بعد انتهاء عرضه
العالمي الأول، في المسابقة الرسمية الخاصّة بالدورة الثانية والستين
لمهرجان «كان»
السينمائي الدولي في أيار الفائت، كتب
نقّاد وصحافيون سينمائيون غربيون مقالات
متفرّقة، هاجموا فيها المخرج وصنيعه، متوقّفين عند خروج الأول
على مساره الإبداعي،
وواصفين الثاني عملاً غير جدير بهذا المسار. لم يأبه السينمائي. قدّم عمله
الجديد
ومشى، مكتفياً بتكريمه بما فيه الكفاية من قِبَل المهرجان السينمائي الأهمّ
في
العالم، عندما «منحه» جائزة «السعفة الذهبية» عن فيلمه «بالب
فيكشن» في دورة العام 1994، وعندما اختاره رئيساً للجنة تحكيم المسابقة الرسمية الخاصّة بدورة
العام
2004، وعندما انتقى فيلمه الأخير هذا للمشاركة في
المسابقة الرسمية في دورة العام
2009، الذي نال كريستوف والتز عن دوره فيه جائزة أفضل
ممثل، في ختام الدورة هذه. لم
يأبه السينمائي. فهو، في مساره الإخراجي والإنتاجي والكتابي
الذي بدأه مطلع
التسعينيات المنصرمة، اختبر أنواعاً عدّة وأشكالاً متفرّقة من صناعة
الأفلام، كأنه
يسعى إلى فهم العمق الإبداعي في الاشتغال البصري. وهو، بتنويعاته تلك، بدا
كأنه
مصرّ على جعل الكاميرا واللغة والمعالجة والمضامين في خدمة
«نزواته» الإخراجية
والكتابية، بدلاً من أن يكون هو في خدمة السينما.
العنف
ذلك أن المخرج
الأميركي كوانتين تارانتينو (مواليد كنوكسفيل في ولاية تينيسي، 27 آذار
1963) لم
يشأ التقوقع في خانة واحدة، ولم يرغب في الثبات في ابتكاراته السينمائية،
على الرغم
من أن مسألة واحدة بدت جوهرية في أفلامه التي كتبها وأخرجها آخرون، وفي
أعماله التي
كتبها وأخرجها بنفسه: العنف. إن مراجعة سريعة لعناوين نتاجاته
كفيلة بتأكيد اهتمامه (هل
أقول هوسه) بالعنف، مصوّراً إياه كما هو، أو متعمّقاً في دلالاته وأبعاده
وجذوره. في الكتابة، هناك «قصّة حبّ حقيقية» (1993) لتوني سكوت و»قتلة
بالولادة»
(1994)
لأوليفر ستون و»من الغسق إلى الفجر» (1996) لروبرت رودريغز. وفي
الإخراج،
هناك «مستودع الكلاب» (1992) و»بالب فيكشن» (1994) و»جاكي براون» (1997)،
وإن كان
أقلّ أفلامه عنفاً مباشراً، و»اقتل بل» بجزأيه الاثنين (2003 و2004)
و»إثبات الموت» (2007).
من دون تناسي مشاركاته في أفلام جماعية، كـ«الرجل من هوليوود» في إطار
«أربع
غرف» (1995) مع أليسون أندرز وألكسندر روكويل ورودريغز، و»مدينة الإثم» (2005)
مع رودريغز وفرانك ميلر. في هذا كلّه، شكّل العنف مادة حيّة في قراءة الذات
الفردية وهواجسها وشياطينها، وفي متابعة المصائر البشرية
الذاهبة إلى حتفها أو
خلاصها، بالتطهّر الدائم بالدم والموت. في حين أن التفاوت الجمالي والدرامي
والفني
واضحٌ تماماً بين أفلامه هذه، إذ يُمكن القول إن أجملها سينمائياً كامنٌ في
«مستودع
الكلاب» و»بالب فيكشن» و»اقتل بل» تحديداً، من دون تناسي
سيناريوهاته التي نقلها
سينمائيون آخرون إلى الشاشة الكبيرة، وإن أحدث بعض النقل هذا صداماً بينه
وبين أحد
المخرجين الكبار، أوليفر ستون، لأن تارانتينو لم يعثر على نصّه السينمائي
المكتوب
في فيلم ستون، المخرج الأميركي الذي لا يقلّ «تفنّناً» جمالياً
في قراءة العنف
المباشر، أو المبطّن في أحداث سياسية واستخباراتية وتاريخية، كما في حالات
نفسية.
