بداية أود أن أوضح أنني لست من القائلين إن مشاركة فيلم "المسافر"
للمخرج المصري
أحمد ماهر في مسابقة مهرجان فينيسيا كانت يجب أن تتوج بالحصول على جائزة
ما، وإن
عدم الحصول على جائزة يعد نوعا من الهزيمة، أو أن "السينما الإسرائيلية
انتصرت على
السينما العربية" فهذا المعنى لا يعكس سوى إحساسا بالدونية والرغبة
المتكررة في
تعذيب الذات، فليس من المهم الحصول على جوائز في المهرجانات، فهناك أفلام
لكبار
السينمائيين في العالم، مثل جاك ريفيت وآلان رينيه ومايكل مور
وغيرهم، تخرج من
المهرجانات دون جوائز.
إن الأهم، هو ما يمكن أن يتركه الفيلم، كعمل فني ووثيقة
مصورة ورؤية خاصة بمبدعه ووثيقة حية على عصره، من أثر في الجمهور والنقاد،
ويدخل
تاريخ السينما، شاهدا على عصره، كأثر ثقافي وفني مميز.
ثانيا: من المهم التأكيد
على أنني لا أجد ما يمنع من أن تنتج وزارة الثقافة، أي الدولة
المصرية، أفلاما
سينمائية بشكل مباشر، أي تتحمل مسؤولية إنتاج عمل متميز لا يمكن للمنتج
الخاص
المغامرة بإنتاجه، ولو أني أرى أن الأهم أن تتيح وزارة الثقافة المناخ
الملائم
للمنتجين والسينمائيين للإبداع دون خوف، وأن تدعم الإنتاج
المتميز عن طريق دعم
وتمويل إنتاج السيناريوهات المتميزة، خاصة وأن "الوزارة" لا تملك جهازا
حقيقيا
متخصصا، أو آلية خاصة بالإنتاج السينمائي على نحو يتيح لها خوض مغامرة من
هذا
النوع. وهنا قد يثار كلام كثير حول ما أحاط فيلم "المسافر" من
تدخل بيروقراطي،
وتعدد الأشخاص والجهات التي تعاملت معه، وانغماس عدد كبير من
الموظفين في عملية
إنتاجه مما أدى إلى تعطله لعدة سنوات، وما أدى إليه من انفاق أموال كثيرة
أيضا في
دروب جانبية، وهو ما جعل ميزانية الفيلم التي قدرت في البداية بثمانية
ملايين جنيه
مصري، تصل في النهاية، إلى نحو عشرين مليونا من الجنيهات. ومع
ذلك فلابد من الترحيب
بمغامرة الوزارة في إنتاج فيلم غير تقليدي كان يؤمل أن تسفر عن عمل غير
مسبوق في
تاريخ السينما المصرية، يمكن أن يساهم في خلق مناخ من التنافس الجاد بين
السينمائيين وربما تكرار التجربة مرة أخرى، مع مخرج آخر جديد.
غير أن النتيجة
النهائية لفيلم "المسافر" الذي استغرق العمل فيه سنوات عدة، جاءت صادمة على
كل
المستويات، بل وقد جاءت النتيجة النهائية للفيلم على الشاشة، بكل أسف،
كارثة
فنية.
كيف يكون كارثة فنية وقد توفرت له كل تلك الإمكانيات المادية،
والطاقات
الإبداعية (مصور ومدير تصوير ومهندس صوت ومشرف على المونتاج من إيطاليا)
وأتيح
لمخرجه العمل بتمهل والحصول على كل ما يطلب، دون أي ضغوط، وكان بوسعه أن
يتوقف
وقتما يرغب، ويستأنف وقتما يشاء، في سابقة لم تحدث في تاريخ
الإنتاج السينمائي في
مصر، ولم يتمتع بها لا يوسف شاهين ولا غيره في عهد "مؤسسة السينما" في
الستينيات؟
مشكلة السيناريو
في رأيي أن المشكلة الأساسية تكمن في أن
السيناريو الذي كتبه مخرج الفيلم أحمد ماهر، لا يمكنه أن يصنع
فيلما جيدا، إلا إذا
كان قد قدم إلى المسؤول الذي تحمس لإنتاجه، مرفقا بمذكرة تفسيرية لمغزاه
ومغزى
مشاهده الغامضة في المطلق، والمتفلسفة خارج العصر والتاريخ!
