انتهت الدورة التاسعة
لـ «مهرجان بيروت الدولي للأفلام الوثائقية» مساء أمس الأربعاء. وزّعت
الجوائز علىمخرجي الأفلام الفائزة، التي اختارتها لجنة تحكيم مؤلّفة من
الثلاثي مرسيل برسودير
(أحد
المؤسِّسين الاثنين للمهرجان، إلى جانب مديره محمد هاشم) وحبيب حمّود وكيفن
توليس (مخرج «سيارة مفخّخة»، المُشارك في الدورة الأخيرة هذه). أثيرت
تساؤلات شتّى
حول العودة المفاجئة والبرمجة التي ضمّت مئة فيلم، كتعويض ما عن الغياب غير
المفهوم
وغير المبرَّر للمهرجان في العامين الفائتين. تنوّعت الاختيارات. استقطبت
الأفلاممشاهدين مختلفي الميول الثقافية والاهتمامات الفنية. عالج
المخرجون قضايا سياسية
وإنسانية واجتماعية وبيئية متنوّعة. تعثّرت الأيام الأولى على مستوى الحضور
الجماهيري، لكن أياماً أخرى شهدت إقبالاّ جيّداً إلى حدّ ما، أو بالأحرى
قياساً إلىمكانة الفيلم الوثائقي في المشهد اللبناني، وإلى علاقة هذا
النوع السينمائي
بالمشاهدين.
تردّد أن «جهاز الرقابة على المصنّفات الفنية» في «المديرية العامةللأمن العام» رفضت السماح بعرض فيلمي «سيارة مفخّخة» و«عندما
تكلّم الشعب، الجزء
الثالث» للمخرج الكويتي عامر الزهير. قدّم الأول تأريخاً بصرياً للسيارات
المفخّخة،
التي شكّلت السلاح الإرهابي الأخطر لغاية اليوم، مروراً بالأحداث الأمنية
والسياسية
الأكثر استخداماً لهذا النوع من العمليات الإرهابية والاغتيالات العنيفة.
اعتبرالقيّمون على «الأخلاق الحميدة» في هذا البلد المُستباح
بجوانبه كلّها ومستويات
العيش المتفرّقة، أن فيلماً كهذا ينال من سمعة لبنان، ويضعه في مصاف الدول
الإرهابية، ويشوّه نضارة الثلوج الهاطلة على جباله والمقيمة في نصاعة
العلاقاتالداخلية بين اللبنانيين، بامتداداتها الإقليمية والدولية. غاص
الثاني في الفساد
السياسي والانتخابي في دولة الكويت. حلّل الواقع المزري. ناقش المسائل
بشفافية. أتاح للشباب الذين يقاومون هذا الفساد
الانتخابي وشراء الأصوات فرصة التحدّث عن هذهالمشاكل. أراد المخرج أن يكشف وجهاً من وجوه التخبّط العنيف في
الصراعات غير
المشروعة داخل بلده. لكن جهاز الرقابة اللبنانية نفسه وجد الفيلم اعتداءً
صارخاً
على دولة شقيقة، وتشويهاً فظيعاً لسمعتها الديموقراطية. فاز الفيلم المذكور
بجائزة
لجنة التحكيم الخاصّة بالدورة الثانية لـ «مهرجان الخليج السينمائي»، التي
أقيمت في
دبي قبل أشهر قليلة. جهاز الرقابة المحلية أكثر وعياً من أي دولة خليجية
أخرىبمصالح الخليجيين. اعتاد أن يكافح كل ما من شأنه الإساءة إلى
لبنان، فاكتسب خبرة في
تحصين سمعة البلد من أي اعتداء ثقافي وفني وإنساني ومدني، ما جعله يختبر
آليات
تعطيل أي صوت ديموقراطي حرّ، يفكّك الواقع ويُحلّل الوقائع انطلاقاً من
انتمائهالوطني أولاً وأساساً. مع هذا، عُرض الفيلمان في إطار جماهيري
عادي. إنها محاولة
إضافية لمواجهة التعنّت الرسمي، المرتكز على قواعد بالية وقوانين يُفترض
بها أن
تُلغى لمصلحة قوانين عصرية وحديثة.
