كثرٌ ممن نلتقيهم من السينمائيين اليافعين يروون
أنهم كانوا يحلمون أن يقفوا خلف كاميرا، منذ أن شاهدوا صورة لمخرج مغمور
يمنح
التعليمات على بلاتو تصوير. صورة المخرج مرتبطة في اذهانهم
بالسلطة والعظمة. يجب أن
يكون قائداً، نابوليوناً، يلعن الجميع وينعتهم بأحط النعوت ويحطمهم قبل أن
يولدوا
في بؤرته ممثلين يستحقون الحياة الثانية على الشاشة.
شادي زين الدين، 30 عاماً،
ينتمي الى جيل تدرب على السينيفيلية من خلال الـ دي في دي.
قصته مع حلم الاخراج
مختلفة قليلاً. تسنى لي أن نتعاون أحدنا مع الآخر في تصوير حلقات
تلفزيونية
موضوعها السينما العربية، ولمست حماسته على البلاتو ورغبته في أن يقف وقفة
المخرج
الذي يصدح صوته عالياً. لكن، خلافاً للكليشيه السائد، هو لم يكن يحلم انه
سيكون
سينمائياً منذ بداية وعيه بالحياة. كل ما كان يعرفه أنه سيكون
له علاقة ما بالشأن
الفني. ما كان يجذبه في اولى سنوات المراهقة هو تغيير العالم. كان يزعجه أن
يطأ
احدهم العشب الاخضر بقدميه، وكان كلٌّ من غاندي ومانديلا من نماذجه. كان
اهله
يحدقون اليه بغرابة متسائلين ما هذا الولد الذي انجبناه! كان
يتكلم مع نفسه ويختلق
الروايات. ولكن في هذا كله هدف واحد: ما الطريقة لتغيير العالم؟ هكذا بدأ
كل شيء!
ولد زين الدين في الغابون وهناك عاش طفولته الهادئة. عندما بلغ
التاسعة بدأ
يخرج مسرحيات. جرّب أيضاً الرقص. حتى الرسم لم يفلت منه. وعندما هزئ صديق
له من هذه
الرسومات، صار يبكي لأنه كان يعتقد أنه لن يبلغ أي قمة في حياته. "أحكي لك
هذا
لأقول ان الآخرين يؤثرون فينا كثيرا وعلينا ان نتفادى هذه
التأثيرات. يجب أن تكون
ذاتك وتؤمن بشخصك وكينونتك"، قال لي في لقاء أجريناه معاً غداة عرض باكورته
"وعلى
الأرض السماء" في ختام مهرجان ".. نما في بيروت".
حين كان في الثالثة عشرة،
عاد أخوه من فرنسا الى الغابون ومعه حلم أن يتحول ممثلاً. جاء
ومعه كاميرا طالباً
من أخيه الاصغر ان يصوره حيناً وهو يضحك وحيناً آخر وهو يبكي، والى ما
هنالك من
وضعيات مختلفة. هكذا بدأت علاقته الوطيدة بآلة التصوير. في تلك المرحلة كان
قد بدأ
يشاهد ثلاثة او اربعة افلام يومياً. كان أشبه بمهووس. "كنت أشاهد افلاماً
مدبلجة
بالفرنسية. الفيلم الفني الوحيد شاهدته في تلك الحقبة كان "العراب". اما
السائد
فكان بين لوي دو فونيس، رامبو، "يوم الاستقلال"، ... الخ. بفضل هذه الافلام
وقعتُ
في حب السينما. لم اكن اعرف البديل من هذه السينما التجارية، وفجأة في
الخامسة عشرة
كنت اكيدا من قراري ان اكون سينمائيا. كنت اشاهد الافلام بالـVHS
إذ لم يكن ثمة في
الغابون الا صالة واحدة. من المفارقات اني طفلاً، كنت اقول حين اكبر في
السن سأذهب
الى "ديزني" واعمل معهم. وها قد وقّعت عقدا مع ديزني لانجاز أول فيلم
باللغة
العربية تموله الاستوديوهات الأميركية المعروفة. والدي هو الذي ذكّرني
بكلامي
هذا".
