يُنهي المخرج نضال حسن العمليات الفنية
الخاصة بفيلمه الوثائقي 'جبال الصوان'، المُنتج كتعاون مشترك
ما بين أمانة احتفالية
دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008 والمؤسسة العامة للسينما في دمشق، قبل
الانطلاق في
مشروع فيلمه الروائي الطويل 'صلاة الغائب'.
حول تجربته كشاب من جيل المخرجين
الجدد في سورية، كان لنا معه هذا اللقاء.
·
يلحظ المتابع لأعمال نضال حسن
من مشروع التخرّج 'بشرة مالحة'، 'فرح'، 'حكاية كل يوم'، وحتى 'جبال الصوان'
بروز
دور درامي كبير للمكان. ماذا تقول بهذا الخصوص؟
للمكان حضوره القوي في أفلامي
انطلاقاً من قدرته على رسم ما نبحث عنه لدى الشخصيات، حيث أنّ
الانطباعات التي
يُخلفها المكان في الناس تظهر في ما هو مزاجي ونفساني لدى الشخصية، بعيداً
عن رسالة
الهويّة التي قد تحملها بعض الأمكنة. أنا لا أرغب في تناول شخصيات ضمن
أماكن محددة،
والتي قد تبدو مشابهة لجميع الشخصيات الأخرى المؤطرة معها في
ذات المكان. المكان
لدي لا يُفرز الشخصيات أو انتماءاتها، وإنما هو طريقة لفهم شخصية أو موضوع،
وهذه
المعرفة تسلّم المتلقي مفاتيح الفيلم كما تساعده في تحديد آليات التلقي.
من جهة
ثانية، أنظر إلى المكان باعتباره حاملاً للثقافة البصرية الخاصة بالفيلم،
إذ أنّ
لكل مكان ألوانه الخاصة به. في فيلم 'بشرة مالحة' كان هناك ميل إلى الأصفر
الحراري،
في حين اتجهت نحو الأخضر الجبلي في 'جبال الصوان'.
·
كيف تتعامل مع الصمت في
أفلامك؟
بالنسبة لي، الصمت مجال لسماع الشخصية بشكل صحيح. حتى في حياتنا
اليومية
فإننا نتابع تفاصيل محدثنا الجسدية والحركية، وصولاً إلى نبرة الصوت أكثر
مما نتابع
المفردات اللغوية بذاتها، إذ أنّ اللغة/ الكلام غالباً ما يكون خادعاً،
وخاصة عندما
نذهب في البحث: هل هي لغتي، أم لغة الآخر؟ من هنا يكون الصمت مساحة للتلقي،
مساحة
خاصة بالمتفرّج للتواصل مع الفيلم خارج حدود اللغة المباشرة،
فأقل ما يصل هو ما
تحمله اللغة الكلامية المباشرة... ودائماً يختزن الصمت ما عجزت اللغة عن
البوح به.
·
'جبال
الصوان' فيلم مفتوح لامتدادات الجبال السورية، غني بالصمت، وكأنك تقتحم -
كما تقول إحدى شخصيات الفيلم- عزلة الآخرين
أثناء التصوير، ماذا تقول عن العزلة في
حياة قاطني 'جبال الصوان'؟
شخصيات الفيلم شخصيات مجتمع ريفي، ودائماً في الريف
هناك مجموعة مفردات للتواصل الحميمي مع الآخر، إلا أنّ الريف يهب، وفي ذات
الوقت،
مساحات للأمل، وما بين مساحة الآخر والمساحة الشخصية فإننا بحاجة إلى سماع
صوتنا
الداخلي. من هنا كان خيار الشخصيات هو الذي قادهم نحو العزلة،
علماً بأنه خيار فني
من جهة، وخيار ناتج عن عدم فهم المحيطين بهم من جهة ثانية.
·
قدمت في 'بشرة
مالحة' عوالم الساحل السوري، ثم اتجهت صوب الجبال في 'جبال الصوان'، وفي
كتابتك
الأخيرة تسعى إلى ولوج ضجيج المدن في 'صلاة الغائب'. ماذا تقول
عن هذه البيئات
الثلاث؟
أرى أنّ البيئة هي التي تحدد نوع العلاقات القائمة ضمنها. ففي المدن
مثلاً، يتحوّل البحث إلى شيء ذاتي، غير مرتبط بأي شيء خارجي، فنحن نبحث عن
ذاتنا
كما نبحث عن الآخر. وأرى أنّ هذا مرتبط بفقدان عامل الطبيعة.
