طوال ساعات السفر وأنا أتحين اللحظة التي أختلي فيها بأوراقي، وأنفرد فيها بأفكاري.. كنت أتوق للحديث عن مشاهدات خارج سياق وحدود الزمن، وأتشوق للكتابة عن مشاعر، وأحاسيس تتحدي القدر.. كنت أدخر في جعبتي الكثير من حصاد رحلة غلفتها السعادة وعانقتها الأحلام وملأها الأمل.. لكن بمجرد عودتي إلي الوطن خفتت تلك الرغبات، وذابت هذه الأمنيات مثلما يذوب الجليد تحت حرارة شمس القيظ.. وحلت مكانها الحيرة والتساؤلات.. تري لماذا أصبحنا نعشق التشكيك في قدراتنا وإمكاناتنا.. ونضخم من أخطائنا ونضاعف من خسارتنا؟! لماذا أصبحنا نتربص ببعضنا البعض ونتصيد الأخطاء للآخرين ونستهدف زلاتهم وهفواتهم؟! وهل أصبحت الشماتة عنواناً للقلوب وجزءاً أصيلاً من طبائعنا؟! ولماذا أصبحنا نهوي جلد الذات ونستعذب الهزيمة ونطوق أنفسنا بسياج من اليأس والإحباط؟! هل نجح أباطرة الكراهية والحقد أن ينفثوا سمومهم في قلوبنا وينشروا وباءهم في صدورنا؟!

طاردتني تلك التساؤلات وغيرها، وأنا أتابع الحملة غير المبررة التي يقودها البعض للتشكيك فيما حققته السينما المصرية من إنجاز مشرف في مهرجان ڤينسيا السينمائي.. وما لمسته هنا وهناك.. في مدينة البندقية افترشوا لنا السجادة الحمراء، وصفقوا لمبدعينا.. وهنا بذروا الأرض شوكاً وتقريزاً، ورفعوا شعار النصر التام أو الموت الزؤام! هناك أعادوا اكتشاف السينما المصرية ورحبوا بصنّاعها ومبدعيها، وهنا أعلنوا الحداد وأقاموا سرادقات العزاء! هناك انتصر الفن وفازت الإنسانية وتعانق الإبداع، وهنا صنعوا من المبدعين جنوداً في أرض معركة حامية الوطيس انتهت بهزيمتنا أمام العدو الإسرائيلي!

بالله عليكم ما هذا الهراء، وتلك العنصرية البغيضة التي يتعاملون بها مع حدث فني كبير مثل مهرجان ڤينسيا السينمائي؟! هل أصبح فوز مخرج إسرائيلي بالجائزة الذهبية في مهرجان سينمائي يتسابق فيه 25 مخرجاً من مختلف دول العالم يعني أن إسرائيل هزمتنا؟! وهل فوز المخرجة الإيرانية بجائزة الأسد الفضي يعني أن جمهورية إيران الإسلامية هزمت الولايات المتحدة الأمريكية؟!

حقا إنني أندهش من هذا التفسير غير المنطقي للأمور، وذلك الهجوم والاستهجان الذي استقبلت به الأفلام العائدة من مدينة البندقية، ومحاولات تصويرها بأنها عائدة تجر ذيول خيبة الأمل، في الوقت الذي اعتبرتها صحف العالم ونقادها عودة لعصر ذهبي جديد ونهضة للسينما المصرية! إذا كنا غاضبين لعدم فوز فيلم مصري نجح مخرجه أن يعبر به إلي داخل مسابقة أحد أهم ثلاثة مهرجانات في العالم، فماذا نقول عن عدم فوز مخرجين كبار مثل »فرنر هارتيزوج« و»جيسبي تورناتوري« و»أوليفر ستون« و»جاك ريفت« و»ستيفن سودربرج« و»باتريس شيرو« و»مايكل مور« و»جاكو فان دورميل« وغيرهم ممن يتنافسون في ذات المسابقة!

لماذا نستكثر علي أنفسنا السعادة بالتواجد وسط هذا الحشد السينمائي الكبير، واختيار أحد أفلامنا من بين آلاف الأفلام ليمثلنا في مسابقة سينمائية تضم كبار صناع السينما في العالم، بعد أن عانينا طوال سنوات طويلة من رفض هذه المهرجانات لأفلامنا، ومتي كانت أفلامنا تدخل المهرجانات الدولية الكبري حتي نتساءل اليوم عن الجوائز الضائعة التي لم نحصل عليها منذ زمن طويل في تلك المهرجانات؟!

> > >

إننا أمام صحوة سينمائية تدعو للتفاؤل بعد غياب وغيبوبة عاشت فيها السينما المصرية سنوات
طويلة لم يجرؤ خلالها مخرج مصري أن يضع قدمه علي أعتاب أحد المهرجانات السينمائية الكبري! ولولا إصرار المخرج الراحل يوسف شاهين علي التواجد بأفلامه في تلك المهرجانات، لما كان لنا وجود علي الساحة السينمائية الدولية طوال سنوات طويلة! ولا ننسي أن الذين يتمسحون اليوم في يوسف شاهين هم أنفسهم الذين كانوا يتهمون أفلامه بالغموض وعدم القدرة علي التواصل مع الجمهور!

