عندما خرج أول فيلم للمخرج التونسي نوري بوزيد،
'ريح
السد' (1985)، أثار ضجة كبيرة في الأوساط السينمائية العربية، خاصة بين
النقاد
وجمهور المهتمين بالسينما العربية، فاختلفت حوله الآراء وتضاربت، إلى حد أن
البعض
من النقاد المصريين، نعت الفيلم بالصهيونية. وهكذا حصل هذا المخرج على شهرة
واسعة،
في شتى أنحاء الوطن العربي: بأفلامه (ريح السد، صفائح من ذهب،
بزناس، بنت فاميليا،
عرائس من طين..). شهرة أطلقت شرارتها الأسئلة القوية التي تنضح بها
أفلامه.. أسئلة
فكرية أكثر مما هي سينمائية.. أسئلة حول الهوية، والذات، والآخر، إذ من
الصعب إن لم
يكن من المستحيل مناقشة أفلام بوزيد سينمائيا، دون مناقشتها فكريا.
بدأت
فيلموغرافية نوري بوزيد، وانطلقت معها موجة جديدة في السينما التونسية..
موجة أثارت
ولا زالت تثير تساؤلات حول نشأتها ومصيرها. وتضم هذه الموجة إلى جانب نوري
بوزيد،
مجموعة من المخرجين من بينهم: فريد بوغدير، محمود بن محمود،
منصف الدويب.. لا يهم
إن كانت هذه الموجة لا تزال قائمة أو انكسرت وتوقف مفعولها، وإنما المهم هو
السؤال:
على ماذا قامت هذه الموجة؟ وعلى أية أسس؟
فتونس كبلد عربي مغاربي، تعرض
لاستعمار فرنسي. وتخلص منه ـ كباقي بلدان المغرب العربي ـ بالمقاومة
والتضحيات. لكن
لم ينته الاستعمار الفرنسي بخروج جنوده من المغرب العربي، وإنما بقي تأثيره
الثقافي
العام قائما إلى الآن، خاصة على مستوى الذي يهمنا وهو الفكر والذوق اللذان
يشكلان
مظهر وعمق المجتمع.
وباعتبار أن الثقافة العربية المعاصرة، تعيش حالة من الوهن
والضعف المتزايد، بما فيها من الإنتاج السينمائي، فإن حالة التبعية يمكن
ملاحظتها
في العديد من الإنتاجات الثقافية العربية، ومن ضمنها الأفلام
السينمائية. ليس فقط
في أفلام المغرب العربي، بل الأفلام العربية عامة.
حالة التبعية في السينما
العربية، يمكن ملاحظتها لكن بأشكال متعددة، وبمستويات متعددة
أيضا. وصيرورة الخطاب
السينمائي العربي، الخاضع أصلا لمنطق التبعية، أفرزت حالات متنوعة داخله،
ومن هنا
جاءت سينما نوري بوزيد، ومعها الموجة السينمائية التونسية المذكورة،
كاجتهاد فكري
سينمائي في تحليل هذه التبعية وأسبابها وبواعثها التاريخية
والسياسية، وحتى
العسكرية. وكمحاولة لوضع حد لها. لكن وضع الحد هذا لا ينطلق من الدفاع عن
الهوية
العربية وإنما من رفض هذه الهوية، لإلغائها وإعادة تشكيلها أو بنائها من
جديد ـ
وهذا ما يثيرني في هذا السينمائي ـ. ولا ينطلق من الاعتراف
بالفشل والهزيمة
والإقرار بهما، وإنما الإعلان عنهما باعتبارهما إعلانا عن نهاية للثقافة
العربية (الفاشلة). لإعادة تشكيل ثقافة عربية أخرى.
وينطلق من الكشف عن كل شيء.. كل مكامن
الضعف عند العرب. السلطة، مكانة المرأة، العلاقة مع الجسد،
الشعوذة، التربية
والسلطة الأبوية.. الخ.
عندما أنتهي من مشاهدة كل فيلم من أفلام نوري بوزيد:
ريح السد، صفائح الذهب، وحتى فيلم حلفاوين
لفريد بو غدير، ينتابني شعور بالاختناق..
أشعر ان روحي ليست معي.. وأشعر كأنما ألقي بي في هباء، لا أرض تحتي ولا
سماء فوقي،
وكأنني كائن إنساني جرد من كل ما يملك. من تراث وتاريخ وانتماء وهوية. هذه
الأفلام
تشعرني بـ(لا جدوى) و(لا قيمة) كل هذه الأشياء التي ترسخت في
ذهني وعلى الإيمان بها
تشكلت شخصيتي.
