ما كان يمكن أن يكون استعادة مجنونة لأفلام حربية عدة من
المكتبة السينمائية الشخصية لكوانتن تارانتينو، اصبح في رعاية المخرج
السينيفيلي
فيلماً انتقامياً آخر على خلفية حرب عالمية ثانية ومحرقة ورجال أشرار
و"سلسلة باء"
بموازنة عالية. بيد أن بيل يُستبدل بأدولف، والسيارة المحصنة ضد الموت يحلّ
مكانها
الصليب المعكوف للجزار الالماني الشهير. كان غودار يقول انه لا
يحتاج الى أكثر من
امرأة وفي يدها مسدس لصنع فيلم. تارانتينو يحتاج الى أقل من هذا. الشرّ
المطلق الذي
يجسده الفوهرر يكفيه لحبك رواية خيالية من حوله. الأهم من هذا كله في هذا
البرنامج
الهزلي الذي يطول قرابة ثلاث ساعات هو الانتقام من التاريخ الذي ينزلق على
قشرة موز
مثيراً القهقهات العبثية في أرجاء الصالة. كتاب التاريخ الكبير
يتصفحه أميركي من
الطبقة الوسطى على سجيته ويتمنى لو يعيد كتابته. المشروع عبارة عن
فانتاسمات
لسينمائي زنديق لا يؤمن بشيء. انه ابن جيل كان مراهقاً عندما دخل الفيديو
المنازل
في آواخر السبعينات من القرن الفائت. كانت الأفكار الكبيرة
بدأت تتهاوى واحدة تلو
الاخرى في غياب البديل. السينما التي تربّى على قيمها في تلك الحقبة هي،
أيضاً
وأيضاً، اساس هذا الفيلم، لبّه، جسده ووعيه.
طبعاً تارانتينو، وقبله روبيرتو
بينيني (في "الحياة حلوة") مشروطان بألا ينسيا ان الفصول الدموية للمرحلة
النازية
هي، في خاتمة الأمر، أكثر فظاعة مما نراه، اذ يذكّراننا مع كل انعطافة
جديدة بأنه
ما دام يستحيل تجسيد بعض الأشياء، فالأفضل أن نتخيل شيئاً
قريباً لها. هذه مسألة
أخلاقية لا تتحمل المناقشة. في فانتازيا كهذه، لا شي أكثر طبيعية من أن
نخدّر
عاطفتنا ونمشي في اللعبة حتى الأخير، نضحك منها وعليها، اذ هناك خلف
الكاميرا من
يمسك بكل مفاصلها واحتمالاتها. ليني رييفنشتال، المخرجة
المناصرة لقضية الرايخ
الثالث، هل هي أكثر تأثيراً في الزمن من هنري جورج كلوزو، السينمائي
المقاوم
للنازية الذي قبض المال من الالمان لصنع فيلمه "الغراب" ثم دان فيه احتلال
بلاده؟
ها ان ردّ تارانتينو على هذا الهمّ المعلن والحاضر في ذهن الشريط، يصلنا
عبر فيلم
ينقلب على العنف بالسخرية والازدراء، بخفة دم قريبة الى اسلوب...
دعونا نقول الى
اسلوب لا أحد. لا شيء يعز على تارانتينو اكثر من تلميع صورة السينما، أكانت
عميلة
أم حليفة أم عدوة. تارانتينو كعادته مخلص لتقنياته في الهزء. هو دائماً في
حاجة الى
شخصيات يخيّل اليها أن اللجوء الى العنف أفضل الحلول. لكن هذا اللجوء لا
يزيدها
إلاّ بلاهة وغباء في عيون الآخرين. وما "سفلة مجهولون" الا
تأكيد لتأكيد، خطاب جديد
على خطاب قديم، تأثير فوق تأثير، وأحياناً تأثيرات متضاربة.