أما لاوعيه على سينما المؤلف فبدأ يتكون حين وصل الى لبنان في السابعة
عشرة من العمر. بدءاً، أراد أن يدرس العلوم الاقتصادية، ليتفادى أن يزعّل
أحداً،
كما يقول، على رغم ان اهله لم يكونوا من المعارضين لفكرة ان يمضي في طريقه.
طرحت
فكرة الرحيل الى الولايات المتحدة لدراسة السينما، لكن
الوالدين لم يوافقا على ذلك
لسبب انه اذا ذهب الى هوليوود فلن يعود! كانت باريس الخيار الثاني، لكنه
فضّل بيروت
إذ كان له فيها اصدقاء. يروي زين الدين الذي أصيب بصدمة ما ان وصل الى
لبنان والتحق
بالجامعة اليسوعية: "كنت آتي من بلد هو الغابون لا احد يتكلم
عن اصلك وفصلك. عشت
هناك مع الأفارقة، والمساواة بين البشر كانت احدى قيمنا. في الجامعة
اليسوعية عام 1996
لم تكن الامور هكذا. اقول دائما ان فيلمي "وعلى الأرض السماء" قد يكون ولد
مما
حدث معي في ذلك العام الدراسي في اليسوعية. كنا 16 مسيحيا، ثلاثة مسلمين،
وانا
الدرزي الوحيد في الصف. كانوا يسألونني مثلاً ما اذا كان
للدروز ذيل كذيل الشيطان
او ما اذا كان في شارع الحمراء جمال. اصبت بصدمة وشعرت بأنني غير لبناني.
كنت أُسأل
عن اشياء لا افهمها، فأنهار بكاء. اضف الى ان الجامعة كانت تذكّرنا بأن 13
هي اعلى
علامة نستطيع نيلها. كان الامر كمن يريد تكسير جناح الآخر. كان الأمر
تكسيراً
بتكسير وكنت اشعر بأن البلد يدمّرني ليلاً نهاراً. بسبب هذا
كله كنت اشعر انني لست
لبنانياً، لأنني لم اكن اتكلم مثلهم ولم يكن عندي هذا "الخوت" الذي هم فيه.
لم اصمد
الا 6 اشهر في الجامعة، ثم اخبرت والدي انني سأترك. درست الانكليزية لمدة
سنة ودخلت
الجامعة الاميركية اللبنانية، واول درس لي في صف الفن الفيلمي
كان حول "ثماني ونصف"
لفيديريكو فيلليني. بعد ربع ساعة من بداية الفيلم كنت بدأت اغفو. وحين
رأتني
المعلمة انام، طلبت مني ان اقدّم في اليوم التالي نقدا عن هذا الفيلم. لكني
اخذت
الشريط معي الى البيت وشاهدته وعندما انتهى شعرت بأنني سأختنق.
عدت فشاهدته لأشعر
هذه المرة بأنني تلقيت صفعة. كنت ارى العالم على شكل ما، فصرت اراه بشكل
آخر. هذه
كانت السينما التي اريدها واتوصل الى ما اريده من خلالها. مذذاك صرت
مهووساً
بالسينمائيين المؤلفين: برغمان، هيتشكوك، ثم تاركوفسكي في
مرحلة لاحقة. اعتبر نفسي
انني ولدت من جديد بعد تلك المرحلة. راح شادي وجاء شادي آخر. فُتحت أمامي
أبواب. ثم
حصلت على "ماسترز" من الكسليك مع جلال توفيق التي نقلني ايضاً الى مرحلة
اعلى من
تحصيلي العلمي. تعرفت الى لينش ودوراس، وربما وضعت كل هذه المراجع في فيلمي
الاول
وكأنه الاخير لي. كنت أرغب في الارتقاء بالفيلم الى مستوى
عالٍ، لأنني أحب الذهاب
حتى الأخير. أنا مرتاح الى النتيجة. "وعلى الارض السماء" هو فيلم مَشاهد
ولقيات.
انه عمل تجريبي".
في البداية لم يشعر زين الدين بأنه لبناني لأنه لم يعش الحرب.