> > >

لا أنكر أن لديّ ملاحظات عديدة علي فيلم »المسافر« وسبق أن أشرت إليها في الأسبوع الماضي، لكن هذا لا يعني أننا لسنا أمام عمل سينمائي يستحق التحية والتقدير، كما أنني علي يقين أن تلك النوعية من الأفلام السينمائية التي تغرد خارج السرب، لا تلقي قبولاً لدي الجمهور المصري، ولكنها تلقي استحساناً في المهرجانات السينمائية، ولدي المشاهد الغربي، وأتحدي أن يكون لدي هؤلاء الذين هاجموا الفيلم قدرة علي التذوق أو الاستمتاع بفيلم مثل »طعم الكرز« الإيراني الحائز علي سعفة مهرجان »كان« السينمائي، أو فيلم »حليب الآسي« الذي منح دولة »بيرو« دب برلين الذهبي! أو غيرها من الأفلام التي نتساءل عن السبب وراء حصول مخرجيها علي جوائز في المهرجانات الدولية!

> > >

إنني أندهش من التسابق الغريب علي اقتناص كلمات الغضب من نجم كبير بحجم الفنان عمر الشريف، انتهز المتربصون الفرصة للاصطياد في الماء العكر، واتخذوا من ملاحظاته ذريعة للهجوم علي »المسافر« والبحث عن فضيحة يلصقونها بالفيلم، من يعرف عمر الشريف الإنسان يعرف أنه سريع الغضب، لكنه أيضاً فنان كبير له تاريخه ولن يوافق علي استخدامه للطعن في عمل فني يحمل اسمه!

> > >

في المهرجانات السينمائية التي أحضرها أجد الجميع يحتشدون خلف أفلام مبدعيهم ويدعمون مخرجيهم، لكننا المصريين تفردنا عن سائر شعوب العالم بالتشكيك في مشروعية دخول أحد أفلامنا مسابقة مهرجان سينمائي كبير، وسعينا جاهدين للحصول علي اعترافات تدين الفيلم وصناعه، بل وصل الأمر للمطالبة بمحاكمة الجهة التي قامت بإنتاجه عجبي!

> > >

تذكرت قصة رواها لي عمر الشريف في أحد الحوارات التي أجريتها معه، عندما سألته عن السبب وراء الهجوم الشديد الذي تعرض له فيلم »دكتور زيفاجو« للمخرج العالمي »ديفيد لين« في بداية عرضه، ثم النجاح والإقبال الكبير الذي لاحق الفيلم بعد مرور حوالي شهر علي عرضه، ورد عمر الشريف بصراحته المعهودة قائلاً: فعلاً النقاد كتبوا عن الفيلم نقداً سلبياً في البداية، كما لم يلق الفيلم إقبالاً جماهيرياً، وأذكر أنني حضرت حفل افتتاح الفيلم مع »ديفيد لين« وجلس بعدها حتي الثانية صباحاً يفكر في أسباب عدم النجاح، وفجأة صرخ قائلاً: أدركت أين الخطأ، المونتاچ والموسيقي هما السبب، وبدأ يعد نسخاً جديدة تماماً، وكلما انتهي من نسخة أرسلها إلي دور العرض وسحب النسخة القديمة، وبالفعل بدأ الجمهور يقبل علي الفيلم من جديد، وتناولت الكتابات النقدية الفيلم بشكل مختلف، وهذا يؤكد أهمية عنصر »المونتاچ« ومدي تأثيره علي نجاح أو فشل الأفلام!

لقد فضلت أن أستعيد تلك القصة بعد مشاهدتي فيلم المسافر، وأتمني أن تصل تلك الرسالة للمخرج أحمد ماهر!

> > >

عندما يستطيع المبدع أن يقفز بعمله فوق الحدث والزمن، وأن يصل برسالته إلي أبعد من حيز المكان وهوية الأشخاص، فإنه يصبح قادراً علي أن يخطو بسهولة إلي العقل والوجدان، و يجعل المشاهد يتعايش مع أبطال فيلمه، ويتوحد مع أحاسيسهم ومشاعرهم، وقد نجح المخرج الإسرائيلي صموئيل ماعوز من خلال فيلمه »لبنان« الذي يتناول الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 في أن يقفز فوق تفاصيل المعركة وأحداثها وشخوصها ليصور بحرفية شديدة مشاعر »الجندي« الذي تدفع به قيادته إلي ساحة القتال ليجد نفسه في مواجهة قاسية مع الدمار والعنف والموت الذي يمارسه ويتعقبه وينتظره في كل لحظة، ويكشف من خلال 4 جنود مسجونين داخل دبابة عسكرية عن المعاناة الإنسانية لدي هؤلاء الأشخاص ومشاعر الخوف والألم التي تفرضها الحروب علي هؤلاء الجنود الذين تحركهم أهواء ونوازع قيادتهم، وكذلك يكشف وحشية الجنود وما يعانيه ضحايا الحرب من المدنيين الذين يتساقطون صرعي العمليات العسكرية،

والفيلم الذي تدور أحداثه بالكامل داخل دبابة، ومع ذلك نجح مخرجه في أن يجعل إيقاعه لاهثاً، وجاء استخدام مدفع الدبابة لمتابعة الأحداث التي تدور في الخارج في غاية الذكاء وأضفي جمالاً علي الصورة، ولم يخلُ الفيلم الذي يدين الحروب بكل أشكالها من تلميحات للصراع العربي العربي، من خلال أحد عناصرالكتائب اللبنانية المسيحية في مواجهة جندي تابع للجيش السوري، يقع أسيراً في أيدي الإسرائيليين، ومحاولات لتجميل وجه الجندي الإسرائيلي وإضفاء نوع من الإنسانية علي تصرفاته، لكن تلك الرسائل التي تضمنها الفيلم جاءت في سياق الأحداث ودون مبالغة أو افتعال، وساعد علي تمريرها بسهولة التكنيك السينمائي المدهش والحرفية العالية في التصوير، والمونتاچ البارع للفيلم الذي نجح في أن يلمس قلوب المشاهدين ويصل برسالة الفيلم إلي الدعوة للسلام ونبذ الحروب في كل مكان!

أخبار النجوم المصرية في

24/09/2009