لا شك في ان أقوى فيلم تاريخي عرض - وسيعرض أكثر - عام 2009، هو فيلم
«أوغاد
سيئو السمعة» لكوينتن تارانتينو، الذي يتحدث عن فصل من فصول الحرب العالمية
الثانية. فهل يمكن اعتبار هذا الفيلم، حقاً، فيلماً تاريخياً؟ من الناحية
الظاهرية:
أجل، طالما انه يغرف، في شكل عام، من أحداث
أساسية متفق على انها تشكل جزءاً من
تاريخ معروف. ولكن من الناحية الجوهرية: لا... ذلك ان فيلم
تارانتينو الجديد هذا،
يقوم على وقائع مفترضة، على ما يمكننا أن نسميه «تاريخاً مضاداً». وهو نوع
إبداعي
يطاول أحداثاً وأموراً وشخصيات تاريخية كثيرة، في الأدب كما في السينما
وحتى في
المسرح، لكنه ارتبط خلال النصف الثاني من القرن العشرين،
خصوصاً بأحداث تنتمي الى
الحرب العالمية الثانية. ولعل أشهر ثلاثة أعمال في هذا المضمار هي: فيلم
تارانتينو
الجديد الذي ذكرناه، ونص للناقد والمفكر جورج شتاينر، يفترض أن هتلر لم
ينتحر، بل
هرب بعد الحرب والهزيمة الى أميركا اللاتينية، حيث تعقَّبه
أربعة من الشبان اليهود
لاغتياله عقاباً له على الهولوكوست، ثم رواية كبرى للكاتب فيليب ك. ديك، هي
«الحصن
أعلى التل»، يتصور فيها ان النازيين لم يهزموا خلال الحرب العالمية الثانية
بل
احتلوا الولايات المتحدة وها هم الآن يحكمونها. أما ما يفعله
تارانتينو في فيلمه
فأمر معاكس تماماً: جزء من الفيلم يفترض نجاح مؤامرة في فرنسا دبرت لاغتيال
هتلر
آخر سنوات الحرب ونجحت.
تفسير وتأويل
واضح في الحالات الثلاث، أن المبدعين يمارسون حرية كبرى في قراءة
التاريخ، و «إعادة
تصويبه»، غير أن الذين يفعلون هذا، قلة فقط، أما البقية، أي الغالبية
العظمى
من المبدعين، فإنها حين تتصدى للتاريخ في شكل روائي - سينمائي
أو غير سينمائي -
فإنها تحرص على أن تروي الأحداث كما هي، أي كما وقعت، مع تدخل في التفسير
في أحسن
الأحوال. وطبعاً ليس تفسير هذا الأمر والتوغل فيه هدف هذا الكلام، بل سقناه
من باب
أولى للدلالة على ما لم يتوقف النقاد والمؤرخون عن تكراره، وهو أنه، إذا
كان شائعاً
ان مفعول كل عمل فني أو أدبي أو غيره، لا يمكنه إلا أن يكون
سياسياً في نهاية
الأمر، فإن السينما التاريخية تبدو أقرب الفنون الى السياسة، حتى وإن كنا
نعرف أن
الإبداعات التاريخية تشمل استعادة السياسة وغير السياسة. ولكن أوَليس من
الدلالة في
مكان أن تكون السياسة، الماضية والراهنة، جزءاً من خلفية أفلام - وأعمال
ابداعية
أخرى -، تبدو في ظاهرها «لا سياسية»، كما الحال، مثلاً، مع
«اندريه روبليف»
لتاركوفسكي أو «باري لندون» لكوبريك، كيلا نعطي سوى هذين المثلين؟
وانطلاقاً من هنا، أفلا يصح أن نقول انه طالما ان السينما التاريخية،
في مختلف
فروعها وأنواعها، وهي كثيرة على أية حال، تنهل من وقائع حدثت بالفعل، حتى
ولو عادت
وصوّرتها وفسرتها بل ناقضتها أحياناً، فإن من المنطقي أن هذه الأحداث
والوقائع انما
أخذت من بطون الكتب. إذ حتى ولو كان هناك تاريخ يروى شفاهاً ويتم تناقله -
وهذا،
على أية حال، يصبح جزءاً من التراث الأسطوري حتى في استناده
الى حقائق موثقة - فإن
ثمة ألف يقين بأن العلاقة بين السينما التاريخية والكتابة التاريخية علاقة
أكثر من
وثيقة. ومن هنا، في سياق أي حديث عن الأدب والسينما، لا بد من أن يعطى حيز
واسع،
للسينما التاريخية، لأنها مبنية أصلاً على ما يخرج عن نطاق
الخيال الخاص بالمبدع
الذي يحقق الفيلم. فحتى مخرج مثل تارانتينو، إذ لجأ الى خياله الواسع -
والرائع -
ليروي حكاية «مستحيلة»، نجده يستند الى
المدونات التاريخية لخلق العالم الذي بنى
«تخريفه»
الجميل، على خلفيته. ولعل هذا الأمر يبدو لنا على كل وضوحه من خلال
المقارنة بين فيلمين راهنين تناولا هتلر: أولهما «فالكيري» الذي صوّر بـ
«أمانة»
حادثة تاريخية هي محاولة فاشلة لاغتيال هتلر على يد ضباط ألمان، وثانيهما
فيلم
تارانتينو الذي نتحدث عنه.