فيلمه "وعلى الارض السماء" قرّبه من
لبنانيته المكتسبة. "عندما جئت الى لبنان لاحظت
ان لكل واحد من اللبنانيين قصة. كانوا يروونها لي إما بعيون حزينة وإما
فرحة. كانوا
يمارسون انفعالهم عليّ وأنا سريع الذوبان في هذه الاحاسيس. أما أنا فلم يكن
عندي
قصص. طفولتي كانت جميلة وثرية في مكان قائم على التنوع. لكن
شعرت بأنهم يملكون شيئا
أقوى مما أملكه".
قبل انجاز "وعلى الارض السماء"، كان من المفترض أن يصوّر زين
الدين فيلماً آخر مع كارمن لبّس اسمه "ألوان". كان يملك الطاقم التمثيلي
وفي حوزته 30
ألف دولار لتصوير الفيلم الذي تدور حوادثه
في إحدى الضيع اللبنانية، عن بطلة
تغرم بشاب يصغرها سناً. كان يريد توجيه الأصبع الى نفاق الشخصية اللبنانية.
"ترقيع.
كل شيء موقت عندنا. هذا لا يبني بلداً. ما
دام الماضي لا يزال يطوف على السطح. أنا
ضد متاحف الحرب باستثناء قصر هيروشيما لأن فيه عشرين في المئة
عما حصل أما الثمانون
في المئة الباقية فحول سؤال كيف نحل هذه المشكلة. اللبنانيون يحبون أن
يلعبوا
بالحرب. مراراً سمعت أناساً يريدون حرباً لكن من دون أن يموت أحد. هذا أمر
خطير
ويعني انهم مستعدون للتقاتل مجدداً".
أربعة اشخاص انتقاهم زين الدين لفيلمه، لا
علاقة لأحدهم بالآخر وهم من خلفيات مختلفة. مثلاً الشخصية التي تلعبها لبس
مستوحاة
في الاصل من واحدة من النساء اللواتي نراهن على التلفزيون ويطالبن بعودة
أولادهن
المخطوفين. هي ايضاً من وحي شقيقته المغرمة بشاب كان يعذبها:
تحضر له المائدة ولا
يأتي، وتفعل له أشياء كثيرة. كانت تمضي وقتها في الانتظار وكان شقيقها
يتأملها
فيجدها حزينة ومحطّمة. لذا، جمع الفكرتين معاً. لكونها قريبة منه كان يراها
كيف
تعيش. كان يشاهد انتظارها ويسألها لماذا تتصرف على هذا النحو.
الشخصيات كلها من
صميم المجتمع اللبناني: "شخصية أخرى استوحيتها من امرأة من بيصور توفى
ابنها خلال
الحرب، لكنها رفضت أن تصدّق لذا ذهبت الى المقبرة فحملت الجثة على ظهرها
وعادت بها
الى البيت. تعرفت الى هذه المرأة وقبّلت يدها لأنني شعرت بعظمة
فعلتها. هناك ايضاً
موضوع المثلية الجنسية في الفيلم، ويُطرح بطريقة خفية. ثمة موضوعان محرمان:
الحرب
الاصلية واللواط، وقد أحببت أن أجمعهما في فكرة واحدة. ما كان جيداً انه
كان عندي
مسافة حيال ما أريه. كنت أريد تغيير العالم. وكنت أعتقد أن
الكاميرا تغيّر العالم.
منذ سنتين أو ثلاث لم أعد اصوّر بالكاميرا بل بعيني. ركبتُ عدسة في عيني.
عيني هي
الكاميرا. عندما كنت أصوّر بآلة تصوير كانت اللحظة الجميلة تتبخر وأنا
افكّر في
طريقة تصويرها. الآن لم أعد في حاجة الى ذلك، فعيني هي
الكاميرا".
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
أنطوان مشحور، أفضل أفلامه لم ينجزها البتة
للجيل
الجديد من اللبنانيين، لا يعني اسم انطوان مشحور الكثير! على رغم ذلك، فإن
هذا
الشاعر والكاتب والمخرج والرسام الذي انتحر وهو في التاسعة والثلاثين،
بعدما غرق في
الإحباط والاكتئاب، يمتلك من نشاطه عدداً لا بأس به من الأفلام
والمسرحيات والأفلام
القصيرة الروائية والوثائقية ودواوين الشعر، وساعات لا تحصى من البث
التلفزيوني.
