العمل لا يقدم شخصيات متعلمة أو مثقفة، وكأن الحارة
الدمشقية كانت تعيش في جهل مطبق، وكأنه لم يكن هناك مدارس ولا جامعة في
دمشق! علماً أن مدرسة الحقوق في دمشق أسست عام 1913 أما الجامعة فأحدثت عام
1923.
الغياب والاستبعاد
غياب أبطال العمل واستبعادهم منه، ورهان المخرج والكاتب على بطولة شخصيات
ثانوية فيه، أفقده جاذبيته وهزّه إلى حد بعيد. والإشارة الدائمة للشخصيات
الغائبة، بدت وكأنها اعتراف ضمني بأهميتها، حيث شعر المشاهد أن الممثلين
المبعدين لعبوا أدوار البطولة رغم غيابهم. فيما حققت بعض الشخصيات الجديدة
في المسلسل شيئاً من النجاح، ولاسيما (أم جوزيف) التي أدتها باقتدار
الفنانة منى واصف، وشخصية (النمس) التي جسدها الفنان مصطفى الخاني، لكن
المبالغة في أداء الخاني لهذه الشخصية دفع البعض لتشبيهها بشخصيات الرسوم
المتحركة. أما الفنان زهير رمضان فتابع نجاحه في تقديم شخصية رئيس المخفر
(أبو جودت) بحرفية وتميز، مضفياً عليها تلك النكهة الكوميدية رغم طابعها
السلبي، فنجح للمرة الرابعة على التوالي في جمع المتناقضات وجعل الشر يبدو
مضحكاً. هناك جانب آخر شوش المشاهد وأربكه، ووضع بعض الممثلين في خانة
(الخفة)! وهو تكرار ظهور الممثل في أكثر من عمل يتناول البيئة الشامية، وفي
أدوار متشابهة من حيث النوع، ومن حيث طبيعة الحدث. فقد بلغ التشابه بين
مسلسلي «باب الحارة» و»الشام العدية» ـ وهو الجزء الثاني من مسلسل (بيت
جدي) ـ من حيث الأحداث والشخصيات إلى حد أن المشاهد لم يتمكن بسهولة من
التمييز بين العملين إلا من خلال الشارة. لقد وعد مخرج (باب الحارة)
المشاهدين بمفاجآت في العمل، لكن هذه المفاجآت تمثلت بتحويل المسلسل من قصة
اجتماعية تتضمن خطاً نضالياً ضد الاستعمار، إلى قصة حربية تتضمن بعض الخطوط
الاجتماعية، مما أفقده هويته الأولى، وأكد على هشاشة الإمساك بتفاصيله
ومقولاته. وليس إعلان المخرج إغلاق (باب الحارة) بعد الجزء الخامس، إلا
محاولة للخروج من ورطة المسلسل متعدد الأجزاء، بحيث يصعب ضمان مشاركة
الممثلين جميعهم، كما يصعب القبض على مسار الحكاية، التي انفلتت خيوطها في
الجزء الرابع إلى قصص وحكايات جانبية متعددة، ما يجمعها أقل بكثير مما
يفرقها.
الإتحاد الإماراتية في
02/10/2009 |