وهذه المقارنة لا تهدف هنا الى الوصول الى حكم قيمة، انما الى توضيح
قدرة
السينما التاريخية على اللعب بمواضيعها في أمانة للحادث التاريخي، أو غدر
به. ولكن
في الحالين، وبالنسبة الى الأعمال الكبيرة على الأقل، يبدو
واضحاً أن مبدعي السينما
ليسوا مدرسي تاريخ، أو مؤرخين أكاديميين محترفين. ومن هنا التأكيد دائماً
على أنهم،
حين يحققون أفلاماً تاريخية، انما يكون من أهدافهم، الى الامتاع، اسقاط
الماضي على
الحاضر أو هذا الأخير على الماضي. هنا، من طريق المبدعين، يصبح
التاريخ ذا وظيفة
«ايديولوجية»
راهنة، على عكس ما تكون الحال في النص الأصلي الذي أخذت منه الأحداث:
النص التاريخي الموثق. وحسبنا هنا أن نذكر
أفلاماً مثل «ايفان الرهيب» لايزنشتاين،
أو «عناقيد الغضب» لجون فورد
(عن
رواية جون شتاينبك) بين مئات الأعمال الأخرى المأخوذة من التاريخ عبر وسيط
أدبي
أو نص تاريخي.
بدايات واعدة
منذ بداياتها، إذاً، التفتت السينما صوب التاريخ، وفي شكل أكثر
تحديداً، صوب
التاريخ المدون لتنهل منه. وفي هذا الإطار لعل من المفيد أن نذكر مثلاً،
فيلم «اغتيال الدوق دي غيز» (1908) وهو فيلم
فرنسي يقال عنه دائماً انه، من خلال موضوعه
التاريخي، كان مبادراً في اعطاء مشروعية ثقافية مبكرة للفن
السابع، لتتوالى بعده
أفلام تاريخية عدة من أهمها «كابيريا» (1914) الإيطالي و «مولد أمة» (1915)
الأميركي لغريفيث، ثم بخاصة «تعصب» لهذا
الأخير نفسه (1916)... والجدير ذكره هنا هو
أن هذه الأفلام، حتى وإن كانت مأخوذة من صور ورؤى تاريخية،
فإنها كانت أبعد من أن
تكون مأخوذة من نصوص أدبية تاريخية. هذا تأمن، من ناحية ثانية، منذ التفتت
السينما
الى مسرحيات شكسبير التاريخية وبدأت تقتبسها. ثم بعد ذلك جاء دور الكتب
التاريخية،
التي احتوت على أنواع من التأريخ متنوعة وتراوح بين حكايات دينية، مأخوذة
من الكتب
المقدسة، ومن سير كبار القوم، من زعماء وأبطال ورؤساء، وصولاً
الى سير فنانين، ثم
بخاصة من قصص الحروب الكبرى والمعارك والغزوات... كل هذا شكل ما يسمى اليوم
بالسينما التاريخية، وهو نوع، على تعدد ملامحه يكاد يشكل نحو ربع عدد
الأفلام التي
حققت في تاريخ الفن السابع. ذلك ان السينما التاريخية بدت
دائماً جذابة، حتى وإن
كان من نواقصها - التي لم يهتم بها أحد - انها دائماً ما أتت سينما غير
تشويقية
طالما انها روت دائماً أحداثاً معروفة، ثم تباطأت قبل أن تصبح ذات طابع
تفسيري يعطي
الفنان المبدع حرية ما، أو هامشاً ما، في تعاطيه مع الحدث
الموثق والمعروف، كما
تروّت أكثر في اعطاء المبدع كامل حريته في استخدام الحدث التاريخي وتبديله
على
هواه.