الأفلام الخمسة التي أخرجها مشحور بين عامي
62 و70 أصبحت ملك المكتبة السينمائية
الوطنية. انه رائد منسيّ لفت، من خلال "نوادره السينمائية"
الخمس هذه، الى مهارة
تقنية، واتقان للسرد، ولغة سينمائية ينبغي ان تجعل، حتى اليوم،
عدداً من المخرجين
يحمرّون خجلاً، على رغم شح الموازنة. ذلك ان أفلامه الأربعة: "عنجر،
المسيرة على
الأرض"، "بعلبك، من الجانب الآخر للمرآة"، "الطب عند العرب" و"شهادة
الماء"، كنوز
من التراث السينمائي اللبناني، ليس فقط بسبب مآثرها التقنية (مونتاج، صورة)
التي
تنظر بنظرة قبيحة الى البدائية، بل بسبب رفضها ان تقدّم عن لبنان في تلك
الحقبة
صورة سياحية. رائعته تظل فيلم "ألماسة الماء" الذي تسبب لدى
عرضه، بجدل كبير.
وتتلخص قصته في علاقة غرامية بين ابنة الوجيه والراعي. لكن والدها يرغب
بتزويجها
الى مهاجر غني عاد الى القرية. ليلة الزفاف، حبيبها المبعد يقتل منافسه،
أما العروس
فتُتهم بالجريمة، في حين انها في غضون ذلك قد سمّمت نفسها! بعد
مرور 20 سنة، يعود
الراعي الى القرية، ويذهب للبكاء على قبر حبيبته قبل ان يسلّم نفسه الى
العدالة.
الفيلم المقتبس من قصة لكرم ملحم كرم، منعته الرقابة بحجة انه يضر
بلبنان لدى
المهاجرين وبسمعته السياحية، لأنه يعرض فيه مهاجراً غنياً عائداً الى
مسقطه، ويتزوج
شابة ترفض ان تسلّمه نفسها في ليلة الزفاف، وينتهي مقتولاً على يد الراعي،
بل أيضاً
لا نرى فيه قرية لبنانية محرومة ونائية، وزواجاً لبنانياً، كما كان يُحتفل
به في
بداية القرن الماضي. كان هناك أيضاً احتجاجات ضد حقيقة ان
الفيلم كان يتناول في
أحداثه الجريمة، وكان يخشى ان "يلطخ" صورة لبنان، هذا "البلد السلمي للغاية
والمضياف"، عبر إظهاره بمظهر المشاغب والعنيف. كانت الرقابة ترغب بأن
يُعرَض
اللبناني بمظهر الحمل الوديع والرائف، وتعتبر أنه بدلاً من تصوير قرية
منكوبة، بلا
كهرباء، ولا ماء، وبطرق محفّرة ومتعرجة، كان ينبغي تقديم مظاهر
التطور: الروشة،
ستاركو، ساحة البرج. هذا الاحتجاج أفضى في النهاية الى تسوية مخصصة لعدم
تثبيط همة
المهاجرين حيال العودة. ولكي يقدموا علاجاً للأمر، اقترح الرقباء حذف صورة
وصول
المهاجر واستبداله برجل غني مجهول، يقيم في القرية، وإضافة
مشاهد حيث نرى فيها
مباني جميلة في بيروت وحفل زواج باذخاً. لم يرض المخرج والممثل الراحل
اندره جدعون
بهذا القرار فكتب آنذاك: "ان تشويه فيلم لبناني، هو تشويه للإدراك الحسي
الذي كان
لدى المنتج والمخرج عن لبنان، لأن مطلق أي فيلم ليس في الواقع سوى عبارة عن
الإحساس
الذاتي مطبوع موضوعياً على شريط سينمائي. الحال ان منع ما
يشكله من إحساس بحرية،
يعني منع ان يتم التعبير عنه وتطبيق حرية أساسية واقعياً".