سياسة
ليست السياسة وحدها معرّضة
للمساءلة الرقابية. أو محرّضة لنقاش نقدي وسجال جماهيري. هناك أفلام
متفرّقة حظيت
بمشاهدة سليمة، وإن كان عدد المشاهدين قليلاً. غير أن السياسة كامنة في
تفاصيلالعيش اليومي كلّها. لا يُمكن للمرء أن يعاين واقعاً عربياً
ما، من دون أن تكون
السياسة حاضرة. فالأزمات الاجتماعية والتربوية والحياتية والمعيشية وغيرها
مرتبطة،
بشكل أو بآخر، بالسياسة وأنظمتها وكيفية إقامة الحكم على الناس. والسياسة
ليستمجرّد بحث في أعمال سياسيين. إنها فاعلة في أنظمة العيش
والتربية والاجتماع
والاقتصاد والثقافة أيضاً. لذا، فإن فيلماً بعنوان «فُلّة، امرأة من دمشق»
(إنتاج
دانماركي سوري مشترك، 2008) لديانا الجيرودي يُعتبر «سياسياً»، لأنه حلّل
واقعالعيش الاجتماعي للمرأة السورية/ العربية في مجتمع محافظ
وتقليدي، من خلال معاينته
ظاهرة «فُلّة»، اللعبة المقابلة لـ «باربي»، الناشئة في وسط اجتماعي وتربوي
وثقافي
عربي إسلامي متزمّت. و«من مخلّفات الحرب» (لبنان/ الولايات المتحدّة
الأميركية،
2009) لجواد متني، يندرج في سياق سياسي ما، على الرغم من اهتمامه المباشر
بالعاملين
في شركات وجمعيات ومؤسّسات دولية معنية بتفكيك القنابل العنقودية
الإسرائيلية،
المرمية في جنوب لبنان قبيل انتهاء الحرب الدموية صيف العام 2006. فالحالةالاجتماعية والعلاقات الإنسانية والتفاصيل الاقتصادية وأنماط
العيش التي صوّرها
الفيلم، بالإضافة إلى آليات العمل في هذا المجال، والبحث عن القنابل وتفجير
بعضها
ومقتل أناس أبرياء جرّاء انفجارها بهم، أمور مساقة في إطار سياسي مبطّن،
لأنه قريبٌمن، أو بالأحرى لأنه في قلب الصراع اللبناني الإسرائيلي،
بجوانبه المختلفة. في
الإطار نفسه، هناك مثلٌ ثالث (والأمثلة كثيرة)، متمثّل بالفيلم اللبناني
«كاوبوي
بيروت» (إنتاج فرنسي لبناني مشترك، 2009) لداليا فتح الله: اللقاء بوالد
المخرجة،المنجذب منذ شبابه إلى العروبة، مفتوح على أسئلة العلاقات
الشبابية اللبنانية
الآنية بهذا الفكر العروبي وبالناصرية، كما بالولايات المتحدّة الأميركية
والحلم
الأميركي.
أفلام
ارتكزت الأهمية الإنسانية في «فلّة، امرأة من دمشق» علىقدرة المخرجة الجيرودي على تفكيك بيئة اجتماعية متكاملة، بهدوء
وشفافية. ظهرت
الجمالية الفنية في «من مخلّفات الحرب» في براعة المخرج متني في اشتغاله
على
التوليف، بعد تصويره كمّاً لا بأس به من المقابلات والمشاهد، بهدف إظهار
حالاتمتفرّقة ومتكاملة في رسمها ملامح حياتية خاصّة بالجنوب
اللبناني، وبهدف مقاربة غير
مباشرة للعنف الإسرائيلي ووحشيته. انحصر الهمّ الإبداعي في «كاوبوي بيروت»
في مسعى
المخرجة فتح الله إلى فهم العلاقة التناقضية والصدامية بين شباب لبنانيين
والمحيطالسياسي والثقافي والإنساني المقيمين فيه. اختارت ديانا
الجيرودي امرأة واحدة كي
تحفر عميقاً في مجتمع مائل إلى خصوصيته التقليدية المحافظة والصارمة،
فقدّمت شهادة
بصرية عن مناخ قاس فشل في منع المرأة المحجّبة من ممارسة قدر كبير من
حريتهاالفردية. بدا جواد متني مهموماً، في المرتبة الأولى، بتقديم
صورة واضحة عن العاملين
في إحدى أخطر المهن (تفكيك القنابل العنقودية)، لكن فيلمه هذا انفلش على
مساحة
انسانية واسعة، وعلى أزمة العيش اللبناني وسط حقول القتل الدائمة. تناولت
داليا فتح
الله مسألة حسّاسة في الوجدانين الفردي والجماعي في لبنان، من خلال نماذج
منتميةإلى جيلين مختلفين، كي تقرأ الحالة الآنية المرتبكة. لكن
فيلمها الوثائقي الثاني
هذا (فيلمها الأول «مبروك التحرير»، انطلق من لحظة الانسحاب الإسرائيلي من
جنوب
لبنان في العام 2000، كي يروي وقائع العيش في المرحلة اللاحقة لهذا
الانتصاراللبناني) بدا ضائعاً بين ثرثرة تحليلية لا تخلو من بعض
التصنّع لدى جيل من الشباب،
وإطالة بصرية لا طائل لها في نصّ سينمائي محتاج إلى تكثيف درامي بدلاً من
طرح
عناوين كثيرة.