لا يشذّ فيلمه الأخير «سفلة مجهولون» (تمثيل: براد بيت وميلاني لوران
وديان
كروغر ومايكل فاسبيندر وإيلي روث وآخرين) عن المسار العنفي، وإن انتقل به
إلى
جغرافيا جديدة (فرنسا) لم تطأها «أقدام» أفلامه سابقاً، وزمن لم يتناوله
أبداً
(الحرب
العالمية الثانية). وعلى الرغم من أن العنوان يحيل إلى فيلم إنزو
كاستيلاّري (باللغة الإنكليزية، هناك حرف واحد يختلف في
عنواني الفيلمين)، المُنجَز في العام
1978؛ إلاّ أن المضمون والمعالجة وأسلوب الاشتغال
البصري ومسحة السخرية مختلفة:
«إنه
فيلم مغاير تماماً لفيلمي. إنه فيلم منتم إلى تارانتينو كلّياً. لا يتعلّق
الأمر بنسخة ثانية، بل بالأحرى بشيء ما أوحيتُ به»، كما قال كاستيلاّري
(الملف
الصحافي الخاصّ بفيلم تارانتينو)، الذي ظهر في لقطة سريعة في
الفيلم الجديد: «كان (تارانتينو)
في مكتبي عندما قرأ لي بعض المشاهد. سُحرت به، هكذا ببساطة. فكّرت أن
علينا إنجازه»، كما علّق المنتج لورنس باندر، الذي صبر طويلاً قبل إطلاق
عملية
تنفيذ المشروع، لأن تارانتينو اشتغل لمدّة عشرة أعوام في
السيناريو الذي تبدّل
كثيراً قبل أن يرسو على الشكل النهائي هذا، البالغة مدّته (بحسب النسخة
المعروضة في
مهرجان «كان») ساعتين وثمان وعشرين دقيقة. أما بيلار سافون، المنتجة
المُشاركة التي
عملت مع تارانتينو منذ ان تبوأت منصب المساعدة الإخراجية الثانية في «جاكي
براون»،
فاستعادت اللحظة التي وضعت فيها يدها على السيناريو: «يُسمّى
هذا بـ«يوم النشر»، أي
اليوم الذي تنتهي فيه كتابة السيناريو، فنستلمه ونوزّعه. وضع تارانتينو
السيناريو
على مكتبي، ثم نسخت منه نسخاً عدّة. اتصل بأصدقائه قائلاً لهم إنه انتهى من
كتابته،
داعياً إياهم إلى «العثور» عليه (السيناريو). كانت لديه لائحة
طويلة من أسماء أناس
رغب في أن يقرأوه». «كل فصل من فصول الفيلم له مظهر خاص به، يمنح (المتلقّي)
إحساساً متفرّداً ومتميّزاً (عن الأحاسيس
المنبثقة من الفصول الأخرى)»، كما قال
تارانتينو، مضيفاً أن «النبرة تختلف في كل مرّة»، ومشيراً إلى
أن المشهد الافتتاحي
مثلاً له مناخ «وسترن سباغيتي» لكن «مع مجموعة صُوَر مقبلة من الحرب
العالمية
الثانية».