انطوان مشحور الذي
صعقته هذه الرؤية التعسفية لدى السلطات عن السينما، كان يرى ان مأساة
السينما في
لبنان ان "لا أحد يؤمن بها"، وشرح رأيه ذات يوم في أثناء مؤتمر، معتبراً أن
"السبب
الذي من أجله كان بعض التقنيين وعلى الأرجح بعض المخرجين يغادرون لبنان، من
أجل
الذهاب وتجربة حظهم في فرنسا أو البلاد العربية، كان الفقر
المادي لاستوديو وحيد
ومحتكر أقل من الشقاق الموجود بين مختلف النقابات، مثلما هو عجز الموزعين
اللبنانيين عن بيع الأفلام اللبنانية، خلافاً لزملائهم المصريين، وبخاصة
بسبب فقدان
وجود كتّاب سيناريو جيدين". ففي رأي انطوان مشحور ان من واجب "المركز
الوطني
للسينما" ان يأخذ على عاتقه مسؤولية المخرجين وان يمنح من وقت الى آخر
جائزة
تشجيعية. هذه الجائزة، قال، منحت التجديد والنهضة للسينما
المكسيكية في ما مضى. مع
ذلك، وعلى رغم ذلك المنع، لم يفقد مشحور الأمل. كانت الضغوط الى درجة ان
الفيلم لم
يحصل على أي تنويه في مهرجان الاسكندرية، لكنه عُرض في "مهرجان كان".
يحكى ان
انطوان مشحور كان خلال طفولته شديد الارتباط بجدته، والدة أمه، الفارسة
الخيّرة
الطليعية وصاحبة الأفكار. كان يمضي فصول الصيف في قريته الجنوبية حيث عاش
كشاب سيد
في منزل جميل يقع على هضبة وكان يجول ممتطياً الحصان في الأملاك الشاسعة
وسط
القرويين الذين كانوا يعملون جميعاً لدى عائلته. كان سعيداً
بالاستسلام لشغفه
بالمطالعة والكتابة والعيش في حال من الذوبان مع الطبيعة. بعد مضي بضع
سنوات، خسرت
عائلة مشحور المنزل والأملاك وأُبعدت عن القرية: لم تكن أم انطوان سيدة
أعمال ولم
يكن رئيس العمال لديها رجلاً فاضلاً جديراً بالاحترام. لدى عودته من
المدرسة، كان
انطوان يلتقي أصدقاءه ويهتدي خصوصاً الى الطريق المؤدية الى
صالات
السينما.
بالإضافة الى مساهمته في إغناء مكتبة السينما والتلفزيون بأفلام يظهر
فيها لبنان بصورة بلد يبدو اليوم بعيداً جداً ترك مشحور أيضاً أثراً لا
يمحى في
الشعر، ويندرج اسمه في مكان بارز في كتاب "الشعر المعاصر
باللغة الفرنسية" منذ عام
1945.
أعلن آراءه بلا تحفظ زائف. ففي رأيه، أن الشاعر الأصيل ليس ذاك الذي
يسعى الى
إثارة الإعجاب، بل الذي لا يسعى في الضرورة الى ان يفهمه قراؤه. كانت
الكتابة علة
وجوده ولم يكن الكتّاب المفضلون لديه أقل أهمية من ارثور كرافان، غارثيا
لوركا
ونوفاليس. قال أيضاً ان قصيدته المفضلة هي تلك التي لم يكتبها
بعد. في إحدى قصائده
يقول: "ربما طلبت الكثير من الحياة، وآمل بأن الموت لن يخيب أملي". ديوانه
"أعشاب
الليل الطويلة" يعتبر صرخة قلق، ومرارة وتمرد، وقد كُتب بدم نفس ملتهبة،
ومن قريحة
بودلير وكامو، ممهورة بحدة وحشية مرعبة! نعثر فيه على أبيات شعر تدخل
بعلاقة مباشرة
مع الموت، هذا الموت الذي سيتواعد معه مشحور في ما بعد!