في
البداية هناك رجل وأفراد عائلة يقيمون على تلة في قرية ابان
الاحتلال النازي
لفرنسا. لا يذكّرنا مشهد الافتتاحية هذا بأفلام الوسترن سباغيتي، اذ لا
اشارة
مباشرة منها واليها، لكن اذا اصررنا ان نراه من ذلك المنظار، فيمتزج حينذاك
الاستيهام السينيفيلي بالواقع، ونبدأ برؤية أشباح وظلال من
أفلام أخرى في كل وحدة
تصويرية. انها مسألة ارادة ورغبة. الامتحان الاسلوبي يبدأ منذ اللقطة
الاولى. لا
يحتاج تارانتينو الى أكثر من بضع ثوان ليُمِرّ لنا السر الذي يتأسس عليه
الفيلم
برمته: نحن في كوكب سينمائي متكامل لا نحتاج فيه الى الواقع.
هذا الواقع هو
ليُستلهَم لا ليكون ديكتاتوراً على مخيلة فنان. أفلام تارانتينو كانت
دائماً
نموذجاً في قراءة الدال والمدلول في لغة السينما، لشدة زحمة المراجع
والاستنادات
والغمزات التي تتيه فيها السيرورة الدرامية. لكن في لقطة
الافتتاحية، وهي بالتأكيد
الأغرب في مساره، ثمة محاكاة حتى للمحاكاة. انها محاكاة فوق محاكاة ممتلئة
بغمزات
سينيفيلية مزروعة في كل مكان وفي اللامكان، والبصيرة لا تملك الوقت الكافي
لالتقاطها واستيعابها، نتيجة الاشياء الكثيرة التي تحدث هنا
وهناك.
في اولى هذه
اللقطات اذاً، هناك غريب يأتي ليعكر صفاء عيش إحدى العائلات (في هذا الباب
ربما
نعثر على الاستعانة بأبجدية الوسترن). انه الكولونيل النازي
هانس لاندا (كريستوف
والتز، جائزة التمثيل عن جدارة في الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ) المعروف
لكونه
صياداً ذائع الصيت لليهود. هوذا نموذج للكولونيل الشرير والسادي الذي، بعد
20 دقيقة
من حوار متكلف وغريب بينه وبين رب عائلة فرنسي يخفي يهوداً في قبو منزله،
يكتشف
أخيراً اين يختبئ هؤلاء، فيأمر رجاله بقتلهم، فنراهم يرمونهم
بالرصاص من خلف أرضية
المنزل الخشبية. لا يرفّ له جفن، طبعاً لأنه نازي وخسيس! لكن ما يحصل في
تلك
اللحظة، وهذا ما يتيح للفيلم أن يكون، هو افلات فتاة من المجزرة الجماعية،
لنراها
اصبحت، بعد اختزال زمني، صاحبة سينما في احد الاحياء الباريسية.
لن ندخل في
تفاصيل الحكاية لئلا نفسد عامل المفاجأة لدى المشاهد المحتمل، لكن القارئ
الحذق
يستطيع أن يكتشف أن لدى هذه الفتاة الفرنسية اليهودية التي
تدعى شوشانا (ميلاني
لوران)، صاحبة الصالة التي تعرض فيها مضطرة أفلاماً تغازل النازية
(رييفينشتال
نموذجاً، ولكن ليست وحدها)، رغبة جامحة في الانتقام من قتلة عائلتها. مذذاك
ستتوافر
امامها كل الظروف العبثية لتحقيق هذا الانتقام، ولا سيما عندما تدخل على
الخطّ زمرة
السفلة المجهولين (أميركيون يهود) الذين يأتون الى فرنسا ليقتلعوا فروات
رؤوس
النازيين، مستخدمين أساليب قتل أعنف بكثير من اساليب أعدائهم
(الغمزة السياسية
الجميلة لتارانتينو الى الحاضر)، الشيء الذي يتيح تصعيد حدّة العنف الى حدّ
تحولها
كارتونية في أماكن عدة، ولا سيما في الثلث الأخير من الفيلم.
