جندي
فرنسي يصوب البارودة نحو سيدة، نصف مكشوفة الرأس، تتقلد بصليب واضح، وذلك
ليمنعها من متابعة مسيرها، السيدة لا تعطي بالاً للجندي وبارودته، وتتبع
مسيرها وهي تصرخ: “لو ابنك ابن اصل تقوس.. ولك انا أم جوزيف، أم جوزيييف”.
تقول الفنان السورية منى واصف جملتها وتتابع مسيرها، في احد مشاهد مسلسل
“باب الحارة” حيث تؤدي فيه دور سيدة شامية تعمل على نقل الرسائل بين اطراف
الحارات الشامية المحاصرة، اثناء ثورتها على وجود الاستعمار الفرنسي في
البلاد.
المقاصد
الدرامية فجة، في ذلك المشهد من المسلسل ـ الاكثر شعبية في العالم العربي ـ
والذي ربما يكون صالحا كدرس في التربية الوطنية، لطلاب المرحلة الابتدائية،
فسيدة دمشقية، يبالغ جدا في التركيز على انتمائها الديني المذهبي، تنقل
الرسائل بين الحارات الشامية، ولا يملك احد من ابناء تلك الحارات اية مشكلة
مع انتمائها الطائفي الديني، فهذه الشام ـ حسب هذه الرؤية الدرامية ـ لم
يكن بها يوما ما، صراع طائفي، وكانت الطوائف والاديان بها دوما، جنبا الى
جنب بثبات ونبات، يحب احدهم جاره من الطائفة الاخرى، كما يحب ابن طائفته
ودينه، وهي رؤية ازدواجية ومفترية، لا تتوقف ـ بل لا تريد ان ترى ـ سبب هذا
التقسيم الطائفي الديني الفج الذي انقسمت عليه الحارات الدمشقية القديمة،
حيث ثمة حارات للمسحيين واليهود وحارات للشعية وحارات السنة واخرى للاكراد.
وما يمكن ان يستدل عليه من ريبة تاريخية متبادلة، تكشفها سوسيولوجية التوزع
الديمغرافي تلك، كاحدى الدلالات على تلك الريبة، لا وحيدتها. ولا ترى ما
جرى بين عام 1860، عام الحرب الاهلية الشنيعة في دمشق ـ حيث هجم شكان حي
الميدان بطريقة بشعة على سكان حي بابا تومت المسيحي ـ وبين عام 2009، حيث
صدر مشروع قانون جديد للاحوال الشخصية في سوريا، يعتبر المسيحيين السوريين
ذميين لا مواطنين، وشهادة اثنين منهم، بشهادة مواطن مسلم واحد.. الخ. ام ان
الحقائق لا تناسب رهافة ما يجب ان تكون عليه وحدتنا الوطنية، فتاريخنا ايضا
يجب ان يناسب حاجاتنا وضروراتنا، كما دوما يجب ان تكون كذلك ديمقرايتنا
المفترضة من قبل دولنا!.