بريق مفقود
عندما عُرض «إثبات الموت» تجارياً في أنحاء متفرّقة
من العالم، شعر بعض محبّي تارانتينو، الذين لم يستطع أحدٌ منهم، في تلك
اللحظة، أن
يتحرّر كلّياً من الجماليات البصرية المدهشة في جزئي «اقتل بل»، أن هناك
أمراً
سيئاً قد حدث. فالسينمائي، في فيلمه ذاك، انحرف عن تلك
الجماليات التي عرف دائماً
كيف يلعب بها أثناء تحويلها إلى فيلم سينمائي. و»إثبات الموت»، في صيغته
البصرية
الناشئة من رغبة الثنائي تارانتينو وصديق عمره روبيرت رودريغز في إنجاز
فيلمين
متتاليين ضمن مناخ واحد، سقط في فخّ الادّعاء البصري، إلى درجة
أن البعض لم يتردّد
عن القول إن تارانتينو فَقَد لمسته السحرية. يومها، وجدتُ في «إثبات الموت»
أشياء
كثيرة من مفردات المخرج وجنونه العنفي، على الرغم من قول لتارانتينو مفاده
أنه هو
نفسه لم يُعجَب بصنيعه هذا. سواء كانت مزحة أو قناعة، ظلّ
«إثبات الموت» بالنسبة
إليّ امتداداً طبيعياً للجنون السينمائي الخاصّ بتارانتينو. لكن العامين
الفاصلين
بينه وبين «سفلة مجهولون» جعلت الرؤية أدقّ، والتنبّه إلى فقدان جنون
تارانتينو
بريقه الإبداعي أعمق. في فيلمه الأخير هذا، هناك كمّ هائل من الثرثرة
البصرية
المملّة، أحياناً؛ وهناك تسطيح لم يُلغ بعض الجمال في صوغ
الحبكة، لأن الفيلم
لامَسَ السخرية المريرة والمثيرة للضحك في بعض اللقطات، بإعادة كتابته
فصلاً من
تاريخ الحرب العالمية الثانية.
في «سفلة مجهولون»، قدّم كوانتين تارانتينو
مجموعة من الجنود اليهود الأميركيين بإمرة الملازم الأول ألدو
راين (بيت)، تتجوّل
في مناطق فرنسية احتلّها النازيون، بحثاً عن «طرائد» نازية يتمّ تصفيتها
بوحشية
تُذكّر بأفعال الهنود الحمر، بحسب التقديم السينمائي الأميركي الهوليوودي،
الذي لا
يخلو من عنصرية فجّة بحقّ السكّان الأصليين للقارة الأميركية؛
وذلك بالتزامن مع «سيرة»
الكولونيل النازي لاندا (كريستوف والتز)، الباحث عن «طرائده» الخاصّة، أي
اليهود. في الوقت نفسه، هناك قصّة شوسانا درايفوس (لوران)، الناجية الوحيدة
من
مقتلة عائلتها على أيدي جنود لاندا (هل من داع للتذكير باسم
عائلتها، وبما يرمز
إليه في التاريخ الفرنسي والأوروبي؟)، والمقيمة في باريس، والمشرفة على
صالة سينما
صغيرة، بانتظار اللحظة المناسبة لتنفيذ ثأرها. هناك أيضاً السيّدة بريجيت
فون
هاميرسمارك (كروغر)، الألمانية المعادية سرّاً للنازية، التي
تقدّم المساعدة
لمقاومي الاحتلال النازي. تلتقي المسارات بعضها مع البعض الآخر، وتتداخل
فيما بينها
في لحظات أساسية، في سياق طويل من أحداث لا تخلو من ثرثرة كلامية ومشهدية،
مروراً
بقصّة حبّ بين جندي نازي عاشق للمسرح وصاحبة صالة السينما
الباريسية، ووصولاً إلى
الانفجار الكبير الذي أطاح بالواقعة التاريخية المحوَّرة هنا وفقاً لنزوة
تارانتينو
في التلاعب السينمائي بالتاريخ.
إزاء «سفلة مجهولون»، يُمكن القول إن شيئاً
عفناً بدأ يصيب «عبقرية» الفنان المدلّل، أو الابن المحبوب.