هؤلاء اللقطاء (هكذا يدعوهم عنوان الفيلم الذي ينطوي على
خطأ املائي مقصود،
Basterds
بدلاً من
Bastards)
الذين يتأكلهم احساس الضغينة والحقد، يترأسهم الضابط المخبول والغريب
الأطوار الدو راين (براد بيت في دور هجين ولكنة ظريفة جداً). هؤلاء يقررون
الانضمام
الى ممثلة المانية اسمها بريدجيت فون هامرسمارك (ديان كروغير)
وخصوصاً عندما يعلمون
أن ثمة فيلماً بروباغانديا مستوحى من "بطولات" جندي نازي شجاع قتل وحده
المئات،
يغازل بدوره شوشانا، وأن هذا الفيلم سيُعرض في حفل تمهيدي في حضور أدولف
هتلر (نعم
هو!) وجوزف غوبلز وحشد من النازيين، مما يشكل مناسبة لا تفوّت
لتصفيتهم. لكن ليس
وحدهم السفلة من سيستغل هذه المناسبة التي ستشكل قمة الفيلم، لكونها ستجري
داخل
ظروف استثنائية تعجب خاطر تارانتينو وتعكس رؤيته لسلاح السينما الهدامة.
وطبعاً
تشبيه السينما بسلاح هو فكرة فضفاضة قائمة على المبالغة، اذ ان
الفنّ لا يستطيع
شيئاً أمام النار والرصاص. لكنها فكرة رومنطيقية يطلق من خلالها تارانتينو
عنان
مخيلته. وحسناً يفعل.
اذاً كل شيء معدّ سينمائياً: عملية تصفية هتلر تحمل اسم
"كينو"، أي "سينما". مكان المجزرة هو صالة مظلمة. العميلة المزدوجة
التي لها يد في
انزال العقاب بالديكتاتور، هي ممثلة. الاداة التي ستستخدم في قتلهم هي
بكرات أفلام
سريعة الاشتعال. هذا كله يشعل عند تارانتينو، أولاً، رغبة لا تضاهى
بالتسلية
والتهكم، ويتيح له ثانياً، أن يرتّب لنفسه مكانة خاصة وسط هذه
المعمعة التاريخية
ومناقشة دوره فيها. غني عن القول أن الإقفال على نخبة من نازيين مبتهجين
بمشاهدة
فيلم يمجد انتصاراتهم في داخل صالة، وحرقهم، عملية كيدية ستتيح لتارانتينو
أن يحلّق
بنصه عالياً. العنف هو مفتاح العبقرية عند هذا المخرج، وهو
كذلك عند بكينباه.
هذا الفصل من الفيلم الذي يعبره تارانتينو كجندي يعبر حقل ألغام لكن من دون
أن
يضع رجله على أيٍّ منها، ممسوك بقبضة حديد، إخراجاً وتوتراً
مؤسلباً. صوت الرصاص
المرافق للفيلم التمجيدي المعروض على الشاشة، لا يسكت: بانغ بانغ بانغ،
بانغ بانغ
بانغ، بانغ بانغ بانغ! الكونتراست اللعين يحضر من حيث لا نتوقعه، أي على يد
الجندي
النازي الذي تحولت أفعاله فيلماً. فعندما يترك الفيلم ويصعد
الى غرفة
الـ"بروجيكسيون" ليعلن ولعه بشوشانا، هي اليهودية، نرى من الجانب الآخر
للزجاجة
الفاصلة، تجسيده السينمائي مواصلاً قتل اليهود، فيما تتابع اصداء البانغ
بانغ بانغ
على الشاشة.
تارانتينو، مخرج نسائي الى الآن، يضع المرأة المصرة
دائماً على ان تكون الاشياء على قاعدة العين بالعين والسن بالسن، أمام
التضحية
الكبرى والخيار الأصعب: الموت في سبيل الذاكرة. لكن شوشانا هي يهودية
بالمصادفة.