عودة "دوكو دايز"
بعد سنتين غياباً
عشر سنين مضت
على ولادة "مهرجان بيروت للأفلام الوثائقية"
(Docu Days)، وقد حاول المهرجان من
خلالها أن يقدم خلاصة الإنتاج السينمائي الوثائقي العربي والغربي، الى
جمهور لبناني
يهتم بهذا النوع، بعيداً مما تقدمه الفضائيات العربية، وإن لم يكن الكثير
من
الأفلام المعروضة سوى ريبورتاجات. هذا اللقاء حاول على مدار
ثماني دورات ردم الهوة
بين الجمهور والأفلام التسجيلية، قبل أن يغيب لدورتين متتاليتين من دون أن
يوضح
أسباب الغياب أمام الجمهور، ولا حتى أن يبرر التوقف ببيان أو مؤتمر صحافي.
الآن
يعود المهرجان بمجموعة من الأفلام الجديدة بدأ عرضها أول من امس في صالة
"متروبوليس -
صوفيل"، بعدما تنقل في اماكن عدة من
المدينة.
نادراً ما تجد الثقافة العربية
في هذه الأفلام "سينما"، بل مجرد اعمال تلفزيونية، في حين ان
المهرجان كان في سنوات
سابقة قد خطا خطوة أكيدة في التأسيس لمفهوم شعبي مختلف، مفاده ان الفيلم
الوثائقي
صناعة سينمائية تستفيد منها المؤسسات الاعلامية المرئية، تنتجها احياناً
وتشارك في
انتاجها احياناً أخرى. وعلى المستوى اللبناني، أفسح المهرجان
مجالاً متواضعاً
للفيلم الوثائقي الطالبي من أجل تشجيع الطلاب الجامعيين، سواء المتخصصين
بالفنون
السمعية البصرية أو بالاعلام والصحافة، ودعمهم معنويا كي يطوروا ادوات
التعبير
والوعي المعرفي.
3
أسئلة الى...
هشام كايد
(عن
السينما
الفلسطينية)
لا تستطيع السينما الفلسطينية استئصال جذورها من الأرض التي
نبتت فيها. فعلى الرغم من أن هذا الفنّ ليس موقوفاً لخدمة قضية شعب وأمة
حصراً، غير
انه صار في أيدي المخرجين الفلسطينيين، أحد أمضى الأسلحة في
وجه العدوان
الاسرائيلي. هذا السلاح كيف يُستخدم؟ ما هي اللغة "الشاملة" التي يجب ان
تُبتكر
لمخاطبة المثقف سينمائياً، وغير المثقف في الحين نفسه. سؤال حملناه الى
هشام كايد
الذي يُعرَض له فيلم جديد عنوانه "مسرح وحرب"، في متروبوليس - صوفيل، هذا
السبت
الساعة السادسة ونصف مساء.
•
ما ابرز العقبات التي يواجهها المخرج
الفلسطيني اليوم لانجاز عمله او لعرضه في الخارج؟
-
العقبات التي يواجهها
المخرج الفلسطيني عديدة ومعقدة، نظراً الى الظروف الموضوعية
المحيطة. منها على سبيل
المثال، محدودية الموارد المالية في الانتاج، وتأثيرها تالياً على توفير
الامكانات
التقنية الحديثة. وهناك الصعوبة الاساسية التي اريد ان اركز عليها، وهي
مسألة
الحصار السياسي الذي يواجه جميع عناصر النضال الفلسطيني،
وتالياً انجاز الافلام
التي تعالج القضية الفلسطينية لإيصالها الى الرأي العام العالمي.
•
ما مدى
ضرورة التورط الشخصي للمخرج في الصراع من اجل الاحتكاك بالواقع، ولنقله
سينمائياً
على نحو افضل؟
-
لا يمكن ان نعتبر اي عمل سينمائي تورطاً في القضية الفلسطينية،
بل هو مكمّل لمقاومة الاحتلال، اي اننا لا نستطيع ان نختزل المقاومة بقتال
العدو
بالسلاح فحسب، بل بالمحافظة على تاريخ هذا الشعب من خلال تأريخ حياته
اليومية
وتسجيل تاريخه الشفوي بكل جوانبه، من حكاياته، واغانيه،
واحزانه، وافراحه، وما الى
ذلك، مما يشكل عاملاً اساسياً في مشروع المقاومة.