أمّا في 'جبال الصوان'
فقد كان هناك أفق وبحث لدى الشخصيات عن رؤاهم الخاصة. في 'بشرة مالحة' كان
العمق،
الغوص للبحث هو ما اشتغلت عليه. وتبقى المدينة في 'صلاة الغائب' حاملاً
لبحث
الشخصيات عن الارتباط مع الآخر وليس مع المكان.
·
في أعمالك الثلاثة هذه اشتغلت
على سيناريوهات كتبتها أنت، كيف يرى نضال حسن تجربة سينما المؤلف؟
بداية أقول
أنّه لو توفرت الفرص الإنتاجية الكافية كي يقدم المخرج أكثر من فيلم كل بضع
سنوات،
لما كتب سيناريوهات أفلامه. فهو بالنهاية مخرج وليس كاتب سيناريو.
النقطة
الثانية التي أود الإشارة إليها، أنّ كثيرين من المهتمين بالشأن السينمائي
في
سورية، ينظرون إلى تجربة سينما المؤلف نظرة سلبية، في حين أنّ هذه السينما
كانت
المشروع الذي انطلقت منه السينما المستقلة التي قدمت نتاجات
هامة جداً مع مخرجين من
طراز 'جيم جارموش' و'ديفيد لين' وآخرين.
·
وهل ترى أنّ الإنتاج المشترك
كفيل
بانتشال الواقع الإنتاجي السوري؟
قبل أي شيء، أرى أنّ الإنتاج المشترك آلية
تحتاج إلى تحديد وضوابط وأسس وقوانين للعمل علماً بأنّ السيد
محمد الأحمد المدير
العام للمؤسسة العامة للسينما أحد أكثر المتحمسين لهذا التوجه، ويدعو إليه،
فمن'غير
الممكن إنكار الفوائد التي يعود بها الإنتاج المشترك، من تخفيف الأعباء عن
كاهل
المؤسسة العامة وحتى أسواق العرض والتوزيع التي يفتحها أمام
الفيلم. وقد نشط
المخرجون السوريين خلال السنتين المنصرمتين في هذا السعي.
·
إذن، كيف ترى ضعف حضور
وفاعلية شركات الإنتاج السينمائي الخاصة في سورية؟
الجميع يعلم حق العلم تاريخ
القوانين التي قيدت العمل السينمائي في سورية زمناً طويلاً،
وكان علينا الانتظار
حتى نجاح محمد الأحمد في إلغاء مرسوم 'حصر الاستيراد'، كي نبدأ في تلمس بعض
المحاولات الإنتاجية الخاصة، من قبيل تجربة 'الأتاسي' و'هيثم حقي'. وحتى
هذه
المحاولات لم تأت نتيجة تخفيف حدة القوانين الضابطة فقط،
وإنمّا هي محاولات مرتبطة
بحراك عام اقتصادي واجتماعي شجّع أصحاب هذه المبادرات على المغامرة من جديد
في ساحة
الإنتاج السينمائي الخاص، بعد أن توقفوا زمناً طويلاً.
·
هل تعتقد بوجود حراك
سينمائي في سورية؟
أجل. ويمكننا تلمس هذا الحراك نظراً إلى الارتفاع الملحوظ في
عدد الشباب العاملين في الحقل السينمائي، أكاديميين كانوا أم هواة. كما
يمكننا
تلمسه نظراً إلى المتابعات الإعلامية والجماهيرية التي تحظى
بها التظاهرات
السينمائية التي تحييها المؤسسة أو غيرها من المراكز الثقافية في دمشق
وسواها من
المحافظات السورية. وأخيراً تأتي مبادرة القطاع الخاص للإنتاج كأهم عامل'في
تلمس كل
هذا الحراك السينمائي.