وما تقوله عن انتقامها الذي سيسكن ضمير العالم وضمير السينما، ليس سوى مزحة
ولا
يمكن تحميله معاني كبيرة. السبب بسيط: تارانتينو تعرّف الى الانتقام قبل أن
يعرف
شوشانا! لكن دعونا لا نغفل عن حقيقة أخرى. تارانتينو، وبأقل قدر من
المعاداة
للسامية، يقول إن السينما المتهمة دائماً بانحيازها الى اليهود
(لأن نخبة صنّاعها
هم يهود)، هي وحدها السينما التي تغيّر المعادلة. هل من معارض؟
على مستوى الشكل
المعتمد، يبقى تارانتينو مخلصاً لثلاثة محاور على الاقل في هذا الفيلم حيث
الكل
يحكي لغته ولغة الآخر، وهي: حاجته الدائمة الى تحويل العالم
شاشة مستطيلة اذ لا شيء
خارجها له القيمة نفسها مما لو كان داخلها؛ الفيتيشية المرضية التي تتجسد
بقدم
الممثلة الالمانية التي اصيبت بالرصاص خلال المشهد الحواري المديد في
المخمرة والذي
ينتهي بجولة بانغ بانغ بانغ أخرى؛ اللجوء الدائم الى الحوار
الموتور كبلورة درامية.
مع ذلك كله، لنكن واقعيين. الخطاب لا أخلاقي ولا تربوي ولا ادانة للنازية
او اعادة
اعتبار الى ضحايا المحرقة، وان مَن يقف خلف الانتاج هو هارفي واينستين،
اليهودي
الأصل. المسألة هنا محض سينمائية. القضية الوحيدة في الفيلم هي السينما.
صورة هتلر
الكاريكاتورية تأتي من "الديكتاتور العظيم" (1940) لشابلن أكثر
مما تستند الى أرشيف
التلفزيون. وهذا ليس بجديد عند صاحب "جاكي براون". مَن يعتقد ان تارانتينو
يأبه
كثيراً لليهود ومصابهم، وللنازيين وشرّهم المطلق والبدائي، فليشاهد الفيلم
مرة
واثنتين وثلاثاً، الى أن يكتشف في الخاتمة ان الرجل ذو عقلية
سينيفيلية ضيقة
ومتعصبة، لكن خلاقة ومخربة، وان لا همّ عنده يعلو فوق همّ الفن السابع الذي
انقذه
من براثن الحياة الخانقة وشرورها، مثلما ابعده من الالتزامات الانسانية
والاخلاقية
التي لا دخل له فيها، طالما لا تراقَب من خلال بؤرة، بؤرة
الكاميرا.
تارانتينو
فقد الأمل بالانسانية الرعناء، لكنه لا يزال قادراً على جعل شرورها فعلاً
كاريكاتورياً مبدعاً الى ابد الأبدين. هذه سينما "ماذا لو"،
قائمة
على الحوار الذي
يعيد موضعة بعض المفاهيم، وقائمة أيضاً على الثرثرة الخلاقة واللقيات، اذ
لا عجب أن
نسمع في نهاية الفيلم وعلى لسان براد بيت عبارة "اعتقد ان هذه هي تحفتي
الفنية"،
بعد أن يكون قد حفر صليباً معكوفاً، من دم ولحم، على جبين الكولونيل
النازي، قبل
استرداده الى أميركا. هنا ثمة تماهٍ بين المخرج وبطله الدموي الضاحك.
يختلفان في كل
شي بدءاً من فاشية الاسلوب حتى الرعونة في تطبيقه، لكن يتفقان على تحويل
الجريمة
مادة، وليس أي مادة، بل مادة يُحتفى بها. معروف عن الدمّ انه يفسد معنى
الأحلام.
بينما في سينما تارانتينو (كما أيضاً لدى سكورسيزي) ما إن ينزف أحدهم حتى
يتحرر
الفيلم!