نحن أولا أمام فيلم
يقسمه مخرجه إلى ثلاثة أقسام، يدور كل منها في يوم واحد يحمل تاريخا محددا
يشير إلى
حدث بارز في تاريخ مصر والعالم: اليوم الأول في مدينة بورسعيد عام 1948 أي
بعد
انتهاء حرب فلسطين أو بعد وقوع "النكبة" الكبرى، والثاني في
الاسكندرية 1973 أي
أثناء حرب أكتوبر بين العرب وإسرائيل، والثالث في القاهرة في خريف 2001 أي
بعد
أحداث سبتمبر الشهيرة التي وقعت في نيويورك وواشنطن.
وكل تاريخ السينما والفنون في العالم يقول لنا إن
المشاهد/ القاريء/ الباحث/ المتأمل أيا كان، سيحاول على الفور العثور على
صلة بين
الأحداث والشخصيات التي يراها على الشاشة، وبين تلك التواريخ والأماكن
المحددة.
لكن المؤكد، بعد التأمل الدقيق في الفيلم، عدم وجود أي علاقة بين
التواريخ التي
نطالعها قبل بداية كل قسم، وبين ما نشاهده من مشاهد ولا أقول أحداثا فلا
توجد أحداث
في هذا الفيلم بأي معنى من المعاني المفهومة والمعروفة لمشاهدي السينما في
العالم،
وليس هذا مهما على أي حال. فمن المفهوم أن السينما الحداثية لا
يجب أن تروي
بالضرورة قصصا تكتسب قيمتها من الأحداث الخارجية التي تصورها، أو الصراعات
الدرامية
التي تدور بين شخصياتها، بل ربما يمكن الاستدلال على مغزى ما تصوره من خلال
الدلالات التي تكمن في بنية الفيلم المرئية: الإشارات التي
تتولد عن الصور وتعاقبها
في سياق سردي محدد.
في فيلم "المسافر" هناك رغبة في تقديم عمل ملحمي متحررمن
الحبكة، يقول المخرج أنه يدور حول "الزمن" وليس حول التاريخ، فلماذا إذن
يستخدم
التاريخ أو التواريخ المحددة في أماكن محددة، وهل يمكن أن يكون هناك فيلم
عن
الزمن.. في المطلق، أي مع تجريد الشخصيات من أي طابع محدد
يربطها بمكان محدد أو
ثقافة محددة!
إننا أمام شخصية رئيسية هي شخصية "حسن" التي يجسدها خالد النبوي في
مرحلة الشباب، ثم عمر الشريف في مرحلة الشيخوخة. لكننا نشاهد الأحداث من
خلال عين
حسن وكما يرويها بصوته (وهو كهل) من خارج الصورة. و"حسن" رجل مصري يعمل في
مصلحة
البريد يذهب لاستلام عمله في بورسعيد فيجد نفسه منساقا للبحث عن امرأة تدعى
"نورا" (قد
تكون أرمينية الأصل كما يقال له) لكي يسلمها تليغرافا من خطيبها الذي
تنتظره
لكي يتزوجها في تلك الليلة تحديدا. لكن حسن يقرر ألا يسلمها
التليغراف، بل يجد نفسه
منجذبا إليها، وتنجذب هي أيضا إليه على نحو ما. فماذ يحدث؟
في مشهد صادم يقوم
حسن باغتصاب "نورا" بعد أن يشحنه بحار عجوز مقزز في ألفاظه وسلوكه، بفكرة
أنه
يستطيع الاستيلاء على قلبها إذا أثبت لها أنه رجل مقدام جريء، لا يهاب
شيئا، وهي
فكرة تتسق تماما مع النظرة الغربية الاستشراقية عن "الرجل
الشرقي".. الذي يتصف
بالجلافة والغلظة، ولا يحترم المرأة، ويتعامل معها بسادية،
وازدراء.. وكل هذه
المعاني مجسدة تفصيلا في مشهد الاغتصاب الطويل.