شطارته في الغوص
الجمالي في متاهة الذات والجماعة لم تعد قادرة، أو هكذا يبدو، على تحصين
لغته من
السقوط في فخّ الاستسهال، أو ما يُشبهه. قدرته على تصوير العنف بلغة جميلة
(هناك
كوريغرافيا حقيقية في مشاهد عنفية عدّة في «اقتل بل» مثلاً، وهناك تشريح
نفسي وروحي
وأخلاقي للعنف في «بالب فيكشن»، وهناك ما يقترب من التأمّل الوجودي في
العنف في
«مستودع
الكلاب» و»بالب فيكشن» أيضاً)، أصيبت بوهن واضح في «سفلة مجهولون»، لأن
التصنّع طغى في تصويره أحياناً، ولأن السخرية أسرفت في سعيها إلى شيء من
الكوميديا
السوداء في التقاط نبضه، أحياناً أخرى، من دون أن تبلغه.
تُرى، بعد هذا كلّه،
ما الذي سيُقدّمه كوانتين تارانتينو في فيلمه المقبل؟ وكيف سيُقدّمه؟
تبدأ
العروض التجارية اللبنانية لـ «سفلة مجهولون» بعد ظهر اليوم، في صالات
«سينما سيتي» (الدورة) و»متروبوليس/ أمبير صوفيل» (الأشرفية)
و»غالاكسي» (بولفار كميل شمعون).
السفير اللبنانية في
17/09/2009
كتــاب
أنجيلوبولوس و«براءة
التحديقة الأولى» لأمين صالح
نديم جرجورة
توزّعت اهتمامات الكاتب
البحريني أمين صالح بين الأدب والسينما. في الأول، ألّف نصوصاً
متفرّقة؛ وفي
الثانية، أبدع في نقل النصوص الأجنبية إلى العربية، محاولاً تقديم الأفضل
وفقاً
لهواجسه الشخصية. عرّب «السينما التدميرية» و»الوجه والظلّ في التمثيل
السينمائي»،
قبل أن ينقضّ على واحد من أجمل النصوص التحليلية للسينمائي
الروسي أندره تاركوفسكي،
فإذا بصالح يُترجم «النحت في الزمن» بلغة عربية أدركت عمق النصّ الأصلي
وروحه. ثم
وجد في فيديريكو فيلّيني ما يروي بعض عطش عربي إلى فهم العالم السينمائي
الخاصّ به،
فترجم حواراً طويلاً معه، قبل ثلاثة أعوام. وها هو اليوم يختار
يونانياً لا يزال
أبرز سينمائيي أوروبا وأجملهم: ثيودوروس (ثيو) أنجيلوبولوس (مواليد أثينا،
27 نيسان 1936)،
مترجماً ومعدّاً نصوصاً متفرّقة كشفت جوانب مختلفة من عالمه السينمائي، في
كتاب «عالم ثيو أنجيلوبولوس السينمائي: براءة التحديقة الأولى»، صدر عن
«وزارة
الثقافة والإعلام، الثقافة والتراث الوطني» في مملكة البحرين و»دار
الانتشار
العربي» في بيروت.
شاء أمين صالح أن يتيح للقارئ العربي فرصة التعرّف الى
أنجيلوبولوس الإنسان والمخرج والمثقف وصاحب الرؤية المختلفة، من خلال
أحاديثه
وقراءاته المسائل والتقنيات والتفاصيل: «صوت فريد في عالم
السينما»، يُعدّ «واحداً
من رموز السينما «الفنية» الحديثة، ومن أكثر السينمائيين أهمية وتميزاً
وإثارة
للجدل أيضاً في السينما العالمية المعاصرة». فالسينمائي اليوناني منتم إلى
ما يُعرف
بـ «المخرج المؤلّف»، لن «كل لقطة من كل مشهد من أي فيلم
حقّقه، تُعبّر عن رؤيته
الفنية، على نحو يتعذر محوها أو إزالتها». في الكتاب، فصولٌ عدّة اشتملت
على
التفاصيل التقنية والجمالية والفنية كلّها، التي شكّلت هذا العالم
السينمائي
المتكامل.
