مع بداية تترات الفيلم خيم الصمت المطبق على دار العرض، حتى أصوات آكلي
الفشار التي كثيرا ما تصبح هي شريط الصوت الأعلى حضورا لم أعثر لها على أثر
يذكر، إلا أن هذا الهدوء قطعه صرخة من فتاة دون العشرين من عمرها تجري
مهرولة وفي طريقها إلى خارج دار العرض، كانت تردد بصوت هستيري: «معقولة..
إزاي» وكلمات أخرى غير مفهومة.. بالطبع لم يتم إيقاف الشريط السينمائي
واستمر عرض الفيلم وعاد الصمت ليغلف المكان بينما الشاشة تقدم لنا بألق خاص
فيلم «Final Destination»
الجزء الرابع «المصير القاتل».. بداية الأحداث هي تلك التفاصيل الموحية مع
أشهر لعبة في أميركا وهي سباق السيارات. إنه يمثل نوعا من أكبر الأخطار
التي تواجه المتسابقين. الكل يجد نفسه في حالة اندماج بين العربة التي تحمل
كل مخاطر الموت والجمهور داخل حلبة السباق وهم ممثلو الفيلم، ثم الجمهور
العريض باعتباره الطرف الثالث الذي يبعد عن تلك المعركة. إنه الجمهور الآمن
داخل دور العرض.. إنه يعلم تماما أنه خارج حلبة الموت لكنه بجزء من خياله
لا شعوريا يعيش لحظات الترقب والخوف بينما الجزء الواعي يؤكد له قائلا:
أكمل اللعبة أنت في أمان.. وسوف نتناول تلك النقطة الشائكة بشيء من التفصيل
في نهاية المقال. في الجزء الرابع من هذا الفيلم الذي يصنف باعتباره فيلم
«رعب» ينتقل المخرج «ديفيد أليس» إلى مساحة أبعد مما قدمه الفيلم في
الأجزاء الثلاثة السابقة، من حادثة طائرة، إلى حادث اصطدام كبير، إلى مأساة
في أحد ألعاب الملاهي.. هذه المرة نرى القدرة على استشراف الموت، ثم
المحاولة المستحيلة كي نتحداه ونغير المصير. بطل الفيلم «بوبي كامبو» يرى
الموت.. يشعر بما سوف يحدث.. إنها الرؤية المسبقة التي سبق وأن قدمتها
عشرات من الأفلام العالمية والعربية وهي تستند إلى منطق علمي وكلنا مررنا
بتجارب مماثلة، أن نشاهد موقفا ما نوقن أننا رأيناه من قبل. هذه المرة ما
نشاهده هو الموت، ولكن قبل أن نصل إلى تلك النقطة يقدم كاتب السيناريو
«إيريك بريس» تفاصيل دقيقة جدا، مثلا مفك نراه على أرض السباق، زيت مسكوب
على الأرض، ثم نرى لوحة شرف عليها أسماء المشاركين في السباق في الأعوام
الماضية الذين لقوا حتفهم. تفاصيل أخرى لجدار في الاستاد الضخم وهو يبدأ في
التصدع.. بطل الفيلم «بوبي» ومعه أصدقاؤه «شانتال فانستين» و«هالي ديب»
و«نكي زانوا» يحذرهم مما سوف يحدث ولا يأخذون بالطبع تحذيره على محمل
الجد.. لديهم إحساس بأنها مجرد مخاوف، ولكنهم أمام حالة الهلع التي عليها
البطل يضحون برهانهم المسبق على العربة الفائزة ويغادرون المدرج الضخم
وتبدأ إرهاصات الموت تدريجيا.. نرى عربة تنفجر إطاراتها وتنفلت وتشتعل فيها
النيران وتمتد أيضا إلى العربات الأخرى الكل يهرول مسرعا. إن المواجهة التي
يقدمها المخرج «ديفيد أليس» هذه المرة تعني أن الإنسان يتحدى الموت، فهو
يسعى لكي يهرب من الموت، هذا التحدي يعيدنا للأساطير اليونانية القديمة
عندما كان البطل يواجه قدره من دون جدوى، فهو مسوق إليه، وعلى هذا نرى مثلا
إطار السيارة الذي ينتقل من ساحة السباق ليستقر على رأس إحدى الناجيات
لينهي حياتها وكأن الموت يحدد بدقة اللحظة التي يريدها. نشاهد رجلا يريد أن
يعود إلى الساحة لديه إحساس بأنه سوف ينقذ زوجته ولكن الحارس الأسمر يمنعه
من الاقتراب يحاول أكثر من مرة ويتجاوز في عنفه لكن الحارس يصر على منعه..
تصبح لدى هذا الرجل رغبة عارمة في أن يقتل الحارس الذي منعه من أن يحقق
أمنيته، حتى ولو كان يعلم أنه لن يستطيع إنقاذها وأنه فقط سوف يزيد أرقام
عدد الضحايا. أمام الساحة الضخمة التي شهدت سباق السيارات المجنون يضيئون
الشموع للمشاركة في تأبين الموتى ونلمح التهديد الذي يتلقاه الحارس بالقتل.