(
hauvick.habechian@annahar.com.lb)
فخّ بوليسي وإقامة جبرية وعرائض: سيناريو قذر لمخرج
الروائع
بولانسكي مرغوب ومطلوب!
أميركا مفلسة هذه الأيام. حربها على العراق عادت عليها بضرر تُرجم عسكرياً
واجتماعياً واقتصادياً. رئيسها الجديد لم يفعل شيئاً سوى
الكلام والوعود كسائر قادة
العالم. الشركات انهارت كما هي حال أسهم البورصة. بن لادن لا يزال حراً
طليقاً في
جبال تورا بورا. انتكاسات الدولة الأقوى نفوذاً لا تنتهي. جلس بعض
الاداريين فيها
يقولون: لا بدّ من فعل شيء ما. ماذا لو ألقينا القبض على رومان بولانسكي؟
فكرة
جيدة، أليس كذلك؟ ملفّه لا يزال مفتوحاً. قضاؤنا اتهمه بالتحرش
الجنسي بفتاة قاصرة.
الرجل هرب من وجه العدالة. يجب اعادة الهيبة الى قضائنا ولو بعد ثلاثة
عقود. "هيك
وهيك ما عنا شي نعملو". يجب النيل منه ليتعلم العالم درساً لن ينساه. أيعقل
أن نكون
نحن الأميركيين الأضعف شأناً في هذه القضية؟
هذا هو السيناريو الأكثر احتمالاً
في عملية القبض على المخرج الفرنسي البولوني الأصل البالغ 76 عاماً في مطار
زيوريخ
مساء السبت الماضي، وهو ذاهب الى مهرجان سويسري كان يعدّ له تكريماً عن
مجمل
أعماله. نُصب له الفخّ. على رغم حنكته التي جعلته يتجنب طوال
سنوات الذهاب الى
البلدان المتواطئة مع نظام تبادل الخدمات الأميركي، وقع المخرج الكبير في
مكمن
بوليسي سيصعب عليه الخروج منه. لم تتسع أوروبا لأحلامه فاخترق الحدود
المسموح له
بالتجول في داخلها، وكان ما كان. الانكى أن يحصل هذا في اطار تكريم له وضمن
تظاهرة
سينمائية جديرة بالاحترام.
أراد القدر ان يحصل توقيف بولانكسي بعد أيام من
وفاة احدى النساء اللواتي قتلن زوجته السابقة شارون تايت الحامل في شهرها
الأخير.
مأساة عام 1969 المعروفة في حياة بولانسكي، فصولها حاضرة في فيلمه "طفل
روزمايري"
ولو مواربة. فإحدى ميزات بولانسكي الشهيرة أنه يستثمر تجاربه الخاصة لمصلحة
سينماه.
وكان قتلة شارون، وفي مقدمهم المختل عقلياً
تشارلز مايسون، كتبوا بدم المغدورة على
باب المنزل وهم يغادرونه كلمة "خنزير". هكذا تحول الحلم
الأميركي للشاب رومان
البالغ الثلاثينات من العمر انذاك كابوساً سيظل يتعقبه الى يومنا هذا. تضاف
هذه
المآسي الى مجموعة اوجاع دامغة ولدت عنده مذ كان صبياً في
العاشرة، وهو العمر الذي
انفصل فيه عن والدته التي اخذت الى معسكرات التعذيب النازية... ولم يرها
مجدداً.
الرجل واجه أيضاً الرقابة الستالينية عندما
كان في بولونيا. رحل منها ولم يعد. أكثر
النقاد المقربين منه يعزون تمرده وطباعه الحادة الى ما عاشه في
حياته. فسينما
بولانسكي كانت ولا تزال مهمومة بانحطاط الانسان عبر الازمنة والعصور. أظهر
مراراً
في افلامه ماذا يفعل الشر عندما يمسك بالعقل. له تحف سينمائية خالدة، نرى
انفسنا
مجبرين على تعدادها، في هذه المناسبة المشؤومة: "نفور" (1965)؛
"تشايناتاون"
(1974)؛ "تيس" (1979)؛ "فرانتيك" (1988)؛ "عازف البيانو"
(2002)...