السفير اللبنانية في
17/09/2009
«يلماز
غوناي..
الحياة المأثرة» كتاب الروسيّ أ. أ. حسينوف
ملك الشاشة
القبيح
هيثم
حسين
أفرد الكاتب والناقد
السينمائيّ الروسيّ أ. أ. حسينوف كتاباً خاصّاً بتجربة السينمائيّ التركيّ
يلماز
غوني (1937- 1984)، الذي احتل اسمه المكان الأبرز في تاريخ السينما
التركية، إذ
تكاد حياته الاستثنائية أن تكون فيلماً مأسوَيّاً طويلاً. وُلد
يلماز غوني في قرية
ينيدجة بالقرب من أدَنة، تحدّرت أصول والده من أكراد زازا من أهالي مدينة
«سيورك»
في تركيا، التي قصدها صغيراً هرباً من
الخلافات العشائريّة. بدأ نشاطه تلميذاً
ميكانيكياً سينمائياً، ثمّ أصبح ميكانيكيّاً. في العام 1956،
نشر أوّل وأهمّ قصّة
له بعنوان «الموت يناديني»، وتدرّج في عمله، إلى أن أصبح مبرمجاً
سينمائيّاً، مثّل
بعدها أوّل أدواره السينمائية في «الأيل الأحمر» و»أبناء هذا الوطن»،
كاتباً لهما
السيناريو بالاشتراك مع السينمائيّ عاطف يلماز. توالت أدواره، وتضاعفت
الملاحقات
والاتّهامات والسجون. كان يفوق هذا كلّه الإبداع الذي قدّمه،
إذ إنه لم يتوقّف عن
العطاء حتّى في أسوأ الظروف. كان يتغلّب على القهر والظلم بالإبداع. حازت
إبداعاته
إعجاب المتابعين، وكان الممثّل الذي كسر قاعدة النجم الوسيم، فلُقِّب بـ
«ملك
الشاشة القبيح» (مدح عن طريق الذمّ). ساعدته في مفاصل حياته
كلّها، الغنيّة
والمعقّدة، قوّةُ شخصيّته، وعنادُه الجبليّ، وإيمانه الراسخ برسالة الفنّ
والأدب،
في مواجهة آلة الحرب، فكان الفنّ رسالته العظمى، معرّياً به الممارسات
المشينة التي
ارتكبت بحقّ مواطني بلاده، لا سيّما أنّ الحكم كان متأرجحاً، حيث تنتقل
موازين
القوى، بحسب «لعبة» الأواني المستطرقة، بين الأقطاب، مع
الانقلابات العسكريّة التي
كانت تجتاح البلاد.
قال المخرج والفنّان السينمائيّ الأبخازيّ يوسف دانيلوف عن
هذا الكتاب، الذي مهّد له، إنّه «يعمّق كثيراً من تصوّراتنا عن الفنّ
السينمائيّ
والأدب التركيّين، في العصر الراهن، وعن الحياة الاجتماعيّة في
تركيا بشكل عام» (ص.11).
وحاول المؤلّف، الذي زار يلماز في سجنه، تسليط الضوء على حياته وفنّه،
معتمداً على أعمال المؤلّفين السينمائيّين الأتراك، التي خصّصت به وعنه،
والمقالات
والآراء المنشورة عن أفلامه ومؤلّفاته الأدبيّة، وعلى تصريحاته للصحف
التركيّة
والأجنبيّة. عاش غوني 47 عاماً، قضى 11 عاماً منها في السجون،
عدا عن منفاه وتشرّده
أكثر من ثلاثة أعوام، ما خدم الجيش سنتين: «منحه القدر وقتاً قصيراً
للإبداع، لكنّه
قام بمأثرة وطنيّة» (ص. 13). كتب سيناريوهات 53 فيلماً، ومثّل في 110
أفلام، أخرج
17
منها، وأصدر عدداً من الروايات، حظيت كلّها بشهرة واسعة، واهتمام
ومتابعة
كبيرين: «ماتوا ورؤوسهم محنيّة»، «صالبا»، «المتّهم»، «زنزانتي» و»رسائل من
سليميّة». وظهر التوثيق غير مدقّق فيه بعض الشيء: من ذلك قوله في الصفحة 13
إنّ
غوني أصدر أربع روايات، ثمّ دوّن أهمّ معطيات حياته وفنّه في
الصفحتين 113 و114
ذاكراً فيهما خمس روايات. وجب التدقيق من قبل المؤلّف والمترجمة والمدقّقين.