ولا بأس من الإشارة هنا الى ان السينما التاريخية، سواء أكانت منسوخة
كلياً عن
التواريخ المدونة، كتباً أو روايات، تحدثت حتى الآن عن معظم الأحداث التي
عرفها
تاريخ البشرية، من «حروب النار» و «مليون عام قبل المسيح»، الى حروب الخليج
والأيام
الأخيرة من حياة فرانسوا ميتران، وحرب فييتنام وما شابه، بحيث
ان المتن الشامل
للسينما التاريخية، يكاد يكون تدويناً مصوراً لتاريخ البشرية نفسها. بل ان
ثمة من
بين المحللين والمؤرخين من يقول اليوم ان هذا المتن، سيصبح بدوره جزءاً من
هذا
التاريخ، ولو في أشكال مواربة. فمثلاً، حين يؤرخ السينمائيون
الأميركيون المشاكسون
لحرب فييتنام، أو حين يعيد روبرتو روسليني، إحياء استيلاء لويس الرابع عشر
على
السلطة، أو «يؤرخ» يوسف شاهين لحملة بونابرت على مصر، أو يستعيد الراحل جان
- ماري
ستروب، حياة جان - سيباستيان باخ وابداعاته، من خلال أفلمة
مذكرات زوجة هذا الأخير،
أو يصور جان - لوك غودار، القضية الفلسطينية (في «هنا وهناك») من خلال
تعاطي
الإعلام معها - ويمكننا هنا أن نسوق ألوف الأمثلة الأخرى - يصبح هذا كله
جزءاً من
التاريخ، لا مجرد راوٍ له.
إسقاط وأيديولوجيا
ولعل الجزء الأهم في هذا كله هو ان السينما - ولو في شكل افتئاتي -
عرفت كيف
تتجاوز، في العلاقة مع التاريخ، كل ما كان الإنسان بناه في خياله بصدد
تصوره لهذا
التاريخ، وذلك من خلال اعطاء الأحداث والشخصيات بل حتى الأفكار أحياناً،
بعداً
بصرياً، ولو انها في أحيان كثيرة أتت معتمدة في شكل أساس على
لوحات لفنانين كبار
عاصروا تلك الأحداث وحفظوا صورها وملامحها البصرية لذاكرة البشرية.
والحال ان هذا كله يعيدنا الى الموضوعة الأساس، وهي علاقة السينما
التاريخية
بالأدب التاريخي، إذ اننا ينبغي ألا ننسى هنا، وهو أمر نكرره، أن العدد
الأكبر من
الأفلام التاريخية اقتبس من نصوص ومسرحيات كما من روايات تاريخية، كتب
بعضها في زمن
الأحداث نفسها، وكتب البعض الآخر في أزمان لاحقة. بل كذلك
يمكننا ان نقول ان ثمة
أعمالاً أدبية تخييلية خالصة تنتمي الى أزمان ماضية، حين تناولتها السينما،
أعادت
اليها بعدها التاريخي لتنبهنا، الى كونها «تنفع» أيضاً كوسيط لدراسة
المجتمعات
القديمة حتى وان كانت نصوصها المكتوبة اتسمت باشتغال خيال
كتابها عليها، وحسبنا
كمثال على هذا أن نذكر «ثلاثية» بيار - باولو بازوليني عن «ألف ليلة» و
«حكايات
كانتربري» و «ديكاميرون»، حيث ان هذه الأفلام الثلاثة تعطينا فكرة أساسية
عن كيفية -
وقدرة - الفن السابع على الاشتغال بحرية،
ليس فقط على النص، بل على التاريخ
المروي، بحيث لا يعود النص سوى ذريعة.