يقال ان
الموضوع أخلاقي صرف ولا يحق لنا التدخل فيه، لأننا لا نعرف تفاصيله. نعم،
انه موضوع
أخلاقي بلا شك. فهل من عاقل يدافع عن تحرش جنسي بمراهقة في
الثالثة عشرة؟ هذه
مناقشة باتت خلفنا منذ زمن طويل. لكن ليس صحيحاً أننا نجهل تفاصيله، بل
نعرفها
جيداً. وكيف لنا أن ننسى تلك الحادثة التي انكبت عليها العام الماضي
المخرجة مارينا
زينوفيتش من خلال وثائقي خصّت به المخرج واسمه "رومان
بولانسكي: مطلوب ومرغوب". في
هذا الفيلم تأخذنا زينوفيتش الى ما خلف الاقاويل والشائعات الشعبية التي
طالت قضية
بولانسكي. فنكتشف الأتي: عام 1977 طلب بولانسكي تصوير العارضة المبتدئة
سامانتا
غيمر (كانت في الـ13 ولكنها في مظهرها الخارجي تبدو أكبر سناً)
للطبعة الفرنسية من
مجلة "فوغ" للموضة. بعدما تلقى دعم والدة الفتاة وتشجيعها، دعاها بولانسكي
الى منزل
جاك نيكلسون الذي كان غائباً (كان صوّر معه رائعته "تشايناتاون" قبل ثلاثة
أعوام)،
وهناك الجدران وحدها تعلم حقيقة ما جرى. لكن الرواية الاقرب الى الواقع،
بحسب
الفيلم، تقول إن بولانسكي والفتاة تناولا نوعاً من المخدرات (لا تنسوا اننا
في حقبة
السبعينات حيث راجت كل أنواع المخدرات في الاوساط الهوليوودية)، ثم مارسا
الجنس
معاً، علماً ان الفتاة كانت راضية عن العلاقة. بعد شكوى
الوالدة، جرى توقيف
بولانسكي واتهامه بالاغتصاب. رفض بولانسكي هذا الاتهام ولم يعترف الا
بالعلاقة
الجنسية مع فتاة لم تبلغ بعد السن القانونية. الاعتراف خفف من وطأة العقاب،
ووصل
الطرفان الى نوع من تسوية قضت بإسقاط الحق عن المتهم بعد 42
يوماً أمضاها خلف
القضبان. اذاً، عملياً نال بولانسكي عقابه الاول. أما عقابه الثاني فكان
الذل
والمنفى طوال ثلاثة عقود. الا يكفي هذا الكم، أم أن المطلوب هو الكرسي
الكهربائي؟
لكن ما زاد الطين بلة أن بولانسكي قرر في ليلة بلا ضوء قمر، الفرار من
الولايات
المتحدة في اتجاه لندن. الخطوة التي أقدم عليها، اعتبرت فضيحة
في الاوساط الأميركية
انذاك. لكن بولانسكي كان يعلم جيداً ما يفعله، ويعرف ان الفرار أفضل من أن
يبقى على
الارض الاميركية، ذلك أن الجميع يريد، لأسباب غامضة ولكن أكيدة، تمريغ هذا
الشيوعي
في الوحل، والقضاء على مصيره السينمائي. علم بولانسكي أنه
سيعود الى السجن حتى لو
خرج منه لفترة موقتة. أهمية فيلم زينوفيتش انه يظل موضوعياً من دون أن
يمتدح
المخرج. الأهم انه يفضح وجود شخصية محورية في هذه القضية وهي القاضي لورنس
ريتنباند
المتوفى اليوم، وكان المتخصص في الدعاوى القضائية التي تطال
شخصيات من الـ"شو
بيزنس" الهوليوودي. هذا الرجل كان يعاشر كبار القوم في عاصمة السينما
العالمية
وأكثر ما كان يهمه هو تلميع صورته امام الرأي العام. ويكشف الفيلم ان
عنجهية هذا
القاضي خلف امتناعه عن الاذعان لرغبة الطرفين في تجنب
المحاكمة، لأنه كان يريد أن
يبدو نجم وسائل الاعلام، مستسيغاً رغبتها الجمة في تحقير صيت مخرج خارج
السرب
الأميركي. وسائل الاعلام نفسها كانت قد اتهمت بولانسكي جزافاً بالضلوع في
مقتل
زوجته شارون، أو على الاقل لمّحت الى ذلك، بعدما استندت الى
مظاهر الوحشية الموجودة
في أفلامه (!). اذاً، شخصن القاضي الدعوى، وتعامل مع بولانسكي هدفاً ينبغي
قمعه
وارساله الى الزنزانة بأي ثمن. حتى خصوم بولانسكي يعترفون في الفيلم أن
القاضي
استغل موقعه ونفوذه. فما ان علم بولانسكي بسوء نية القاضي، ولا
سيما انه كان يخطط
لاعادته الى السجن، حتى لاذ بالفرار.
