ربما تكون المفاجأة الوحيدة الحقيقية هي خروج الفيلم الوثائقي
الأمريكي الكبير "الرأسمالية:
قصة حب" لمايكل مور من المسابقة دون أي إشارة، في حين أنه يتميز عن كل
الأفلام المتسابقة، بتماسكه الفني ووضوح هدفه، والجوانب المثيرة التي يكشف
عنها في
سياق موضوعه الذي كان كفيلا باسقاط أي فيلم، لولا لمسات مخرجه السحرية،
وأسلوبه
الذي يمزج بين التوثيق والكشف والسخرية.
ولكن من ناحية أخرى، ربما يجسد غياب
"الرأسمالية" عن قائمة الجوائز موقفا سياسيا واضحا وانحيازا محددا في
اتجاه آخر
مناهض لتوجهات مايكل مور المعروف بانتقاداته الحادة للإدارة الأمريكية
السابقة.
وربما أيضا لأنه سبق أن حصل على السعفة
الذهبية في مهرجان "كان".
غير أن هذا لا
ينفي الطابع السياسي الواضح الذي تتصف به معظم الجوائز الرئيسية التي
منحتها لجنة
تحكيم رأسها المخرج الكندي (من أصل تايواني) أنج لي.
وكانت الترشيحات قد تركزت حول عدد محدد من الأفلام
هي، بالإضافة إلى فيلم "الرأسمالية"، الفيلم الإسرائيلي "لبنان"، والفيلم
الأمريكي "الحياة
في زمن الحرب"، والفيلم الإيراني "نساء بدون رجال".
وكان هناك توقع حصول
فيلم إيطالي على إحدى الجوائز، وكانت الترشيحات تتركز حول فيلم "الحلم
الكبير"
لميشيل بلاسيدو الذي يتناول فترة نهاية الستينيات (68- 1969)، أي زمن
الاضطرابات
الطلابية اليسارية التي أحدثت شبه ثورة في المجتمع الإيطالي،
وإن تم إجهاضها في
النهاية لكي تتخذ حركة الاحتجاج أشكالا أخرى أكثر عنفا وسرية تمثلت في ظهور
جماعة "الألوية
الحمراء" المتطرفة المدانة.
وجاءت الجوائز فعلا محصورة في هذه الأفلام بشكل
أساسي، فقد حصل الفيلم الإسرائيلي "لبنان" للمخرج شموئيل ماعوز
على الجائزة الكبرى
للمهرجان (الأسد الذهبي لأحسن فيلم)، فيما تعد المرة الأولى التي يحصل فيها
فيلم
إسرائيلي على الجائزة الكبرى في أي مهرجان من المهرجانات الرئيسية في
العالم.
ويرجع السبب في تصوري، إلى أن الفيلم يأتي، ولو من النظرة الأولية
الخارجية، مناهضا للحرب والعنف، رافضا السياسيات الإسرائيلية التي تتمثل في
شن
حملات مسلحة تشمل استخدام الأسلحة المحظورة (في الفيلم الكثير
من الإشارات الواضحة
المباشرة إلى استخدام القنابل الفسفورية الحارقة المحظورة دوليا) ضد لبنان
خاصة،
كما يصور الفيلم بطريقة مؤثرة للغاية، مأزق أربعة من الشباب في أوائل
العشرينيات من
عمرهم، يجدون أنفسهم فجأة داخل دبابة، مطلوب منهم التوغل في
الأراضي اللبنانية (إبان
الغزو الإسرائيلي عام 1982) دون أي استعداد لديهم للقتال، بل ودون رغبة في
القتال.
ويصور الفيلم الذي يدور في معظمه داخل الدبابة، أو يصور ما يحدث
خارجها
من خلال منظار الرؤية الموجود بها، كيف يصاب الجنود الشباب بحالة من الهلع
وكيف
يرفضون ويتمردون، وكيف تضطرب حياتهم نتيجة لتورطهم في تلك الحرب "القذرة"
التي
تنتهك براءتهم، وتقضي على الكثير من تصوراتهم الخاصة عن الخدمة
العسكرية.