•
هل ما يُصنع من افلام
عن القضية، ينقل على نحو موضوعي الواقع الذي على الأرض؟
-
اهمية صنع افلام تتكلم
عن فلسطين، قضية في منتهى الاهمية، وخطيرة في الوقت عينه. على
سبيل المثال، نرى بعض
الافلام التي اخرجها غربيون عن فلسطين. نحن بالطبع نقدّر عطاءهم للقضية،
لكنهم لا
يصرفون الوقت اللازم للتعرف الى الواقع، بل يباشرون العمل ولا يستطيعون ان
يدخلوا
قلوب الناس، لهذا نرى المخرج في بعض الافلام والمعدّ في بعض
البرامج، يسألان
الاطفال او الشباب ما يتمنون. مباشرة يكون الجواب: العودة. في رأيي، من غير
المنطق
ان يُطرح هذا السؤال، لأن الرجوع الى فلسطين امر مسلّم به، لكن المجيب يفهم
ماذا
يريد السائل فيعطيه الجواب الذي يريده. لكن، اذا جلس السائل مع
المجيب، ووثق احدهما
بالآخر، واعيد طرح السؤال، فبالتأكيد سيكون هناك جواب يتحدث عن آمال
وامنيات اخرى.
الاهتمام بالانسان الفلسطيني كإنسان، لا
يكتمل الا بقراءة ادوات عيشه وسلوكه، ونمط
حياته وتفكيره، واسلوب تأمله وعلاقاته. لهذا، يجب الغوص في
التفاصيل اليومية
للانسان الفلسطيني.
خارج الكادر
إستعمار؟ (3)
التحقيق الذي أجريته
عبر القارات بغية استجواب السينمائيين حول مسألة الانتاج المشترك، ما كان
ليكتمل من
دون الذهاب الى أولئك الذين قادتهم الخيبة والظروف السياسية والانكسارات
بعيداً الى
بلاد الاغتراب. شتان بين الذين ينجزون الافلام داخل البلدان العربية وأولئك
الذين
شربوا من الينبوع الاوروبي، فأضحوا جزءاً من التركيبة العالمية
الجديدة القائمة على
مزج الهويات، لكن من دون أن ينكروا هويتهم الاصلية أو أن يديروا ظهرهم الى
المعاناة
في بلدانهم.
من أوائل الذين التقيناهم في أوروبا المخرج الفلسطيني الاصل هاني
أبو أسعد، الذي اقام في هولندا مدة من الزمن قبل أن ينتقل الى الولايات
المتحدة،
بحثاً عن طموحات أكبر. أنجز أبو أسعد فيلم "الجنة الآن" من
انتاج فلسطيني - هولندي.
أخذ مالاً من الغرب لكن لم يستخدمه خلافاً لمبادئه وقيمه. يروي الفيلم آخر
24 ساعة
في حياة انتحاريين، مسلطاً الضوء على الجانب الانساني فيهما.
لم يكن ممكناً
الحديث عن الانتاج المشترك من دون ذكر الحكومات العربية التي لا تولي
الثقافة
أهمية، على رغم أن العصر بات عصر الصورة بامتياز. وهذا ما جعل عدداً كبيراً
من
المخرجين يتطلعون الى الغرب لإنتاج أعمالهم. أبرز هؤلاء المخرج
العراقي المقيم في
باريس، سعد سلمان، الذي يملك نظرة مغايرة الى الانتاج المشترك.
في بلد ذي ثقافة
كوزموبوليتية قائمة على شعار "حرية، إخاء، مساواة"، اصطدم سعد سلمان بجهاز
الرقابة
الفرنسية التي كان موضوع صدام حسين أحد محرّماتها. على رغم المحرّمات التي
بلغت
حداً لا يطاق، فقد استطاع السينمائيون الذين يعيشون في المنفى
القفز فوق أسوارها
بفضل الانتاج المشترك، أو ما يسمّيه سعد سلمان التمويل الاجنبي لمشاريع
فردية. هكذا
استطاعت كاميرا المخرج الجزائري المنفي جان ــ بيار ييدو أن تجول في ذاكرته
المنكوبة ملتقياً رموزاً وذكريات من الماضي في فيلمه "الجزائر،
قصص لا تروى". موضوع
الاقتلاع والعودة الى الجذور، يُطرح بقوة في أفلام الانتاج المشترك، وهو
الذي يتيح
للكثيرين العودة الى بلادهم وتصويره من زاوية جديدة.