في الجانب النقيض لهذه الأنماط/ النماذج، المستلّة من لائحةالأفلام المئة المختارة للمشاركة في المسابقتين الرسميتين
العربية والدولية
الخاصّتين بالدورة التاسعة، هناك «محمود درويش، ونحن نحبّ الحياة» (فرنسا،
2008) لجان آسيلماير و«طعم الثورة» (فلسطين،
2008) لبثينة خوري. فيلمان تلفزيونيانبامتياز، شكلاً بصرياً ومعالجة فنية. فيلمان يسردان معلومات،
ويحاوران أناساً
معنيين بالموضوعين، ولا يخرجان من التبسيط الشديد الحضور فيهما. قدّم الأول
مقتطفات
من حوار طويل مع الشاعر الفلسطيني الراحل، إلى جانب قراءات مقتضبة باللغة
الفرنسيةمن مقاطع مأخوذة من قصائده، في إطار شكلي عادي للغاية. تابع
الثاني تفاصيل متفرّقة
عن صناعة البيرة في الطيبة، وعن عائلة المخرجة العائدة إلى فلسطين لتحقيق
هذا
المشروع. ظلّ الأول مستوياً في سياق الريبورتاج التلفزيوني المدعّم بصُوَر
ومحاولات
بصرية مفبركة. عجز الثاني عن ربط العودة بمفهوم العيش، وعن الخروج من
الدائرةالضيّقة للتفاصيل الصناعية والخبريات الحياتية إلى رحاب عالم
أوسع، مرتبط
بالتناقضات المختلفة في المجتمع الفلسطيني.
النتـائـج
في ختام الدورة
التاسعة هذه، أُعلنت النتائج التالية: في المسابقة العربية، فاز «ذاكرة
مثقوبة»
لساندرا ماضي بجائزة أفضل فيلم طويل و«ذاكرة وجذور» لفاروق داود بجائزة
أفضل فيلم
متوسط، و«رب البيت» لأَنَس بلاوي بجائزة أفضل فيلم قصير. وفي المسابقة
الدولية، فاز «بلال» لسوراف سارانجي بجائزة أفضل فيلم
طويل، و«الرجل الذي عبر الصحراء» لكوربتماتيوس بجائزة أفضل فيلم متوسط، و«الحياة المنعزلة للرافعات»
لإيفا ويبر بجائزة
أفضل فيلم قصير. ونال «إيجاد المنزل» لكريستوف دالي تنويهاً من لجنة
التحكيم.
السفير اللبنانية في
01/10/2009
كلاكيت
آباء وبنون
نديم
جرجوره
نشأت، في الآونة
الأخيرة، ظاهرة سينمائية وثائقية لبنانية تستدعي قراءة نقدية أولى، ارتكزت
على رغبةمخرجين عديدين في التوغّل العميق داخل البؤس الجماعي، من خلال
الفرد الواحد؛ أو
ربما على وعي لبناني متأخّر بأهمية جعل التجربة الملاصقة بالسينمائي في
داخل عرينه
العائلي مرآة الذات والجماعة. ذلك أن أفلاماً وثائقية عدّة انبنت على جعل
الأب/
الأم، تحديداً، خطّاً درامياً وحيداً للفيلم، ومفتوحاً على الاحتمالات
الإنسانية
والأخلاقية والثقافية والتربوية والحياتية، ما يتيح للمخرج إمكانية تشريح
وقائعوتحليل معطيات متّصلة بالبيئة الضيّقة أو بالجماعة الأوسع.
هذه ظاهرة سينمائية،
على الرغم من أن غالبية الأفلام (القليلة أصلاً) لم تبلغ مرتبة سينمائية
رفيعةالمستوى، بل ظلّت أسيرة تفكّك جمالي أو درامي أو فني أو تقني.