نصير الفقراء
أحبّ الناس يلماز غوني، لأنّهم رأوا فيه تجسيداً لآمالهم. طغى
صدقه وعفويته على ما يُفترَض بالممثل أن يتحلّى به من وسامة. بقي تأثير
طفولته
نافذاً في مجمل أعماله، ولم تكن حياته الفنّية بمنأى عن
تبدّلات حياته العاصفة.
حافظ في الظروف كلّها على ثوابته، التي أضاف عليها ثوابت أخرى بحكم التجربة
والخبرة. بدأ نصيراً للفقراء ضدّ الظلم المحلول عليهم، واستمرّ في نضاله،
ما جرّ
عليه غضب السلطات التركيّة التي كانت ولا تزال متحالفة مع
الولايات المتّحدة
الأميركية في حربها الباردة ضدّ الاتحاد السوفياتي حينها. كان شيوعيّاً، أي
مناوئاً
للدولة وسياساتها، أي عدوّاً داخليّاً يجب تطهير الدولة منه ومن أمثاله،
يقول
المؤلّف: «إن الحياة الفنية ليلماز غوني تبدأ من الرواية
البدائيّة التي كتبها عن
الفلاّح الفقير، أيّام دراسته، وتنتهي بالنداء إلى النضال الثوريّ. ويمكننا
القول
إنّ أبطاله أيضاً قطعوا هذا الشوط معه؛ فقد ازدادوا مروءة على يديه. ومثل
هذه
التغييرات لا يغفرها المجتمع الرأسماليّ» (ص. 78).
سرد الكتاب مواقف غوني
الثابتة وطريقة عيشه، إذ إنه، على الرغم من نيله جوائز وتكريمات كثيرة، ظلّ
مجروحَ
الفؤاد جرّاء تلك الممارسات التي ارتُكبت بحقّه، والتي لم تثنه عن الإبداع،
بل كانت
حافزاً إضافيّاً له للعمل بطاقاته كلّها، لأنّه كان في هروب مستمرّ، يدفعه
إلى عدم
التأجيل. لم يأمن على نفسه قطّ من الاعتقال أو النفي، في مسيرته الحافلة
بالإنجازات
المؤملة والسجون والمنافي المؤلمة. كان، في كل مرّة يخرج فيها من السجن،
يزداد
عناداً وإصراراً على استكمال مسيرته، لأنّه كان يعتبر إقامته في السجن
رغماً عنه
جزءاً من نضاله الاجتماعيّ، وكتب فيه روائعه، وأخرج بعض أفلامه.
قد يبدو الحديث
عن بعض جوانب النضال الثوريّ مَجلبة للتندّر من قبل البعض في أيّامنا هذه،
أو ضرباً
من «الترَف الفكريّ»، لكنّه يبقى مفخرة تسجّل ليلماز غوني، عندما ننظر إليه
في ظرفه
وشرطه التاريخيّين، وما تعرّض له من موبقات يفسّر جانباً من ضياع وتضييع
ذوي
المبادئ والقيم في بحر الصراعِ المزمنِ.
«يلماز غوني.. الحياة المأثرة»،
تأليف: أ. أ. حسينوف، ترجمة عن الروسيّة: لمعان إبراهيم،
مراجعة وتدقيق: صلاح
برواري، إصدارات «دار سبيريز للطباعة والنشر»، دهوك. 145 صفحة من القطع
الوسط. 2009 (صدر الكتاب في طبعة خاصّة في سوريا، سابقاً).
السفير اللبنانية في
17/09/2009 |