نتيجة الوضع السياسي
المتأزم، هاجر المخرج العراقي الكردي هينر سليم الى باريس. حساسيته
المغايرة لاحظها
الفرنسيون، فأعطوه مالاً لتمويل مشاريع ذات علاقة بالواقع الفرنسي، كما هي
الحال في
فيلمه "سقوف باريس" الذي يحكي عن وضع المتروكين الى مصيرهم.
ادرك المنتجون أن نظرة
الخارج الى الواقع الفرنسي لا بد أن تغني السينما الفرنسية.
هذا الترحال
البديع هو أيضاً مصير المخرج الفلسطيني رشيد المشهراوي الذي يقيم في باريس
على نحو
متقطع، لأن هذا هو المكان الذي يعثر فيه على مال لإنتاج أفلامه. لكن ما هي
علاقته
بهذه المدينة وهذه الحضارة؟ هل هي علاقة جلاّد بضحيته أم علاقة سوية ندّية؟
هذا
الوطن البديل الذي يبحث عنه المشهراوي، وجده الموريتاني عبد
الرحمن سيساكو في
باريس. كل ما قدّمه هذا المخرج من أفلام، كان تمويله فرنسياً، لكنه استطاع
أن يبقى
موريتانياً وأفريقياً، قلباً وقالباً، ولا يتنازل عن أي من اقتناعاته. نمطٌ
كهذا،
يلزمه بالتأكيد عناد وشخصية قوية، وهذه من صفات سيساكو.
على غرار سيساكو، ثمة
جيل كامل من السينمايين الضائعين بين الغرب والشرق، بين مستلزمات التمويل
الذي يأتي
من بلد الاقامة، وقيم الموضوع الذي يجدر من أجله العودة الى الجذور والوطن.
هذه حال
ندير مكناش الذي يحارب في أفلامه الكليشيهات والآراء المسبقة الموجودة عند
المشاهد
الغربي ازاء العرب.
رمتهم أنظمة أوطانهم فاحتضنهم الغرب من دون أن يكون هذا
الغرب وطنهم البديل، لأن الارتباط بالموضوع لا يزال قوياً. معظم هؤلاء
السينمائيين
الذين هاجروا لظروف سياسية، وجدوا في الانتاج الاجنبي لأعمالهم
السند الاقوى
للإدانة والرصد والتأريخ لحكاياتهم. لكن النظرة الى الانتاج المشترك تختلف
بين جيل
وآخر، وهذا ما أدركناه حين التقينا المنتج التونسي محمد شربطجي الذي له باع
طويل في
الإنتاج، ويعرف اسراره ومآربه السياسية.
على رغم التحديات التي يواجهها
السينمائي العربي لإيجاد تمويل اجنبي لأفلامه، يواجه أيضاً
تحدي أن يبقى حراً
ومستقلاً عن كل التزام سياسي. المخرج العراقي عامر علوان، المقيم في باريس
منذ
سنوات، هو أحد الذين استطاعوا ابعاد تهمة مغازلة الاستعمار الثقافي، اذ
أثبت "نظافة
كفّه" في تصويره قصة عراقية في زمن سيطرة صدام حسين.
هل للغرب مصلحة في اظهار
الجوانب السلبية للعالم العربي؟ ومن المسؤول عن هذه الصورة غير
المشرّفة؟ من يصنعها
في الواقع ومن ينقلها الى العلن؟ في انتظار جواب حاسم عن هذه القضية التي
تؤرق
الكثيرين، لا يزال الجدال مستمراً في شأن الانتاج المشترك، بين مؤيد ومعارض.
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
24/09/2009 |