ومع أن المواضيع
المستلّة من التجارب الحميمة للأهل أولاً وللأقارب والجيران ثانياً، تعكس
الكثير من
السمات الخاصّة بالحياة اللبنانية، بتلاوينها المتناقضة والخطرة كافة؛ إلاّ
أنالنسق السينمائي الإبداعي مرتبك وعاجزٌ عن أن يكون المرآة
الفنية السليمة للمضامين
الإنسانية هذه، التي تنذر بعواقب وخيمة، على المستويات اللبنانية كلّها.
لكن
الظاهرة جديرة بالتأمّل في مسألتين اثنتين: قدرة الخاص والحميم على إشاعة
أوصافورؤى عامّة؛ وخطورة ما تعكسه الأفلام، عبر الأهل والأقارب، من
استمرارية المآزق
التي يعانيها بلدٌ مفتوح على الخراب والفوضى والانقطاع الداخلي الدائم. في
الشقّ
الأول، بدت الخطوة جميلة ومهمّة، لأنها تذهب إلى أناس عرفوا أعماراً ومراحلواختبارات شتّى، لكن بعضهم لم يخرج من تقوقع مذهبي قد يكون
عنصرياً في بعض الأحيان،
في حين أن بعضهم الآخر أسير ذاكرة قديمة وابتعاد واضح عن الراهن والآنيّ.
في الشقّ
الثاني، هناك ما يشبه التأكيد الصارم على أن لا خلاص للبلد وناسه، طالما أن
الأجيال
القديمة متمسّكة بانعزالاتها الخانقة، وطالما أن هذه الانعزالات الخانقة
مستمرّة في
إنتاج أجيال متزمّتة ومحاصرة بأصول تربوية واحدة، مع أن أبناء عديدين
مزّقوا أقنعة
عدّة، وباتوا أكبر من أن تختزلهم العائلة الضيّقة، وامتهن بعضهم الإخراج
السينمائي،فعاد إلى العائلة حاملاً آلة التصوير السينمائي، ومتأبطاً
تمرّده وخصوصيته، ودافعاً
الأهل والأقارب والجيران إلى التعبير عن مكنونات نفوس لا تزال مريضة، أي
خطرة.
أفضت العلاقات الصدامية بين مخرجين وعائلاتهم إلى كشف بؤر عدّة من التوتراللبناني الداخلي، بقراءتها جوانب متفرّقة من الأزمات
اللبنانية. فالجماعة الضيّقة،
بتعبيرها عمّا تؤمن به قولاً وفعلاً، بدت كأنها تدين ماضياً ادّعت فيه
تقارباً
إنسانياً فعّالاً في بنية المجتمع والحياة اليومية، وظهرت أصفى وأصدق عند
قراءاتها
الراهن وفقاً لقناعاتها المزمنة، المفضوحة علناً في لحظة الانشقاقات
الداخلية.
والمخرجون، بتصويرهم الجماعة هذه، قارعوا شياطين الأمس واليوم، وباتوا في
الخطّ
الأول لمواجهة طغيان الفكر الانعزالي المنفلش في البيئات الطوائفية كلّها.
أليس
هذا النمط السينمائي شكلاً من أشكال مقاومة الانحطاط اللبناني القاتل؟
السفير اللبنانية في
01/10/2009
كتــاب
«الشاشة...
المرآة»
لإبراهيم العريس
لا شكّ في أن الهمّ
الأبرز لدى الناقد الزميل إبراهيم العريس مرتبط بالحفر عميقاً في بنية
المجتمعالعربي، من خلال قراءاته النقدية المتعلّقة بالنتاجات
السينمائية. ففي كتابه
«الشاشة...
المرآة» (منشورات وزارة الثقافة، المؤسّسة العامة للسينما في دمشق،
سلسلة «الفن السابع»)، قراءات نقدية وسجالية في صلب العلاقة القائمة بين
السينماوالمجتمع في العالم العربي. وعلى الرغم من تنبيهه في مطلع
الكتاب الى أن هذا الأخير
«ليس
تاريخاً للسينما العربية، ولا يتضمّن نقداً تحليلياً لبعض أفلام هذه
السينما»،
فإن العريس يستلّ من الأفلام المختارة ما يُشبع تنقيبه التحليلي في جذور
البيئة
المجتمعية، ويرى أنه إذا كان الكتاب «في بعض فقراته ودراساته يتحدّث عن
«السينماالعربية» في شكل إجمالي، فإنه في الوقت نفسه ليس دعوة إلى
اعتبار هذه السينما سينما
واحدة، بالمعنى العاطفي الرومانطيقي للكلمة».