لكن ايضا، ثمة اختراق ثقافي اكثر صلافة من نظيره السياسي. فام جوزيف
امرأة دمشقية واحدة، نصف سافرة الشعر، وتدخن في الشارع، وتمشي بطريقة يا
جبل ما بيهزك ريح، بين العشرات من الجنود الفرنسيين يا سلام ـ وتتحداهم
حين لا يسمحون لها بالمرور، بل وتصرخ في وجوههم شتما وتقديحا وهي تقوم
بمهمات سياسية وعسكرية وطبعا هي واحدة من العشرات من نساء الحي اللواتي
يشاركن ذويهن في المعارك والحراسة.. الخ فعالم النساء الدمشقيات حسب تلك
الرؤية كان عالم التحرر الكامل لواقع المرأة عالم المرأة ذات الدور الكامل
في الحياة الاجتماعية والسياسية للبلاد، فلم يكن في دمشق حريم، بل سيدان
تحدين الجنود الفرنسيين ولم يكن في دمشق الثلاثينات قمع للحريات العامة، بل
تسير النساء سافات مدخنات ولم يكن في دمشق ذكورة متسلطة بل نساء يناضلت
جنبا الى جنب مع الرجال مع ان تلك كلها افتراضات واوهام تناسب فقط، رهافة
ما يجب ان نكون عليه، ولا تناسب عقل كل قارى لسيرة زوجة الزعيم السوري
الليبرالي احمد الشهبندر كاول امراة سورية خلعن الحجاب ومرارة ما كانت
تعانيه من سلبية اجتماعية جراء ذلك الاختيار. بل وايضا هي اوهام لا تناسب
اتساقا اجتماعيا وثقافيا في دولة، ما زالت تعطي تخفيضات قانونية بالغة في
جرائم الشرف، ولا تعترف باحقية المرأة في اختيار شريك حياتها ولا بشهادتها
الكاملة ولا بولايتها على بنيها.. الخ فاي بيئة ثقافية كانــــت قبل ثلاثة
ارباع قرن تلك التــــي ما زالت حتى الان بهذه الحال؟
لك يبقى في قمة هرم تلك الافتراءات الشكل الذي تم به تصوير حالة اهل
حارة اثناء فترة حصارها ولا يعرف بكل حال في تاريخ الاستعمار الفرنسي اية
حارة دمشقية تمت محاصرتها لشهور جراء افعالها المقاومة؟! افتراء اخر فكان
سكان الحارة في رباطك كوقفة رجل واحد في وجه المعتدي يتركون اعمالهم
واشغالهم ويتدافون حرصا على ادوار الحراسة والقتال ويقفون بانتظامن امام
الفرن لاستلام الكميات القليلة من الخبز الذي بقي في الفرن حيث كانت
الحارات القريبة قد زودتهم بما بقي لديها من طحين وحين ينفذ الخبز من الفرن
يوزع من حصل على كميات كبيرة منه، على من لم يستلمها بعد. وفي المعارك
يستبسل الجميع، ويتدافعون لنيل الشهادة بشجاعة بالغة والجنود الفرنسيون
خائفون مرعوبون في كل حال.. الخ من مشاهد رؤية غارقة في الرومانسية
المتصورة حسب مزاجها للشكل الذي يجب ان تكون عليه المجتمعات، لا لحقيقتها
وهي وقائع لا تناسب اولا طبيعة المجتمع البشري ايا كان قبل ان نقول انها لا
تناسب البتة طبيعة مجتمعنا التي لم نسمع انها اجتمعت ولم تعجز حتى عن تغيير
رئيس بلدية فاسد وافاق ومخادع واحد من بين الالاف الذين ينتشرون على هذه
الشاكلة في ربوعنا ام هي الخدمة لرهافة ما يجب ان نكون عليه.
هذا مشهد واحد وبه كل تلك المخاتلات لكن هل هذا يعني ان تاريخنا
وحاضرا بعكس تلك التخيلات تماما؟ وهل يجب ان تقول الدراما بالضرورة حقائق
ما هي عليه مجتمعاتنا؟.
ربما لا بالضرورة ربما نقف في الوسط او اقرب الى عكس ما يعرض وربما
ليس للدرما ان تقول كل حقيقة والمعاش لكن ايضا ليس لها ان تجهد لاخفائه حيث
بالعموم ثمة آلة ثقافية مالية وسياسية وفكرية متكاملة تميل الى ان تكون
افترائية في خياراتها الثقافية الفكرية غايتها اخفاء مسؤوليتها التاريخية
في فضح نتانة المعاش في المستويات كلها، وهو اخفاء يخفض عتبة المشاركة من
قبل تلك النخبة المشاركة في هذه الصناعة الضخمة والمدعية دوما لنخبويتها من
فنانين ومخرجين وكتاب الخ. كما ان تلكم الالة تميل لان تكون تخديرية في
خياراتها السياسية.فالتحريض الذهني الايجابي للمجتمعات بغية التفكير
بمعضلات ما تعيشه يبدو اخر ما يمكن ان تفكر به، والحفاظ على الاستقرار
يبقى لها دوما هدفا اولا الافتراء المقصود على ذاكرة ومعاش المواطن العربي،
من خلال ما يعرؤض على الشاشة العربية حيث التسلط التاريخي واحتكار تصوير
المعاش.
الإتحاد العراقية في
13/09/2009 |