المشكلة أن هذا الفيلم يلقي باللوم في التجاوزات التي ترتكبها القوات
الاسرائيلية على القادة الميدانيين، ويبريء الجنود، كما يظهر الجنود
متعاطفين تماما
مع أسير سوري، في حين يرغب ضابط قوات الكتائب اللبنانية في
الفتك به وتعذيبه قبل
قتله، لولا أن الجنود يرفضون تسليمه له، بل ويقومون برعاية الأسير وحسن
معاملته.
ويصور الفيلم أيضا الجنود الإسرائيليين وهم يبذلون كل جهد ممكن حتى لو
خالفوا الأوامر وتسببوا في مقتل أحد زملائهم، من أجل تجنب قتل المدنيين
اللبنانيين.
وهذه الصورة "الخادعة" التي يقدمها الفيلم، تجد لها صدى لدى الجمهور
الأوروبي المناهض للحرب، والذي تعجبه "سلبية" الفيلم الخارجية المدعاة تجاه
الحرب
والقتل وسفك الدماء، ودعوته المبطنة للسلام. وهذه الرؤية "الليبرالية" التي
تتبنى
السلام لا تمانع عادة من انتقاد السياسة الإسرائيلية دون إدانتها بالكامل،
والرغبة
في إظهار جانب آخر "معتدل" داخل البنية الإسرائيلية.
ولاشك أن منح الفيلم جائزة
المهرجان الكبرى، يدعم التوجه إلى السلام، لكنه السلام عندما
يأتي من الجانب الأكثر
عنفا ووحشية في ممارساته الحقيقية على الأرض، كما لو كانت الأفلام يمكن أن
تقوض
الحقيقة!
نساء بلا
رجال..
أما الفيلم الإيراني "نساء بلا رجال" لشيرين نشأت، فهو
فيلم يتناول فترة المواجهة بين الحركة الوطنية الإيرانية، بقيادة محمد
مصدق،
والمؤامرات الخارجية الأمريكية والبريطانية بعد قيام حكومة
مصدق عام 1953 بتأميم
النفط.
غير أن الفيلم الذي يتطرق إلى الجوانب السياسية
بالتفصيل (مظاهرات الوطنيين واليسار وأنصار الشاه المخلوع قبل
أن يعود) يربط بين
هذا الخيط، وبين قصص أربع نساء، من شتى الطبقات والانتماءات) تبحثن عن
التحقق
والانعتاق، وسط مجتمع يعاني من التسلط الذكوري، ومن القمع السياسي.
ولاشك أن بالفيلم الكثير من النقاط المضيئة، ويتميز
بتصويره الأخاذ رغم أن تصويره دار في مدينة الدار البيضاء بسبب استحالة
تصويره في
طهران. لكنه أيضا يمتليء بالثقوب والثغرات الفنية والافتعال في
الأداء والبطء المخل
بالإيقاع بدرجة كبيرة خاصة في الثلث الأخير منه. لكنه حصل على الجائزة بسبب
موضوعه
المناهض للديكتاتورية والتسلط ولأنه يوجه في نهايته تحية مباشرة إلى الذين
يكافحون
ضد النظام القائم في إيران حاليا.
مطبخ الروح
أما
فوز الفيلم الألماني "مطبخ الروح" الذي أخرجه مخرج تركي يقيم ويعمل في
ألمانيا هو
فاتح أكين، فقد كان متوقعا أيضا بعد أن لفت الأنظار كونه الفيلم الكوميدي
الوحيد في
المسابقة الذي يروي في سياق موسيقي كيف يتخلى الحظ عن رجل يوناني الأصل
يمتلك مطعما
في هامبورج يطلق عليه "مطبخ الروح" على غرار "موسيقى الروح"،
ولكنه يتماسك إلى أن
ينجح في استعادة النجاح بمساعدة صديقه.
ولا يعد الفيلم أفضل أفلام المسابقة بسبب طابعه المسرحي وغلبة الحوار عليه،
وميله إلى المبالغات والصراخ والحركات المألوفة.