وفي المشاهد الأولى التي تدور
على السفينة أيضا نرى المصريين من "الأفندية" وضباط السفينة
وعمالها، يتناوبون
واحدا وراء الآخر، تدخين الحشيش من خرطوم متصل بوعاء ضخم يشبه البرميل. وهي
صورة
أخرى "استشراقية" لا ينبت بها خيال أكثر السينمائيين الغربيين رغبة في
تنميط "الآخر".
وسرعان ما يصل خطيبها "فؤاد" الذي يريد أن يتزوجها في نفس الليلة،
ويرتدي فؤاد بذلة العرس، يتم الزفاف، وأثناء الزفة يتضح أن حسن كان قد سبق
فؤاد في "تأجير"
البذلة، فيصر حسن على انتزاعها منه حتى لو سار فؤاد بملابسه الداخلية في
الزفة كما يحدث بالفعل، ثم يذهب فؤاد بعد أن يختلي العروسان معا ليقتحم
القمرة
عليهما، ويقول للعروس إنه يحبها ويريد الزواج منها لكنه كان
يحاول أن يثبت لها
شجاعته!
ترى.. ما المقصود من هذه المشاهد الأولى التي تستغرق أكثر
من نصف ساعة
من الفيلم، والتي تدور على سفينة تبحر، ونشاهدها من خلال حركة كاميرا تروح
وتجيء،
يمينا ويسارا في لقطات طويلة مرهقة طوال الوقت، تسرع ثم تبطيء،
وتنحرف أحيانا وتعلو
ثم تهبط، بل إنها أيضا تنتقل بين شخصين يتحاوران عن طريق الحركة الأفقية
المرهقة
للعين (بان pan)
التي لا تتوقف.
أفكار مشتتة
من الواضح أن هناك أفكارا أدبية قد تكون لها
جاذبيتها "النظرية" تغوي مؤلف العمل ومخرجه، لكنها في الحقيقة،
تظل أفكارا شبحية
غير واضحة المعالم في ذهنه تماما، مما يجعله يفشل في تجسيدها بطريقة تمكن
المشاهد
من لملمة أطرافها، والإحاطة بالإشارات التي قد تكون كامنة تحت جلد لقطاتها.
هناك
مثلا فكرة المرأة (نورا) التي تعاشر رجلين في ليلة واحدة، مرة عن طريق
الاغتصاب،
والثانية بعد أن تتزوج فؤاد. وهل يمكن أن ينتج عن تلك العلاقة نبتة
"مشتركة"
مثلا!
في الجزء الثالث من الفيلم (2001)، يلتقي حسن بالشاب "علي" ابن"
نادية،
ابنة نورا التي تكون قد توفيت من زمن كما توفيت نادية أيضا. ويمتليء الفيلم
بشتى
التلحميات التي تدور حول فكرة أن "علي" ليس سوى حفيد حسن، لكن حسن يتشكك
قليلا في
الأمر، فبينما يجد تشابها في الميول والسلوكيات والرغبات بينهما، إلا أنه
يجد أن
أنف "علي" لا تشبه أنفه بل تشبه أنف فؤاد زوج نورا جدة علي وحبيبته التي
اغتصبها في
أول لقاء بينهما. فهل يمكن أن يكون"علي" نبتة مشتركة من صلب رجلين عاشرا
المرأة
نفسها في ليلة واحدة!
مثل هذه الأفكار على سذاجتها الشديدة، ترغم المتفرج على أن
يجهد نفسه من أجل فهمها، تماما كما أجهد الكثيرون أنفسهم لمعرفة هل يقصد
أحمد ماهر
باغتصاب نورا الإشارة بالرمز إلى اغتصاب فلسطين في 1948؟ وهو
تفسير مستبعد تماما
لأن المغتصب مصري وليس صهيونيا، ولكن من ناحية أخرى، هل يغتصب المصريون
عادة
الفتيات اللاتي يرغبن في الزواج منهن في أول لقاء لأنهم يريدون إثبات
"رجولتهم
وإقدامهم"!