لا زلت أذكر مثلا من فيلم ريح السد، الأب الذي حمل العصا وانهال
على ابنه الشاب المقبل على الزواج بالضرب العنيف لمعاقبته، كأنه يعاقب طفلا
ارتكب
معصية عظمى!! بقدر ما حرك فيَّ هذا المشهد مشاعر التعاطف مع
الشاب، بقدر ما حرك
فيَّ مشاعر التقزز والإستغراب من هذه السلطة التي منحها المخرج للأب. فسلطة
الأب في
سينما بوزيد، مجرد سلطة قمعية استبدادية تحت غطاء تربوي. لا تبالي بتاتا
باستقلالية
الفرد. هذه السلطة ـ حسب ما فهمت من حوارات وتصريحات نوري
بوزيد ـ مستمدة من التراث
العربي وتشكل جزءا من الثقافة العربية. وبما أننا نقبل بمثل هذه السلطة
الأبوية،
فلا يمكن للفرد العربي أن يتحرر، أو يستقل بذاته، وبالتالي كيف يمكن لهذا
الفرد
العربي أن يشكل شخصيته كما يشاء، وكيف يمكنه أن يفرض ذاتيته في
الوسط الذي يندمج
فيه؟
لنوري بوزيد قدرة فائقة على التعبير عن أفكاره. كما أن له نفس القدرة
على
الإقناع بواقعية المشاهد واللقطات، ولغته السينمائية تتسم بقدر كبير من
القدرة على
التأثير على المشاهد. لكن أفكاره التي يعبر عنها بحماس واندفاع
شديدين، ينقصهما
الكثير من الدراسة والتحليل قبل التعبير عنها، الشيء الذي يفقدها توازنها
وأحيانا
يضفي عليها تناقضا واضحا. ففي كلمته لمؤسسة ابن رشد للفكر الحر، التي منحته
جائزتها
السنوية والتي تحدث فيها عن العديد من جوانب تجربته السينمائية، يقول مثلا
في
الجانب الروحي والديني معبرا عن تمرده ضد الإسلام: (.. أكثرَ
من 5 سنواتٍ سجناً من
أجل حرية الفكر.. تعلمت أثناءها الكلام بحرية.. تعلمت تدنيس المقدسات بكل
أنواعها..) ويقول أيضا (كان عليَّ أن أؤسس استقلاليتي مرة أخرى بعد تجربة
السجن
والمحاكمة السياسية، أن أكون مسـتقلاً عن العائلة وعن السـلطة،
وعن الدين).
لكنه من جهة أخرى يتحدث عن تمسكه بالإسلام، الإسلام المنفتح والمفتوح
على
الاجتهادات، الإسلام الذي يفتح الباب لتتطور حياة المسلم، فيقول: (إن ما
نعيشه في
السنوات الأخيرة يحتم علينا أن نحللَ ونفهمَ كل الأشكال
والمفاهيم أو الاتجاهات
التي ظهرت باسم الإسلام، وفي غالب الأحيان بصفة عبثيّة مدمرة، كي نعالج ما
يمكن
معالجته، وننقد المعتقـدَ من كل تلوث، ونفرقَ المقدّساتِ عن المصالح
والأهدافِ
الشخصيّةِ والسياسيّة. ويرجع ذلك في نظري أساساً إلى غلق باب الاجتهاد في
الوقت
الذي كان يستوجب فتحَه على مصراعيه، أي بعد وفاة الرسول، منذ
'سقيفة بني سعد'، إذ
أُغلق بابُ الاجتهاد مع باب السنة لإيجاد حلولٍ جديدةٍ لمشاكلَ جديدةٍ
تفرزها
الحياة الاجتماعية في تطورها. علينا أن نعودَ لدراسة ابن رشد وإخوانِ الصفا
والمعتزلةِ والنهضةِ ونأخذ منها ما كان يدفع الفكر إلى الأمام).
والأكثر من هذا،
وما يثير الاستغراب، انه لا يفرق بين المؤمن المسلم والملحد!!! فيقول: (ظهر
في
القرن العشرين اتجاه تماشى مع عصره وأفرز نوعاً جديداً من المفكرين: وهم
المسلمون
الملحدون. لكن هذا الاتجاه أصبح منذ عقودٍ بمثابة جريمةٍ
يعاقَب عليها بالقتل). لا
اعتقد أن أحدا سمع بـ(المسلمين الملحدين) فكلا الكلمتين تناقض الأخرى
تماما.
يتلخص الحديث عن سينما نوري بوزيد، في مسألة واحدة، وهي انه يدعو إلى
حرية الفرد الكاملة واستقلاليته. أي تخلصه الكامل من أي سلطة، دينية كانت
أم عائلية
أم سياسية أم غيرها حتى يتمكن من بناء ذاته كما يشاء وبمفرده. ولكي يتحقق
ذلك لا بد
أن يتخلص هذا الفرد من كل مكوناته الإنسانية: الثقافة، الذاكرة
التراث، العقيدة،
الدين، التاريخ... لأن كل هذه الأشياء لا تعمل إلا على تخلفه وتكبيل قدراته.
إذا تبنى الأطباء هذه الفكرة في استقبال مرضاهم، فسيهيئون القبور لدفن
كل من
جاء لعيادتهم.
فالجسد العربي إذا كان مريضا، علينا أن نبحث له عن علاج يداويه
ليتعافى، لا أن ندفنه ونتخلص منه، ثم نبحث عن جسد آخر.
عندما خرج فيلم ريح السد
خرج جمهور غفير لمشاهدته (حسب رواية العديد من وسائل الإعلام)،
وعندما خرج الفيلم
التالي صفائح من ذهب، خرج جمهور أقل، وأخذ يقل الجمهور مع توالي الأفلام..
لقد بقيت
أفلام بوزيد بلا جمهور، لأن لا أحد يريد دفن الجسد العربي لمجرد انه مريض.
ناقد
سينمائي وتلفزيوني من المغرب
elhamedd@hotmail.com
القدس العربي في
31/08/2009 |