أشياء كثيرة تغيرت منذ ذلك التاريخ:
الفتاة صارت امرأة متزوجة وربة منزل في الخامسة والاربعين من العمر. لم تعد
تريد
حتى السماع عن هذه الحادثة معتبرة ان الوقت الذي امضاه بولانسكي بعيداً من
هوليوود
هو في ذاته عقاب له. الدعوى على بولانكسي سقطت. والعفو العام صدر أيضاً.
لكن القضاء
الاميركي لا يزال يطالب به، ولا يزال المخرج في المرصاد الأميركي. وبات
الجميع في
مواجهة آلة خرجت على السيطرة وصارت تعمل من تلقاء نفسها! أما
سويسرا، التي يملك
فيها بولانسكي شاليهاً في مركز غشتاد للتزلج، فيبدو ان مصالحها تطابقت مع
المصلحة
الأميركية. في حين أن جارتها فرنسا تفعل المستحيل عبر وزير ثقافتها
فريديريك ميتران
للافراج عن مواطنه. انتقادات شعبية واسعة المدى استهجنت دفاع ميتران الاعمى
(تحدث
عن وجه من وجوه أميركا التي تثير الرعب) عمن يعتبرونه "بيدوفيلاً"، علماً
ان أزمة
ديبلوماسية تلوح في الافق بين هذه البلدان اذا تطورت المسألة. حتى كوشنير
في مساعيه
للافراج عن بولانسكي، لم يكن بمنأى من انتقادات اليمين المتطرف.
ما هي الخلفيات
الحقيقية لهذه القضية التي تلهي عالم السينما، اذ بات القاصي والداني يعطي
رأيه
فيها من دون أن يكون مطلعاً على أيٍّ من التفاصيل؟ حتى صحف
أميركية من مثل "لوس
أنجلس تايمس" تساءلت عن "أهمية خلق جدال حول قضية أكل عليها الدهر وشرب، في
حين أن
ولاية مثل كاليفورنيا تعاني أزمات انسانية كبيرة كالبطالة وتدني الموازنة
المخصصة
للتعليم". أما مانشيتات الصحف السويسرية فلم تكن أفضل حالاً. "لو تان" قالت
ان
سويسرا لا تحتاج الى فضيحة جديدة، ولا سيما أن صورتها في العالم اهتزت بعد
قضية
القذافي ومصرف
UBS.
أما "لو ماتان" فلمحت الى ان هناك علاقة بين توقيف بولانكسي
ومتاعب سويسرا في الولايات المتحدة التي أجبرت مصرف
UBS
في الفترة الأخيرة على ان
يعطي الأميركيين اسماء زبائن لديه متهمين باختلاسات ضريبية.
وبعضهم الآخر ذهب حتى
الى وصف عملية التوقيف بأنها معيبة لأن بولانسكي كان يدخل سويسرا بصفته
ضيفاً
مكرماً.