بطلا الفيلم «بوبي كامبو» و«شانتال فانستين» يحاولان إقناع الحارس بأن
الموت سيأتي للجميع وتباعا طبقا للسيناريو الذي رآه «بوبي» قبل حدوثه
بلحظات، وأن من نجا من الموت لم ينج للنهاية وأن دوره وتتابع السيناريو
نفسه قادم. لا يصدق الحارس ذلك، ولكننا كمشاهدين موقنون بحدوثه، وهكذا يقتل
الرجل وهو في طريقه لكي يقتل الحارس يرتكب خطأ وبدلا من أن تنفجر الشاحنة
في بيت الحارس تنفجر فيه هو وكأنها سخرية الموت. كل شيء مقدر، الحارس نفسه
لديه إحساس بأنه بسبب إهماله وتعاطيه الخمر قتل ابنه وزوجته وهو يقود
عربته. يعيش مشاعر قاسية جدا مغلفة بتأنيب الضمير، وعندما يؤكد له بطلا
الفيلم أن الموت يتعقبه وأنهما يحاولان منع حدوثه. إن الوسيلة الوحيدة
لإيقاف الموت هي التدخل في اللحظة المناسبة قبل أن تتحقق السلسلة كاملة كما
رآها بطل الفيلم فإنه يبدأ في الاقتناع وعلى طريقة «بيدي لا بيد عمرو» يقرر
هو أن يتخلص من الحياة بتعاطي جرعات من الحبوب المهدئة ولكنه يتقيؤها ولا
تصلح هذه الحيلة، فيقرر أن يشنق نفسه، إلا أن بطل الفيلم ينقذه في اللحظة
الأخيرة. ولأن الموت قدر فنحن لا نختاره ولا نحدده، فهو الذي يحدد طريقة
الموت في لحظات والحارس يسير بجوار البطل في طريقه لإنقاذ واحد من منتظري
الموت تطيح به شاحنة ضخمة وكأنها تختاره هو وتحيله إلى بقايا في لحظات. إنه
الدرس الذي أراد المخرج تأكيده وهو أن الموت ليس فقط ساعة محددة وأنك لا
تملك اختيار الطريقة ولكنه محدد على وجه الدقة بالأسلوب والتفاصيل.. تتصاعد
الأحداث حتى تصل إلى أصعبها وهو مشهد غسل العربة الذي نرى فيها البطلة
تقاوم قدر الموت أو ما يبدو قدرا. إننا نوقن أن الزمن لم يجئ بعد، حيث إن
التحذير هو أنها ستموت غرقا.. الفيلم يقدم دائما العلاقة بين المشاهد وما
يراه أمامه على الشاشة بكل التفاصيل، فأنت تنتظر موت أبطالك في لحظة ويحدث
توحد بينك وبين ما تراه على الشاشة لكنه يفاجئك مرة ويمنح أحد الأبطال
الحياة وبعد أن تطمئن عليه يحصده الموت في لحظة تالية لا تتوقعها أنت،
وكلما اقتربت الأحداث من النهاية تتحقق سلسلة الموت بالترتيب نفسه بحوادث
قدرية حتى يتبقى البطلان.. نتركهما وهما ينتظران الموت ونحن نعلم أنه لا
سبيل للهروب!! صور المخرج فيلمه بأسلوب الأبعاد الثلاثية 3D لتجسيم الصورة وذلك لتحقيق أكبر درجة من التوحد مع المشاهد.. كان
المخرج يلجأ دائما إلى اللقطات القريبة على وجوه أبطاله وهو ينقل لحظات
الهلع والخوف، وأدى الممثلون أدوارهم بقدر كبير من الانفعال المنضبط، فلم
تنفلت منهم مشاعر بها مبالغة، ونجحوا في نقل حالة الهلع للجمهور لأنهم فيما
يبدو كانوا يعايشونها أكثر مما كانوا يمثلونها. وتبقى أهمية هذا الفيلم
وأيضا تلك النوعيات في العلاقة التي تحققها مع المتفرج. إنه الرعب الآمن
وكأنك في كابوس ولكنك تعلم أنه كابوس ولهذا تطمئن مهما شاهدت من أحداث
دموية ستظل بمنأى عن كل الذي يجري حولك، فأنت طرف مشارك في اللعبة، ولكن في
الوقت نفسه لن يضيرك شيء.. لا خوف ولا خسائر ستحل بك شخصيا على الرغم من
أنك تعيش التجربة.. تماما مثلما تذهب إلى بيت الرعب في الملاهي أو تركب
مرجيحة ضخمة تصل بك إلى أعلى ولكنك محصن نفسك بالكرسي المربوط حولك
بعناية.. إنها رغبة كلنا ـ مع اختلاف الدرجة ـ عايشناها في مراحل متعددة من
حياتنا منذ طفولتنا مثلا عندما يلقي الأب بابنه إلى سقف الحجرة ثم يتلقفه
في لحظات لا تتجاوز ربما ثانية أو اثنتين يعيش فيها الطفل في حالة من رعب
وبعد ذلك يبتسم ويتمنى تكرار اللعبة، ويبدو أننا ونحن أمام هذه الأفلام
نعود وكأننا أطفال في «اللفة»!! تسألونني عن مصير الفتاة التي صرخت في
بداية عرض الفيلم وغادرت القاعة.. أقول لكم لقد شاهدتها وهي تتسلل مرة أخرى
في الظلام دخلت بعد بضع دقائق إلى دار العرض بعد أن أيقنت أن ما تشاهده على
الشاشة مجرد كابوس مزعج، وأن الحياة لا تزال أمامها.. تأكدت أنها في أمان
مطلق فعادت مرة أخرى للاندماج مع ما تراه على الشاشة.. إن الفيلم يتناول
الموت، فهو مصير لا يمكن الفكاك منه، ولهذا فكل من شاهد الفيلم كان يشاهد
أيضا نفسه وهو ينتظر دوره مهما حاول أن يواجهه، فإن الموت هو الحقيقة
المؤكدة في الحياة.. فإننا نهرب من الموت إلى الموت!.
الشرق الأوسط في
02/10/2009 |