لم يهتم
العمدة »فتح الله الحسيني«
كثيرا، في الجزء الثاني من المصراوية،
بما يجري
في القاهرة من أحداث جسام في منتصف عشرينيات القرن الماضي،
مثلما كان يهتم في
الجزء الاول بالاحداث السابقة والتي اكتشف بتعرفه عليها أن ثمة علاقة وثيقة
بين
الهم الخاص المحدود بقيادة مجتمع ريفي صغير،
والهم العام المرتبط بالوطن داخليا
وخارجيا.
بقدر ما أنشغل بالاحداث التي جرت داخل قريته (بشنين)
والصراعات العائلية التي انفجرت وتحولت لبحر من الدماء بين
(الحساينة)
و(السخاوية) رغم المصاهرة بينهما، ورغم الصيغة التقليدية الاشبه بصيغة
الحكم في لبنان،
حيث تمنح العمودية للعائلة الاولي ومشيخة البلد للثانية،
وكذلك
الخلافات الدائرة داخل أسرته ومشاكل زوجاته،
حتي أن أخبار الوطن السياسية لم نكن
نعرفها إلا كمجرد معلومات عبر التقائه بابن خالته أوحضور
غير سياسي منه لاجتماع
سياسي لمجموعة من أصحاب الاتجاهات المختلفة زمنذاك.
ومع ذلك فقد فضل »أسامة أنور عكاشة«
أن ينهي وقائع مسلسله بحادث اختفاء للعمدة عن مجتمعه الصغير
متزامنا ليعيد الربط بين الخاص والعام،
ويمنح غياب (العمدة) نفس دلالة
غياب (الزعيم)، موحيا بأن الفوضي التي بدأ في التفجر عقب غياب العمدة عن
القرية، قد تماثلها فوضي علي مستوي الوطن عقب
غياب الزعيم، وهو أمر يقف الجزء
الثاني من المسلسل عند حد الاشارة، وربما يتضح أمره في الجزء الثالث،
أما ماهو
واضح من الجزء الثاني أن غياب العمدة كان بإرادة ذاتية،
ورغبة في القيام برحلة
طويلة غير معلن عن وجهتها،
وأن أثارت الريب بسبب عثور الشرطة علي ملابسه علي
شاطيء النيل، مما يوحي بموته
غرقا، كما أثارت الغموض حول طبيعة هذه الرحلة،
فيما بين رحلة ميتافيزيفية دفعته إليها علاقته الخيرة بالشيخ »الشيشتاوي«
ومنحه قطعة من أرضه يقيم عليها زاوية صوفية،
وحضوره
(حضرتها)
وانغماسه
فيها حتي فقدان الوعي، ورحلة واقعية أراد بغيابه المتعمد أن تكشف العائلات
المتنافسة علي العمودية عن حقيقة ماتضمره،
والذي يتحقق فعلا بقيام »صابر
الحسيني« ابن عم »فتح الله« وابن العمدة الاسبق بالحصول علي منصب العمودية،
الذي يري أنه الاحق به ورثا عن أبيه، قبيل وصول
»شاهر« أخو العمدة ونائبه
في غيابه، ومن ثم ولي عهده الذي يري أنه الاحق للمنصب.
الطاغية
صارمجتمع قرية بشنين هومجتمع العمدة »فتح الله«
وعالمه الذي يتماهي فيه ويكرس
كل جهده في الحفاظ علي استقراره، ليس مهما عنده مايجري في القاهرة،
باستثناء
محاولة حصوله علي البكوية، ولم يعد حريصا كما كان قبلا علي التعرف علي
الاتجاهات
السياسية القائمة،
حتي أنه في التقائه بالمحامي اليساري »فريد«
لم يهتم
بمعرفة أي شيء عن دور اليسار والفكر الشيوعي في السياسة المصرية، بل تعامل
معه
والمسلسل أيضا بالمنطق التقليدي الذي يري في كل شيوعي إنسانا ملحدا، ولم
يصطدم به
إلا باعتباره رجلا منافقا يحوم حول خالة زوجته »كيزمات«
للزواج بها طمعا في
الاستيلاء علي ميراثها الضخم.
تحول »فتح الله« من عمدة قرية، ينتظم
في سلسلة العمد داخل المجتمع المصري ككل، إلي حاكم دولة صغري يديرها بفكرة
الأوحد، ويتحول خفرها عسس لمؤسسة عسكرية تدين له وحده بالولاء وترهب
الآخرين
لصالحة، فيفجر التوتر بدلا من الاستقرار،
ويخلق صراعات دموية بين العائلات عوضا
عن الحوار معهم، ويتعصب لعائلته ضد العائلات الاخري،
وينفي من يناوئه الي
الجزيرة المتوحشة، ويمنع أخيه »شاهر«
من الزواج بابنة خاله ومطلقته وأن
ابنته »خضرة«، ويجبرها هي وأسرتها علي العيش في مكان أختاره هوتحت حراسة
مشددة، مهما كانت تبريراته لذلك،
ويمارس كل أساليب الديكتاتورية في إدارة حكم
قريته، مما خلق الكراهية حوله، حتي من زوجته الثانية »الجازية«
التي راح
يفضل عليها زوجته الثالثة ذات الاصول التركية »نوراي«
وخلع عليها اسما جديدا ذا
ظلال دينية هو»
نور الهدي«
بدلا من
»منيرة« المشتق من الاستنارة والذي منحه
إياها في الجزء الاول، وبني لها قصرا خاصا في كفر الشيخ،
ومنحها الولد »مصطفي«،
المؤهل لأن يكون عمدة القرية مستقبلا، بعد أن جاء ابنه الاول من
»الجازية«
غير سوي عقليا، كما لم تستطع هذه الاخيرة أن تحتفظ بنطفة الابن
الثاني الذي حصلت عليه من
»فتح الله« غصبا، مما زاد من حدة كراهيتها
له.