الجزء الأول يدور على سطح السفينة، ويتميز بعنصرين: الديكورات
الهائلة الجذابة التي تعكس طابع الفترة (والفضل يعود لمهندس الديكور الكبير
أنسى
أبو سيف الذي يظل بإنجازه البارز القيمة الأكبر في هذا
الفيلم)، والإضاءة التي تجعل
الصورة في حد ذاتها شديدة الجاذبية والجمال لولا الأداء التمثيلي الضعيف
الذي يفسد
الصورة، وحركات الكاميرا المشتتة للذهن والتي لا تضيف شيئا بل تعكس نوعا من
المراهقة البصرية، والحوارات المسرحية الطويلة التي تشيع في
الفيلم كله، وتأتي
أحيانا أيضا في صورة مونولوجات طويلة مرهقة على لسان عمرالشريف (الذي إما
يروي
لغيره من الشخصيات عما كان في الماضي، أو يروي لنا كمشاهدين من خارج الصورة).
ثرثرة بصرية
أما الجزء الثاني من الفيلم (1973) فيمتلىء
بالمشاهد الطويلة التي تعاني من الترهل والثرثرة البصرية
والكلامية معا، ويهبط فيه
الإيقاع كثيرا، ويتجه الفيلم إلى أن يصبح بالفعل مجموعة من "الاسكتشات"
المفككة
التي يفشل المتفرج في العثور على أي علاقة فيما بينها، أو دلالة بين
سطورها، بل
إنها أحيانا ما تنتهي فجأة كما بدأت، دون أي إشباع أو مغزى خفي.
نحن نعرف هنا أن
نورا التي توفيت، أنجبت ولدا هو "علي" الذي مات غرقا، كما أنجبت فتاة هي
"نادية".
ويشك حسن في أن نادية لابد أن تكون ابنته، بل ويقبل بهذه الحقيقة عندما
يأتي إليه
صديق علي الذي يدعى "جابر" ويطلب يدها منه. لكنه يأتي أيضا لكي يقيم سرادق
عزاء
لعلي على شاطيء البحر في الاسكندرية.
أما "جابر" فهو شاب ضخم الجثة أقرب إلى
البلاهة، يتناقض مظهره وسلوكه تماما مع مظهر الحسناء "نادية". لكن "حسن" لا
يمانع
مع ذلك، من تزويجها له، لماذا؟ لا نعرف. ربما فقط لأنه لا يرغب في تزويجها
لذلك
الشاب "المحزق" الذي يركب الدراجة البخارية!
وتتكرر كلمة "محزق، ملزق" عدة مرات
في الحوار على لسان حسن كما لو كانت مادة للاضحاك.
إنها فكرة "الحسناء والوحش"
المتكررة التي يريد أن يوحي لنا بها، ولكن ما علاقتها بالموضوع كله، هل هي
مثلا
تجسد للميل إلى القبح لدى حسن؟ وما تفسير ذلك الميل؟ هل هو الشر الذي يلحق
بالشخصية
والتدهور المرتبط بفقدان القيم، ومن أين يأتي هذا الفقدان إلا في إطار
تاريخ له
معالم محددة وليس من المطلق!
يذهب جابر لكي يطلب من العمال الذين يعدون سرادق
العزاء أن يحولونه إلى سرادق للزفاف، ثم يأتي الشيخ الذي سيعقد القران لكي
يلتقي
بالشيخ الضرير الذي كان يقرأ القرآن في سرادق العزاء الذي لم
يحضره أحد، وتختلط
الأجواء، ويتحول المآتم إلى فرح، ويتوقف القرآن، وتدور الموسيقى الراقصة،
وينهض
الشيخان للاندماج في الرقص مع الآخرين.