وطبعاً يذكرنا هذا بكل ذلك العدد الكبير من الأفلام التي استخدمت
التاريخ
ورواياته ونصوصه ذريعة، من اشتغال ستانلي كوبريك على شخصية «سبارتاكوس» من
خلال
أفلمة رواية هاواردفاست في الفيلم الذي حققه عام 1960، أو
اشتغال بازوليني على
شخصية السيد المسيح من خلال «انجيل متى»... أو حتى «تفكير» كمال الشيخ في
تـاريخ
الثورة المصرية الراهن من خلال رواية نجيب محفوظ «ميرامار»، أو اشتغـال
آلان
ريـنـيـه على كارثـة هيروشيما من خلال نص للكاتبة مرغريت دورا،
أو حتى استعادة هذه
الأخيرة طفولتها، كما لتاريخ الاحتلال الفرنسي للهند الصينية في روايتها
«العاشق»
التي افلمها جان - جاك اتو، الذي كان هو
نفسه، قـد حـول رواية أومبـرتـو ايـكو
الأشـهر «اسم الوردة» - عن العصور الوسطى والصراع الديني ضد
العقل يمثـله أرسطو
وكتابه «المفقود» عن الضحك - الى فيلم تاريخي بات اليوم كلاسيكياً،
كلاسيكية مئات
الأفلام التي ما فتئت منذ فجر السينما، تنهل من الروايات والمسرحيات
التاريخية،
مبدعة متناً هو الأكثر استعراضية وإمتاعاً بصرياً، في الوقت
الذي نعرف أنه الأكثر
تمكيناً من التلاعب والأدلجة، عبر عمليـات اسقـاط مدهـشة عمادها قـدرة
السـرد
التاريخي، والبصري خصوصاً، على الإيهام بأن ما يقوله هـو الواقع... كل
الواقع.
*
الأسبوع المقبل: السينما العربية وأدباؤها
سينما السياسة والحرب بين الحياد
والأيديولوجيا
يمكن اعتبار السينما السياسية جزءاً من السينما التاريخية، طالما اننا
نعرف أن
من مهمات الفيلم السياسي ان يتناول حدثاً أو موقفاً تاريخياً، أو صار جزءاً
من
التاريخ أو هو مرشح لأن يصيره، غير أن ما هو جدير بالذكر هنا، هو ان الفيلم
السياسي، بالمعنى الحرفي للكلمة، صار له منذ سنوات عدة استقلال
لم يكن له في
السابق، إذ صار ولدى كثر من السينمائيين، المشاكسين بخاصة، فعلاً سياسياً
في حد
ذاته، وليس في الضرورة بالمعنى الذي كان يتحدث عنه مناضلو الستينات من طريق
الكاميرا: استخدام السـينما سـلاحاً فـي المعـارك. فهذا المعنى
هو شعار الحد
الأقصى، أما السينما الـسياسـية «الأخـف وطأة» والتي لا تصنع لـ «نخبة
المناضلين»،
فإنها بدت دائماً أكثر فعالية وجماهيرية، ولا سيما من خلال اشتغالها على
الوعي
والفضح ومساعدة المتفرجين على تحليل الأبعاد الخفية للألعاب السياسية.
وهكذا، إذا
كانت أفلام مثل «تعصب» لغريفيث، أو «الدارعة بوتمكين» و «أكتوبر»
لايزنشتاين، أو
«انتصار
الإرادة» للنازية ليني ريفنشتهال، أو حتى «متروبوليس» لفريتنز لانغ، و «شيبيون الأفريقي» وغيرها كانت كلها أفلاماً
سياسية، فإنها كانت في الوقت نفسه
أفلاماً دعاوية، حيث سخّر صانعوها عبقريتهم لخدمة أنظمة سياسية، ما ينفي عن
هذه
الأفلام صفة «سياسية» بالمعنى الحديث للكلمة.