فماذا تريد أميركا من بولانسكي؟ محاكمة على طريقة فرانز كافكا؟
من السينمائيين والفنانين المتضامنين مع قضية رومان
بولانسكي الذين وقّعوا عريضة تطالب بالافراج عنه:
وودي آلن، مارتن سكورسيزي، ديفيد لينش، كوستا غافراس، مونيكا بيللوتشي،
وانغ
كار - واي، فاني أردان، ايتوري سكولا، فيم فاندرز، بيدرو
ألمودوفار، أليخاندرو
غونزاليث ايناريتو، كلود لولوش، طوني غاتليف، بيار جوليفيه، جيل جاكوب،
برتران
تافيرنييه، جيوزيبي تورناتوري، عبد الرحمن سيساكو، جان - جاك بينيكس،
ميكيلي
بلاتشيدو، باولو سورنتينو، باربيت شرودر، ايزابيل أدجاني،
ميلان كونديرا، برنار
هنري ليفي، ألان تانير، أورسولا ماير، دارن أرونوفسكي، الأخوان داردين،
تيري
غيليام، كلود لانزمان، مايكل مان، جوناثان ديم، تييري فريمو، جان مورو،
تيلدا
سوينتون، آسيا أرجنتو، الخ.
هـ. ح.
مهرجان
كوبولا ضيف مهرجان بيروت
تُعقد في بيروت
بدءاً من الأربعاء المقبل الدورة التاسعة لمهرجان بيروت السينمائي الدولي
في سينما
أمپير - متروبوليس (صوفيل). جرياً للعادة، ترفع المديرة كوليت نوفل سقف
الطموحات
عالياً. اذ وجهت دعوة الى المخرج الأميركي الكبير فرنسيس فورد كوبولا ليأتي
الى
بيروت ويفتتح فيها عرض فيلمه الرائع "تيترو"، الذي قدمه سيد
سينما المافيا في
الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ ("اسبوعا المخرجين"). ولتحقيق هذا الهدف،
نالت نوفل
دعماً مالياً من النائب سعد الحريري، هي المعروفة بشطارتها الدائمة في
استقطاب
الممولين غير السينمائيين. وبما أن كوبولا لم يأخذ أذناً
مسبقاً من السلطات
اللبنانية المعنية ليحط بطائرته الخاصة في مطار بيروت، فسيحط أولاً في
الاردن، ومن
هناك يستقل طائرة أخرى للوصول الى لبنان.
مجيء كوبولا الى بيروت بطيارة خاصة
حقيقة أو فانتاسم مهرجان انتُقد كثيراً في الصحافة اللبنانية؟ ينبغي
الانتظار حتى
منتصف الاسبوع المقبل للرد على هذا السؤال، ولا سيما أن ماضيه حافل بالضيوف
والمدعوين الذين اعتذروا عن عدم المجيء في اللحظة الأخيرة، مما
جعل نوفل تفكر في
أحدى الدورات السابقة (دورة 2004 التي الغيت) بفرض بند جزائي على كل من
يعتذر عن
عدم تلبية الدعوة. اذاً، في انتظار مخرج "العراب" في بيروت، كشفت نوفل أمس
في مؤتمر
صحافي عقد في فندق "ألبرغو" عن مضمون برنامج الطبعة المقبلة (7 - 14
الجاري). هناك
في البانوراما الدولية أفلام لتاكيشي كيتانو وميا هانسون لاف وجيم جارموش
وآنغ لي
(ختاماً).
هؤلاء أكثر السينمائيين شهرة. الباقون اسماء غير معروفة، قد يكون جيداً
اكتشافها وقد تكون اختيرت فقط لمستلزمات تكملة العدد كما كانت الحال في
الدورات
السابقة. كذلك يخصص المهرجان استعادة للايطالي باولو بنفينوتي
بأربعة أفلام.
النهار اللبنانية في
01/10/2009 |