جائزة التمثيل النسائي للممثلة الروسية كسينيا رابوبورت عن دورها في
الفيلم
الإيطالي "الساعة المزدوجة" جاءت مفاجأة للجميع لأن أداءها خلال الفيلم لم
يخرج عن
النمط الواحد المتكرر خاصة وأنها تؤدي دور فتاة تمثل على حارس أمني في أحد
المتاحف،
دور الحبيبة، بينما هي على علاقة بلص يتزعم عصابة تقوم باصطياد الحارس
وشله، وسرقة
كل محتويات المتحف من اللوحات الثمينة.
أما الممثلة الإيطالية جاسمين ترينكا فقد حصلت على جائزة أحسن ممثلة
شابة عن
دورها في الفيلم الإيطالي "الحلم الكبير" لميشيل بلاسيدو وهو أحد الأفلام
السياسية
التي غلبت على أفلام المسابقة والمهرجان هذا العام، وقد أدت دورها ببراعة
وشجاعة
كبيرتين، ونجحت في الانتقال في المشاعر، من السذاجة والبراءة إلى السيطرة
على
المشاعر، والاندماج في الحركة الطلابية.
زمن الحرب...
وحصل الممثل البريطاني كولن فيرث على جائزة أحسن ممثل عن دوره في فيلم
"رجل
أعزب" الأمريكي الذي لاقى استحسان الكثير من النقاد. ويروي الفيلم قصة رجل
مثلي
الجنس في أوائل الستينيات، توفي صديقه، وفقد هو كل رغبة في الحياة وقرر
الانتحار
إلا أنه يقرر في الوقت نفسه أن يختم الحياة عن طريق الإغراق في الاستمتاع
بمباهجها.
أما الفيلم الأمريكي
"الحياة في زمن الحرب"
لتود سولوندز فقد
حصل على جائزة السيناريو، علما بأنه معد عن أصل أدبي. وهو يدور حول فكرة
الغفران
مقابل النسيان دون غفران، وأيهما أفضل، وهل من الممكن أن ينسى المرء دون أن
يغفر
لأن في هذا حلا أفضل بالنسبة لكل الأطراف، أم يغفر (ذلك الغفران المسيحي
الموصى
عليه في الكتاب المقدس) دون أن ينسى، وما فائدة الغفران في مثل
هذه الحالة إذن إذا
كنا سنظل نحمل في داخلنا ضد هذا أو ذاك أي دون أن ننسى ونسامح.
وفي الفيلم علاقات متدهورة بين ثنائيات، وعلاقات أخرى تنشأ على أمل
إصلاح ما فسد
في الماضي، لكنها مهددة بشبح الماضي نفسه.
وهناك شخصيات غير سوية في معظمها،
منها من يعاني من الميل إلى الجنسية المثلية، ومنها من سبقت
إدانته بالاعتداء على
الأطفال، ومنها من فشلت في العثور على السعادة مع زوجها الذي أنجبت منه
لكنها وجدت
أنه لم يكن "رجلا بما فيه الكفاية" وتتخيل الآن أنها عثرت على الرجل الذي
يثير كل
مشاعرها بلمسة واحدة منه.
هذا الموضوع "الأدبي" يعالجه سولوندز من خلال الحوارات
الطويلة الساخرة، والمشاهد المسرحية التي تعتمد أساسا على الأداء، إلا أنه
يمزج
فيما بينها، ويجعل شخصياتها تتداخل وتتقاطع.
وتنبع الكوميديا في الفيلم من خلال
الحوار الطريف والتعليقات الساخرة، ويميل الأداء التمثيلي إلى
الأداء المسرحي
باستثناء أداء بول روبنز.
وكما كان متوقعا، خرج الفيلم المصري "المسافر" من
المسابقة دون أي جائزة. ورغم "شكله الفني" المختلف كثيرا عما هو سائد في
السينما
المصرية إلا أنه لم ينجح في ترك بصمة متميزة لدى جمهور المهرجان، والأسباب
نرصدها
تفصيلا في مقال قادم.
الجزيرة الوثائقية في
14/09/2009 |