في المقابل يمكن اطلاق هذه الصفة على أفلام أخرى، قد لا يكون معظمها
في روعة
وقوة الأفلام التي ذكرنا، لكنها ذات مفعول سياسي مشاكس أكيد. ومن هذه
الأفلام، على
سبيل المثال «الدكتاتور» لشابلن، و «فهرنهايت 11/9» لمايكل مور و «المانيا
في
الخريف» لفاسبندر، و «الأيدي فوق المدينة» لفرانشسكو روزي، و
«الجندي الصغير»
لغودار وحتى «روما مدينة مفتوحة» لروسليني. فالمشترك بين هذه الأفلام
وغيرها هو
قدرتها على التعبئة المشاكسة على الضد من الأعمال الأخرى
القادرة على التعبئة
الأيديولوجية...
غير أن ما لا بد من التوقف عنده هنا هو أن الفيلم السياسي، ومنذ
الستينات، في
حمأة استشراء ثورات الشبيبة وتعمّم الوعي الفني، وانطراح قضايا التخلف
والاستقلال
والدكتاتوريات والاستغلالات المختلفة، في العالم الثالث وغيره، صار أكثر
حدة
ووضوحاً... وإذا كان ثمة من أفلام تحضر في هذا الصدد في الذاكرة، لا بد من
ذكر
الفيلم الرائد «زد» لكوستا غافراس، الذي شكل بداية معينة للون
سينمائي سياسي مباشر،
سار على هديه كثر. وفي هذا الإطار نفسه، إذا كنا نعرف ان السينما التاريخية
المضادة
للحرب، قد ظهرت منذ النصف الأول من القرن العشرين - قرن السينما بامتياز»،
وانتجت
أعمالاً رائعة مثل «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية» عن رواية اريك ماريا
ريماركي،
و «الوهم الكبير» لجان رينوار، فإن هذه السينما شهدت ازدهاراً
كبيراً منذ هزيمة
الولايات المتحدة في الحرب الفيتنامية، مع أفلام مثل «يوم القيامة الآن»
لفرانسيس
فورد كوبولا (المأخوذ عن «في قلب الظلمات» للروائي جوزف كونراد) و «سترة
معدنية
كاملة» لستانلي كوبريك (المأخوذ عن رواية غوستاف هاسفورد
«الأوقات القصيرة»)...
في أفلام الحرب (أو بالأحرى: أفلام الاحتجاج على الحرب) تضافر الأدب
إذاً، مع
السينما ليقدما متناً طويلاً عريضاً، مأخوذاً من التاريخ الحقيقي،همه
النضال ضد
فكرة الحرب نفسها، وهو موقف نجد جذوره في أعمال تنتمي الى الحرب العالمية
الثانية
(«أجمل سنوات حياتنا») كما استكملته أفلام عدة تالية، ساهمت في جعل
سينما الحرب،
نوعاً يكاد يكون ذا استقلالية تامة، ولو من ناحية المواقف المعلنة، أو
المواربة،
للمبدعين. إذ، إن كان في امكان السينما التاريخية أن تكون أحياناً، أو
غالباً،
محايدة في رصدها الأحداث، فمن البديهي أن المبدع الحقيقي، أيّ
مبدع حقيقي، لا يمكنه
أن يكون محايداً في أي حديث عن الحرب، هذه «المجزرة الشرعية» كما سماها
هنري باربوز
يوماً.
السيرة «الذاتية»: ازدهار ومشاكل
من بين كل الأنواع السينمائية التي يمكن حسبانها ضمن اطار السينما
التاريخية،
يبرز نوع أفلام السيرة - التي توصف خطأ بأنها «أفلام السيرة الذاتية» -
بأنه النوع
الأكثر تطلباً للدقة و «الموضوعية»، وبالتالي النوع الأكثر اثارة للمشاكل.