حرص المسلسل اذن، في جزئه الثاني، علي أن يقدم لنا نموذج حالة
لحاكم قوي يتحول الي طاغية متعصب لافكاره وعائلته،
كانت لظروف مجتمعه الصغير دور
في صياغة أفعاله الباطشة بالجميع، غير أن لوعيه القاصر بمتغيرات واقعه،
وغياب
رؤيته لعلاقة مجتمعه الصغير بمجتمع الوطني الاكبر كانا لهما الدور الاكبر
في صياغة
شخصيته الطاغية، وهوما أدي لضرورة اختفائه في نهاية هذا الجزء،
تاركا مجتمعه
ممزقا علي أيدي الجميع، دون غض النظر عن الدلالة التي أشرنا إليها في بداية
مقالنا، والتي حرص المسلسل علي الربط بين لحظة اختفاء العمدة وموت
الزعيم.
الزووم إن
نجح المخرج »إسماعيل عبد الحافظ«
كعادته في
اختيار ممثليه لأدوارهم،
خاصة من جاء جديدا علي ذات الشخصية في الجزء
الثاني من
المسلسل، مثل المجتهدة »ميس حمدان« والمتمكنة من أدواتها »منال سلامة«،
كما نجح في صياغة حركة الممثلين (الميزانسين)
داخل فضاء المشهد بناء علي
موقعها الاجتماعي وبنائها النفسي، وان أضر بكل ذلك صياغته لحركة كاميراته
المندفعة نحور ممثليه بقوة، والمنقضة ب (الزووم إن)
علي وجوههم بعنف،
والمتحركة بانفعال أثناء حوارهم، مما يوتر المتلقي،
ويوثر علي تلقيه للصورة
المرئية، وتأمل مايجري داخلها، والاصغاء لكلماتها والانتباه لردود أفعالها،
فلا يستمتع بمايراه،
ولا يستوعب جيدا مايتلقاه، وهو أمر نأمل أن يعاود
مخرجنا الكبير النظر فيه،
وأن يعود لأسلوبه العقلاني في عرض أعماله الرصينة،
فليس بانفعالات الكاميرا تصنع الدراما الراقية.
كما ليس بالجز علي
الاسنان، وتقطيع الكلمات دون مبرر،
والالتفاتات الحادة تقدم الشخصيات المركبة
دراميا ونفسيا، مثلما فعل النجم »ممدوح عبدالعليم«
في تجسيده للعمدة المتحول
علي طول المسلسل من الطيبة للطغيان، ولا أعرف سر تغيره في الاداء التمثيلي في
السنوات الاخيرة، وابتعاده عن أسلوب الأداء الهاديء المعبر عما يعتمل بباطن
الشخصية دون صراخ،
والذي عرفناه به في مسلسلاته وأفلامة القديمة، في الوقت الذي
نجحت فيه »منال سلامة«
في التعبير الدقيق عن شخصية
(الجازية) في
تحولاتها النفسية المختلفة خلال معاركها داخل بيت العمودية لتكون لها الكلمة
الاولي، ولتحتل المكانة الكبري بين زوجات العمدة،
وكانت في قمة تعبيرها في مشهد
كشفها للتناقض الوجداني فيما بين حبها لزوجها وكراهيتها له لتفضيل أخري
عليها،
ولتحميله عبء عدم منحها ابنا ثانيا، وعبر »وائل نور«
بدقة شديدة عن شخصية »صابر
الحسيني« كاره »فتح الله« لاغتصابه حقه في العمودية، ولالقائه زمنا
بجزيرة العاصي، واضطراره لمساندته زمنا لجبروته حتي اختفائه،
فيقفز بسرعة علي
كرسي العمودية، كما أكدت »عبير منير« تفوقها في أداء شخصية »كيزمات«،
بعد أن تحولت من مجرد نمط لسيدة تركية، إلي
شخصية تريد أن توصل نفسها في
التربة المصرية، متعلمة اللغة العربية،
وتاركة مشاعرها لميل نحو محام مصري،
وإن كان الخوف عليها في أن تصبح هي والشخصية سيان، حتي أننا لايمكن أن
تراها
مستقبلا مجسدة لشخصيات مغايرة.
بالطبع كان لسميحة أيوب وعبدالرحمن أبو زهرة
ومحمد متولي وسيد عبد الكريم ونورهان مروة حسين ومحمد عبدالحافظ ومحمود
الجندي
وأحمد ماهر وميس حمدان وإسماعيل محمود وعهدي صادق حضورهم الطاغي داخل
المسلسل،
المصاغة شخصياته بحرفية كاتب ووعي فنان مثقف بأن قراءة
التاريخ، لاتقف عند حدود
إعادة إنتاج وقائعه القديمة، وإنما بخلق وقائع جديدة،
يكشف مسارها عن رؤيته
الخاصة لتاريخ مجتمعه وأفكار أهله.
أخبار النجوم المصرية في
01/10/2009 |