من جهة ثانية، فإنّ وجود حراك سينمائي كهذا أمر ضروري،
بل وطبيعي، انطلاقاً من التغيير الذي يشمل المجتمع بأكمله. اليوم تقدم
المحطات
الفضائية أهم الأفلام السينمائية وأكثرها جدّةً، كما تقدم
كاميرات الديجيتال الفرص
اللازمة وبأقل التكلفة الإنتاجية لكل من يرغب في دخول العوالم السينمائية،
ممّا
وسّع شريحة العاملين والمتابعين في هذا المجال، دون أن ننسى كذلك الإسهام
الذي
قدمته نسخ الـDVD
في توسيع شريحة المتابعين للفن السينمائي.
وحين أقول أنّ هناك
حراكاً سينمائياً فأنا لا أقيس فقط على سورية التي بدأت في الإنتاج مبكراً
جداً، بل
هو حراك يشمل العالم العربي بأكمله، خاصة إذا قسنا على دول الخليج التي
أولت الفن
السينمائي اهتمامها منذ ما يزيد عن العشر سنوات.
·
ألا ترى أنّ تخفيف حدة السلطة
الرقابية قد ساهم في دفع عجلة هذا الحراك السينمائي؟
إذا تحدثنا عن تجربتي في
'جبال
الصوان' فإنّ أحداً لم يمارس أي ضغط رقابي على الفيلم. أمّا بخصوص الحالة
الرقابية، فأنا أرى أنّ الرقابة يجب ألا تكون محكومة بذائقة شخصية، وإنمّا
يجب أن
تكون معبرة عن ذائقة المجتمع، ولكنني ضد أي رقابة تمارسها فئات
اجتماعية معينة،
بحيث تتدخل في حرية فئات اجتماعية أخرى.
أمّا السؤال الذي يؤرقني فيما يخص
الرقابة: أنّ المؤسسات أو الجهات التي نصّبت نفسها رقيباً،
تمارس دورها هذا على
الثالوث المحرّم (جنس- دين- سياسة)، لكن لا أحد يمارس أدنى شكل من أشكال
الرقابة
على التفاهة والابتذال!!
·
وهل تمارس رقابة ذاتية على
أفلامك، أثناء الكتابة أو
التصوير؟
كمرحلة أولى أكتب بحرية، ولكننا جميعاً لدينا رقابة داخلية من نوع
مُعيّن، تلك الرقابة المرتبطة بالتربية والمنظورات الشخصية للأمور واللغة
التي
نستخدمها، فعلى سبيل المثال ما يقال في المقهى بين الصحب لا
يقال في قاعة
المحاضرات.. ومن هنا أقول أنني أمارس رقابة ذاتية وإنمّا في حدها الأدنى.
وعليه
فأنا لا أعتبرها رقابة سلبية، لأنها ضمن قراءتي للواقع، وأنا لا أفضل
المباشرة في
طرح القضايا، كما أنني لا أستطيع تقديم شذوذ غير مقبول بالنسبة
للمتلقي، إذ أنّ أي
تغيير في المجتمع لا ينجح بالصدام المباشر.
·
هل يعتقد نضال حسن بوجود نقد
مواز ٍ
على صعيد المتابعة والطرح النظري لحراك السينما السورية؟
في الواقع لا أعتقد
بوجود كتابة نقدية في سورية - بالمعنى المنهجي لكلمة نقد- والسبب هو
الدراما
التلفزيونية. اليوم تحوّل العديد من النقاد إلى الكتابة عن التلفزيون
والمنوعات، في
حين أنّ النقد المنهجي يُنظّر للسينما، وينحو إلى رسم طبيعتها.
كذلك أرى أنّ
غياب مثل هذه الفاعلية النقدية مرتبط، في أحد جوانبه، بالنقص المعرفي، ومن
جهة
ثانية فإنه مرتبط بالعلاقة مع متلقي اليوم الباحث عن المعلومة السريعة، عن
الخبر..
·
ختاماً نضال حسن، ماذا تقول عن
السينما السورية اليوم، على ضوء ممارسات الجيل
الجديد من الشباب؟
أرى أنّ السينما السورية تبحث اليوم عن هويّة جديدة لها، وشكل
جديد نابع من اختلاف الفعاليات التي تطرح في الشارع السوري اليوم. وهذا
البحث مرهون
بجيل جديد يُقدّم رؤى مختلفة. إنه رهان الشباب، وهو مفتوح لاحتمالات النجاح
والفشل.
القدس العربي في
25/09/2009 |