والسبب
بسيط: اذا كان في وسع الفنان أو الكاتب أن ينظر الى الحروب أو
غيرها من الأحداث
التاريخية، نظرة حرة قابلة للنقاش والتأويل، فإن حيوات الناس (وهي الموضوع
الأساس
لأفلام السيرة) لا تحتمل مثل هذا، حيث ثمة دائماً قوانين وحقوق فردية أو
عائلية
ورقباء وأصحاب مصالح عملهم الدائم أن يسهروا على عدم تمتع
المبدع بأية حرية، ولو
هامشية، حين يقدم على أفلمة حياة شخص ما، سواء أكان سياسياً أو فناناً أو
مبدعاً،
أو حتى مجرماً... وإذا كان ثمة في عالم النشر، ما يسمى عادة بـ «السيرة
المأذونة»
أي التي نالت قبل نشرها، رضى أصحاب المصلحة أو الحق وموافقتهم، فإن من
الصعب في
السينما وجود مثل هذه الصيغة. ومن هنا جرت العادة في معظم الأحيان على أن
تتم صياغة
الفيلم، انطلاقاً من كتاب سابق الصدور، ونال ذلك القبول، مع الحرص على ألا
يبدل
السيناريو الذي سيؤفلم، أموراً جوهرية مما جاء في الكتاب
الأصلي. وانطلاقاً من هذه
العادة، صار في الإمكان القول ان سينما السيرة، هي بدورها، سينما ترتبط
ارتباطاً
وثيقاً بالكتاب.
وهذا الكتاب يكون على أنواع: فإما هو سيرة كتبت لحياة الشخص
(الاستثنائي) الذي
ستنتقل حياته هذه الى الشاشة. أو هو مذكرات ذلك الشخص. أو ما يجمع عنه من
ثنايا كتب
التاريخ. وهو أحياناً يكون على شكل عمل روائي كتب انطلاقاً مما هو معروف -
أو
«مفضوح»
من حياته -. وفي هذه الأحوال كافة، يتعين على الفيلم أن يكون أميناً لحياة
صاحب العلاقة وإلا فإن المحاكم والقضايا في انتظاره. ومن هنا يبقى الأكثر
أماناً،
هو أن تستقى حياة الشخص من نصوصه، ولا سيما مذكراته، كما حال
دافيد لين حين أفلم
حياة «لورانس العرب» انطلاقاً من كتاب هذا الأخير «أعمدة الحكمة السبعة»،
وريتشارد
آتنبورو حين أفلم حياة «شابلن» انطلاقاً من مذكرات هذا الأخير. في المقابل
نجد،
مثلاً، جون فورد، يلجأ الى سيناريو كتبه خصوصاً له لامار تروتي
حين حقق فيلماً عن
شباب ابراهام لنكولن (1939). والحال أن هذه الأمثلة الثلاثة تعتبر الأشهر
في عالم
سينما السيرة، علماً بأن هذا النوع بات يضم اليوم ألوف الأفلام التي أرخت،
بصرياً
بخاصة، لحياة معظم السياسيين والفنانين والأدباء والمفكرين
الذين عرفهم تاريخ
البشرية من فلاسفة اليونان («امبادوقلس» لجان ماري ستروب)، الى الرؤساء
الأميركيين (وكما صور أوليفر ستون بعضهم، من نيكسون الى
بوش، هو نفسه الذي حقق أيضاً واحداً من
أقوى الأفلام المعاصرة لنا عن المقدوني «الكسندر»)، مروراً
بالفنانين (كليمت أو
شكسبير، فرمير أو فان غوغ) والأدباء (سيلفيا بليث أو آيريس، فرجينيا وولف
أو
الأخوات برونتي...)، دون أن ننسى عشرات الأفلام التي حققت عن لينين وستالين
وهتلر
وموسوليني تتناول حياتهم كلياً أو «جزئياً» ومن المؤكد ان هذه
الأفلام جميعاً شكلت
متناً موسوعياً مدهشاً، لا بد ان نذكر أن أفضله وأكثره جاذبية كان ويبقى
جزؤه الذي
تناول حياة الفنانين أنفسهم، نجوماً في عوالم الغناء (من الفيس برسلي الى
تشارلز
راي) وعوالم السينما («إدوود» لتيم بورتون، أو «الطيار» لمارتن
سكورسيزي) أو عوالم
الرقص («ايزادورا» أو «نيجنسكي») أو الموسيقى (أفلام كين راسل وأبرزها عن
«ليست» و «تشايكوفسكي»)...
الحياة اللندنية في
18/09/2009 |