وفي مشهد آخر يذهب حسن مع نادية إلى
المشرحة حيث توجد جثة علي، لكن حسن يقرر فجأة ألا يدخل مع
نادية بل يقول لها "روحي
انت احجزي لنا كرسيين جنب المشرحة علشان نشوف كويس" فهل لهذا الحوار السخيف
الذي
يجري عن الموت والميت، أي علاقة بتقاليد الموت لدى المصريين، بل وهل هناك
أدنى
علاقة له بتقاليد السخرية والضحك عند المصريين أو غير
المصريين، خاصة عندما يكون
الميت هو ابن المتكلم!
وما معنى أن يصر الشاب المتخلف "جابر" على إعداد حاشية
للفراش شرطا لزواجه من نادية الجميلة فيشترون له القطن الذي ستصنع منه
الحاشية، ثم
تشتعل النيران فيه على شاطيء البحر ويتطاير وسط الدخان الأسود.
ما الذي يقصده
أحمد ماهر من هذا الخليط المشوه كله!
إنه لا يتحدث عن شيء يمكن للمتفرج على أي
مستوى، أن يتماثل معه أو يندمج أو يثور أو يغضب أو يقترب أو
يبتعد، بل إننا لا
نستطيع أن نعثر على سمة إنسانية مميزة في أي شخصية من تلك الشخصيات التي
تتحرك في
الفراغ.
هل يمكن أن تكمن مفردات الشعر في مشاهد تمتليء بالثرثرة والحوار
السخيف
العقيم الذي يفتقد للحس والحرارة والصدق، والحركات البلهاء، والتباهي
بالتفاهات
التي لا تعمق أي بعد في الشخصية الرئيسية ولا تقدم شيئا عن ثقافتها
وخبراتها
الحياتية المكتسبة من تجاربها المفترضة كـ"مسافر".
متاهات أخرى
في الجزء الثالث من الفيلم (القاهرة 2001)
يلتقي حسن مع حفيده علي (ابن نادية) ذي الأنف الغريب. ويدخلنا الفيلم في
متاهات لا
معنى لها، تدور حول طبيبة تريد أن تجري عملية جراحية لتعديل أنف علي في
اطار دراسة
طبية تأمل الحصول من وراءها على الماجستير أو شيء من هذا القبيل. وبعد أن
يدخل علي
المستشفى، يصر جده حسن على إخراجه منها بملابس المرضى، بينما ينهمر المطر
في ردهة
المستشفى.
أما حكايات حسن (الجد) التي يرويها لعلي (الحفيد المفترض) فلا تخرج عن
تفاهات مثيرة للسخرية مثل حديثه المتكرر عن اللعبة التي كان يلعبها مع
أصدقائه في
الطفولة، عندما كان يقف فوق جسر يعبر عليه القطار، وعندما
يقترب القطار وقبل أن
يضربه مباشرة، يقفز في النهر.
إنه مرة أخرى ذلك الولع بالحكايات المتفرقة التي
لا يتمكن المخرج من نسجها معا في سياق سينمائي يعبر عن فكرة ما يطورها عبر
مساره
الدرامي.
نعم هناك رغبة في محاكاة أفلام لسينمائيين كبار يقول أحمد ماهر إنه
تأثر بهم ويحدد منهم فيلليني، لكن الواضح أنه متأثر أكثر بأفلام مثل "حارس
النحل"
و"يوم واحد وأبدية" لأنجلوبولوس. ولكن شتان ما بين الإثنين. فعلى حين يعبر
أنجلوبولوس بصدق عن الشخصية اليونانية وعن تراث مئات السنين من التقاليد
والثقافة،
ويعبر عن حيرته هو الشخصية في مواجهة العالم، كما يعكسها على أبطال أفلامه
الذين
يبحثون عن قيمة لم يعد لها وجود، ووسط عالم لم يعد بمقدورهم التعرف عليه
بعد أن فقد
براءته، ويحاول أن يتأمل في العلاقة بين الطبيعة والإنسان، يضل
أحمد ماهر ويبدو
منقطع الصلة بالعالم الذي نشأ فيه وبالثقافة التي ينتمي إليها.
التمثيل والنهاية
إن أحمد ماهر هنا مجرد صانع "اسكتشات"
سطحية لا مضمون لها ولا مغزى، دلالاتها الشعرية غائبة، ومحتواها الدرامي
مفقود،
وشخصياتها باهتة، عديمة الملامح الإنسانية.
ولعل هذا هو سبب تلك البرودة التي
تغلف الأداء التمثيلي، فالممثلون يبدو كل منهم كما لو كان يمثل
أمام نفسه، أي بمعزل
عن الآخرين، يردد فقط كلمات حوار لا يدرك له معنى ولا يعرف له هدفا في سياق
سينمائي
تغيب معالمه.
إنه على سبيل المثال، يرصد الملامح الخارجية لانتشار أشكال التدين
في مصر في الجزء الثالث، من خلال تركيزه على انتشار الحجاب أو جنود الشرطة
وهم
يقفون في صف واحد لأداء الصلاة في الشارع، أو أصوات الآذان
التي نسمعها على شريط
الصوت في مشاهد عديدة، ولكن في سياق استشراقي استغرابي مندهش يبقى على هامش
الظاهرة.
ويبالغ ماهر أيضا كثيرا في استخدامه للموسيقى والغناء والرقص خاصة في
الجزء الأول، وتبدو مثلا أغنية "ياحسن ياخولي الجنينة" بلا نهاية بل وعالية
النغمة
كثيرا بحيث تطغى على الحوار في المشاهد الأولى من الفيلم، ثم يكررها فيما
بعد
كثيرا، ثم يستخدم الأغنية القديمة من نفس العصر "آه يازين
العابدين" كخلفية غنائية
لمشهد الاغتصاب بشكل فولكلوري خارج السياق.
وقد ساهم الإيقاع الثقيل المترهل،
ووجود الكثير من المشاهد الزائدة، والمبالغة الشديدة في تحريك
الكاميرا التي أعاقت
المتفرج عن المتابعة، في قتل أي إحساس بالفيلم على مستوى الصورة.
ويصبح السؤال
المشروع الذي يحق لكل متفرج أن يطرحه: ما علاقة هذا الفيلم في النهاية بما
يدور في
عالمنا اليوم؟ وما هو ذلك الزمن الذي يتكلم عنه أحمد ماهر كثيرا في
مقابلاته
الصحفية؟ هل هناك في وصول بطله إلى مرحلة الكهولة بعد أن مر
بالشباب أي شيء مثير
للتأمل، في حين أن بطله لا يجد ما يتفاخر به سوى أنه لم يكن يكف عن مطاردة
النساء،
والقفز من فوق الجسر من أمام القطارات؟!
في المشهد ما قبل الأخير نرى "حسن" (عمر
الشريف) وهو بعد أن أصبح كهلا، يعيد تلك الصورة البطولية للقفز من أمام
القطار في
مياه النيل التي تبتلعه ويختفي الضوء من على الشاشة، ونتصور
أننا قد وصلنا إلى
نهاية قد تعكس عجز "البطل/ اللابطل، عن التفرقة بين الواقع والخيال،
والوقوع ضحية
لأوهامه وهروبه المستمر من مواجهة الحقيقة. إلا أننا نفاجأ بأغرب وأسوأ
نهاية يمكن
أن تخطر على البال لهذا الفيلم الذي يتسم بالفراغ والعقم: في
المشهد التالي نراه
جالسا فوق مقعد على ظهر باخرة سياحية في النيل بعد أن تم إنقاذه من الغرق،
بينما
يشير طفل لأمه إليه متسائلا عما حل به، ويتطلع علي إلى الطفل في دهشة!
إن "المسافر"
تجربة يجب أن يتعلم منها كل السينمائيين العرب الابتعاد عن المحاكاة،
محاكاة سينما أخرى تنتمي لثقافة جوهرها مختلف، ويعودون إلى البحث في جذور
الثقافة
العربية، لكي يصنعوا أفلاما عما يعرفونه وعما خبروه في الحياة،
لا عن أشباح قرأوا
عنها أو شاهدوها بمعزل عن محيطها الطبيعي في أفلام الآخرين.
الجزيرة الوثائقية في
16/09/2009 |